عند النّظر في كتابات جورج أليوت يصبح من الجلي أنّ أليوت كانت توظّف الأساليب العلميّة والتّحليل الدّقيق لكي تدرس الظّواهر الأخلاقيّة والطبيّة والاجتماعيّة. فأليوت تستخدم العلم كنوع من أنواع الواقعيّة، فقد استطاعت رسم صورة واقعيّة عن العالم والأشخاص الذين يعيشون فيه عن طريق قيامها بتبني النّظريات والمناهج العلميّة في كتاباتها.
المنهج العلميّ
أحد الأمثلة على هذا التّوحد بين المنهجيّة والسّرد يوجد في رواية ميدلمارج (تعتبر هذه الرّواية أهم أعمال أليوت) حينما تتّم الإشارة إلى المنهج العلمي بشكل مباشر عن طريق وصف الرّاوية لطموح د. ليدغيت الطبي: ” وقد كان عاشقاً لطريق الابتكار الشّاق والذي يعتبر قلب البحث العلمي”. فدوافع ليدغيت تتوافق مع الطّموحات المحرّكة للتّجارب العلميّة والبحث.
لقد ادّعت جورج أليوت في رسالة إلى جورزيف فرانك في 25 من يونيو 1876 أن كتاباتها كانت: ” ببساطة ليست إلاّ سلسلة من التّجارب في الحياة”. وأنّ وصف أليوت لعملها كتجارب يوضح وعيها بالمصطلحات العلميّة، ويشير إلى أنّ عمليّات الملاحظة والتّحليل والدّقة العلمية تشكل حجر الأساس لأعمالها الأدبية. فهذه المنهجيّة المتّبعة من قبل أليوت، استطاعت توحيد المنهج العلميّ للعصر الفيكتوري وأعمالها الواقعيّة في كيان واحد.
في مقالتها “روايات سخيفة بأقلام نسائية “المنشورة سنة1856، تقوم أليوت بمهاجمة انتشار المواضيع الرومانسيّة والعاطفيّة على الرّوايات المكتوبة بأقلام نسائيّة في القرن التّاسع عشر. وهي تستخدم التشبيهات العلميّة من جديد لكي تعرف وتميز الكتابة الجيّدة:
مثل أحجار البلّور فهي تبقى جميلة مهما تغيّر شكلها؛ فكل ما علينا فعله هو أن نظيف العناصر الصحيحة: الملاحظة الصادقة، الفكاهة، والشغف.
فوفقاً لأليوت، فإنّ الواقعيّة الأدبيّة تُحقق عن طريق الملاحظة الجادّة؛ وهي طريقة تحاكي المنهجيّة العلميّة.
فراسة الدّماغ
لقد كانت جورج أليوت محاطة بالعلم خلال معظم حياتها كراشدة. لقد كانت مهتمة كثيراً بممارسة فراسة الدّماغ، وقد ذهبت إلى لندن في صيف 1844 لكي يتّم صب رأسها من قبل عالم الفراسة الشهير جيمس ديفيل. لقد اعتقد علماء الفراسة أنّ كل منطقة من مناطق الدّماغ مسؤولة عن جانب من جوانب الشخصيّة، وأن شخصيّة الفرد يمكن تحديدها عن طريق حجم وشكل الجمجمة.
لقد كان كتاب جورج كومب ” دستور الإنسان” (1835) من الكتب الشهيرة والمؤثرة في علم فراسة الدّماغ وفيه أدعى كومب: “أننا كائنات مادّية، عضويّة، وروحيّة، تتصرف تحت ظل قوانين محددة.” وقد اعتنقت جورج أليوت هذه النظرية، التي عرَّفت الإنسان على أنّه جزء من استمرارية حيويّة عشرين سنة قبل نشر أصل الأنواع لداروين.
العلوم الطبيعيّة
بينما كانت أليوت تكتب ما سيكون أكثر رواياتها مبيعا،” أدم بيد“(1859)، قام شريكها جورج هنري لويس بكتابة كتابه العلميّ” علم نفس الحياة العاديّة“. فإعادة ترديد تعريف العلم الذي وضعه لويس في أوّل رواية طويلة لأليوت، يدل على استخدمها المستمر للتّشبيهات المستمدّة من العلوم الطبيعيّة. وكما يذكر الرّاوي في رواية أدم بيد:
لكنّنا اعتدنا على الحفاظ على وعينا رغم الألم سواءً أكان الألم عقلياً أو جسدياً: فلقد أصبح عادةً لنا، حتّى أصبحت الرّاحة التّامة خيالاً بعيداً عن أحلامنا. فالرّغبة مدفونة داخل الخضوع…. إنّ في هذه الأوقات التي ينمو فيها الإحساس بأنّ أرواحنا مترابطة بعلاقات مرئيّة ولامرئيّة تتعدّى مركزيّة ذواتنا الحاضرة أو المستقبلية، بشكل مشابه لنمو العضلة التي نضّطر للاتكاء والاعتماد عليها.
إنّ أليوت تستخدم الوصف الوظائفي (الفسيولوجي) للعضلات لكي ترسم صورة مادّية للعمليّة الفكريّة اللاّماديّة، وهذا ينبهنا للجانب الوظيفي(الفسيولوجي) للعمليّة الفكريّة؛ وهو المتمثل بالدماغ وأعضاء التفكير. فعلم الأحياء، الرّوح، والمجتمع كلّها مربوطة ببعضها البعض عن طريق هذا التشبيه العلمي.
ومثال آخر لاستعمال أليوت للتّشبيه العلمي القوي يجري في ميدلمارج، حين يلفت نظر دورثي نسيج أحمر معلّق في كاتدرائيّة القدّيس بيترز فأليوت ترسم الصّورة بطريقة ملفتة للنّظر، فالصّورة تجذب نظر دورثيا ثم”تنتشر كما ينتشر المرض في شبكية العين”.
الوعي والمعرفة
لقد استخدمت أليوت مفردات الوعي “consciousness” قبل أن تصبح هذه المفردات منتشرة في القرن العشرين. فروايتها القصيرة الحجاب المرفوع“(The Lifted Vail (1859” تستخدم اللّغة العلميّة للقرن التاسع عشر لكي تتعامل مع مفهومي الوعي والإدراك. فبفضل قوة لاتميير الفائقة للحواس، التي أطلقت عليها أليوت اسم” الوعي المزدوج“_يستطيع رؤية موته بالإضافة لسماع أفكار الأشخاص من حوله._ فهو يقع في مصيبة معرفة سيّئات الآخرين فقط بدل حسناتهم، والمشاكل الأخرى التي تنتج من الوعي الكامل بدواخل الآخرين.
لاتمير يصف الألم ليس في سماع أفكار الغرباء ولكن في سماع أفكار الأصدقاء والأقارب:
[…] عندما تفحص، عن طريق النّظرة الثّاقبة والدّقيقة. الأحاديث العقلانيّة، الالتفاتات العطوفة، العبارات الظريفة، والأعمال الصالحة، التي تغلف شخصياتهم، عند ذلك سوف ترى كل تفاهتهم المملّة، كل غرورهم الخفي، كل صراعاتهