مراجعة رواية “بدم بارد”

بطاقة فنية عن الرواية:

عنوان الرواية: بدم بارد
الكاتب: ترومان كابوتي
المترجم: أحمد العلي
دار نشر: روايات
الجوائز: إدغار لأفضل كتاب جريمة واقعي سنة 1967م

من هو كابوتي؟

ولد في 30 سبتمبر من عام 1924، مدينة نيو أورلينز بولاية لويزيانا، والده أرشلوس برسون ووالدته ليلي مي فولك. في 1931، وبعد انفصال والديه، تزوجت والدته من رجل الأعمال جو كابوتي وهكذا انتقل ترومان للعيش مع والدته وزوجها وأخذ لقب زوج أمه.
ما ميّز فترة الطفولة والمراهقة لكابوتي هو هوسه بالكتابة، فقد كان قاصًّا بارعاً منذ الطفولة، درس حتى سن السابعة عشرة، بعدها توقف وبدأ مشواره العملي إيماناً منه أن التعليم لن يساهم في أي تطور لحياته، والتحق بصحيفة “النيو يوركر”.
سنة 1945، وقّع عقدًا مع دار نشر، بعدها بدأ بكتابة القصص، الروايات، سير ذاتية، كما عمل على مسرحيات، وحتى سيناريوهات الأفلام، وأخذت شهرته تزداد حتى أصبح اسما بارزًا في الأدب الأمريكي، تعد روايته “بدم بارد” أشهر أعماله.

كابوتي وبداية نوع جديد من الروايات التوثيقية:

عام 1959، قرأ كابوتي خبراً صحافيا يُعلن عن جريمة قتل عائلة من المزارعين في بلدة -هولكومب- تحديدًا جريمة عائلة “كلاتر“. هذه الجريمة المفجعة كانت بداية لمرحلة مهمة في تاريخ كابوتي وبداية لنوع جديد من الأدب الواقعي التوثيقي (توثيق لوقائع حدثت بالفعل بطريقة سردية يحلل فيها الكاتب طبيعة الأحداث، ظروف الأشخاص وبنيتهم الاجتماعية النفسية)، هكذا نجح كابوتي في جعل القارئ يعيش أجواء ما حدث مرة أخرى، ربما هي فرصة لنحكم مجدداً على الجُناة.

أيّها الناس، أيها الاخوة الذين يعيشون بعدنا، لا تجعلوا قلوبكم جد قاسية علينا، فإنكم إن منحتمونا نحن المساكين بعض حسراتكم، فإن الله سرعان ما يأخذ عنكم هذه الحسرات. نحن هنا خمسة أو ستة معلقون، كما ترون، وهنا اللحم، الذي كان كله حسن الغذاء، مأكولاً متعفناً قطعته بعد، مقطعاً ممزقاً، ونحن العظام نصير مع الجمع إلى تراب ورماد، لا تدَعوا أحداً يضحك علينا نحن الأشقياء، بل ادعوا إلى الله أن يغفر لنا جميعاً. لقد غمرنا المطر وغسلنا نحن الخمسة جميعاً، وجففتنا الشمس وأحرقتنا، نعم، هلكنا، فالغربان والجوارح بمناقيرها التي تشوه وتمزق، قد سلمت أعيننا، وانتزعت لحانا وحواجبنا أجراً لها، لن نكون أحراراً أبداً، ولا مرة واحدة، لنستريح، وإنما تتعجلنا هنا وهناك وتستاقنا بإرادتها الغشوم الرياح المتقلبة، وتنقرنا الطيور أكثر مما تنقر الفاكهة على أسوار البساتين، أيها الناس، أقسم عليكم بحب الله، ألا تدعوا كلمة سخر تقال هنا، ولكن ادعوا الله أن يغفر لنا جميعاً.

أغنية المشنوقين، فرانسوا فيون، من يوم عادي إلى يوم دموي.

كيف يتحول يوم عادي لعائلة لطيفة في قرية مسالمة إلى يوم دموي؟

هولكومب القرية الهادئة ليلة 15 نوفمبر 1959. كانت عائلة كلاتر: هربرت كلاتر -وهو مزارع ثري- وزوجته بوني، وأبنائهما: نانسي، وكينيون في المنزل، كانت سهرة عائلية عادية، ساعات بعدها يُقتل الأربعة بأعيرة نارية، بعد أن تم تقييدهم وتلثيمهم. لا آثار للمقاومة ولم يُسرق شيء، السيد كلاتر لم تكن له عداوات؛ و هذا ما جعل أسباب ارتكاب الجريمة وقتل العائلة، وعدم ترك أي شاهد حيّ ترهق عقل المحققين. حتى كابوتي الذي انتقل إلي القرية ليقف على مجريات الأحداث، لماذا قُتلوا هل يمكن أن يبلغ الشر هذا الحدّ، وأن تكون جريمة قتل لمجرد القتل بدون دافع حقيقي؟

بيري وديك في القسم الثاني من الرواية:

يعرفنا كابوتي على ثنائي غريب في حالة هرب إلي المكسيك، بيري وديك كانا الجناة، لكن لماذا؟ لقد كانا في فترة الإفراج المشروط بعد اقترافهما لعدة جرائم سرقة، لكن ما من خلفية عدوانية تجعلنا نفكر فيهما كقاتلين، ليبدا كابوتي بالغوص في تفاصيل طفولتهما.
البداية مع بيري طفولة مهشمة بين انفصال الأبوين، العنف الأسري، الانتقال إلي الملجأ، والمعاملة السيئة، انفصاله عن أخوته. هذا التشتت العائلي صنع بيري.

بعد سنوات يقرر أن يعود لوالده، ربما ليحظى بحياة هادئة، وفرصة ليكون مع والده، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته. لقد كانا مشردين ينتقلان من مكان إلى آخر؛ بحثاً عن فرص عمل، إنها امريكا وقت الكساد!

علاقة بيري مع والده بدت غير واضحة المعالم، كان يحبه ويمقته يريد أن يكون بجانبه لكنه سئم من فكرة التشرد، دام مكوثهما معاً لسنوات، لينفصلا بعدها. عاد بيري أملاً في تحقيق بداية جديدة، لقد عملا على مشروع بدا لهما مربحاً لينتهي كل شيء بينهما بفشله، وهكذا واصل بيري حياته وحيداً، مشتتاً، مفلِساً، ولم يكفِ هذا لقد وقع له حادث شوّه قدميه للأبد.

هذه السلسلة من الأحداث التي وقعت لبيري تجعلنا نفهم خلفيته النفسية، كان بيري شخصاً لطيفاً لكنه محطم يريد المال لبداية جديدة في المكسيك.

على عكس بيري عاش ديك طفولة عادية في عائلة عادية، لم يكونوا أغنياء ولا فقراء، يقول ديك: “كنا عائلة نملك منزل لدينا طعام، والدي لديه عمل منتظم، وأمي سيدة طيبة.” هكذا كان وصفه، لكن ديك انغمس في الكثير من المشاكل، خاصة بعد زواجه وانفصاله، لقد أصبح محتالاً بارعاً يدخل المحلات يختلق قصصاً، يشتري أشياء ويدفع شيكات بدون رصيد ويلوذ بالفرار.

هكذا كانت حياته تعتمد على النصب والسرقة، وقد التقيا في السجن، ديك المحتال المتباهي جعل بيري ينبهر به لدرجة أنه اختلق حدثاً غير حقيقي فقط ليثبت له قدرته على القتل. هنا كانت البداية لقد وجد ديك شريك قتلٍ بالفعل، قاتل بدون سبب واضح فقط لأنه أراد فعل ذلك.

هنا بدأت الخطة تتبلور في ذهن ديك، لقد عرف أن هناك منزلاً لرجل ثريّ، وفيه خزنة. كان يحلم بالكثير من المال، ببساطة قال لبيري: نسرق الخزنة، ولن نترك شاهدًا واحداً حيّاً. وافق بيري وكانت المكسيك، وأحلامه عن سفن غارقة وكنوز هناك تناديه، أحلام خلقها والده فيما مضى.

خمسون دولاراً؟!

تبدأ التحقيات في الوصول لنتائج بعد تسرب معلومات عن اسم القاتل، وتبدأ خطوط الجريمة في الاتضاح تدريجيًا، وإلقاء القبض عليهما كان مسألة وقت.

لم تدم رحلة المكسيك كثيراً، لقد أفلس الاثنان وأصبح الجوع ينخرهما؛ فعادا إلى مقر سكناهما؛ ببساطة لأن ديك كان واثقاً أنه ما من شهود، ولم يترك أثراً واحداً يدل عليهما، عكس بيري الذي كان مؤمناً من البداية أنهما لن يفلتا بفعلتهما، كان يرافقه ذلك الإحساس منذ هروبهما إلى المكسيك.

“سيمسكون بنا” هكذا كان يقول ل(ديك) الذي بدأ يفقد صبره ورغب فعلا بإنهاء حياة بيري. بعد ساعات من عودتهما ألقي القبض عليهما، ووجد سلاح الجريمة، وكل ما يدينهما, لكن بقي السؤال: من قاتل عائلة كلاتر، بيري أم ديك؟!

يعود بنا الكاتب ليوم الجريمة، ويصف لنا تفاصيلها كما قصّها بيري، كل هذه التفاصيل كانت لأن الكاتب أحب بيري وأشفق عليه. لقد عيّن له محامياً للدفاع عنه ولبّى كل طلباته.

التقى الكاتب مع بيري الذي قصّ عليه كل تفاصيل حياته من طفولته حتى يوم الجريمة، وكان الدافع هو سرقة الخزنة، لكن الجميع كان يعلم في القرية ان السيد كلاتر يخاف من السرقة ولا يترك أي أموال في منزله، لكن ديك أخطأ في مصادره، أما بيري فقد كان لطيفًا مع الضحايا فوعدهم بعدم إيذائهم، وأنهما سيأخذان الأموال ويرحلان!

دخل ديك وبيري في حالة من الصدمة حين لم يجدا شيئاً، وبدأ الشريكان في النقاش حول ما سيفعلان وبدأ الصدام في لحظة خاطفة بإطلاق بيري النار على كل عائلة كلاتر، ويرحل الاثنان بعد نجاحهما في الحصول على خمسين دولاراً!

المشنوقين:

الأغنياء لا يُشنقون أبداً، فقط الفقراء ومن لا أصدقاء لهم.

لقد قام الكاتب بدفع القارئ في قلب قصة عن عبثية الحياة، أحداث بسيطة تغير مجريات الأحداث، طفولة وأحلام مشوهة، رسمت مسار الشخصيات ودفعت بهم إلى حبل المشنقة.

يجعلنا الكاتب نفكر أن ماحدث مع بيري وديك من الممكن أن يحدث مع اي شخص مهمش، منبوذ، مفلس. كل الامور التي تدفعنا إلى البحث عن بدايات جديدة. هنا كانت الجريمة هي البداية الجديدة لكليهما لكن لم تكن هناك خزنة، لقد قتلا أربعة أشخاص من أجل خمسين دولاراً، هذه الفكرة تجعلنا نقف مطوّلاً حول مفهومنا للفشل، لقد انهار كل شيء من حولهما، وهذا الانهيار حوّل المشهد إلى مجزرة.

مع كل هذا نجح الكاتب في كسب تعاطفنا خاصة مع بيري لقد كان شخصًا لطيفاً، وكان يقول عنه: “النهاية هي الشنق”.

وقد كان الكاتب حاضرًا وشاهد صديقه بيري يُشنق، بيري الذي يُكرر أسفه قائلاً: لقد حدث كلّ شيء بسرعة، لم أقصد قتلهم!

تدقيق لغوي: آية الشاعر

كاتب

الصورة الافتراضية
Asma Abadlia
المقالات: 0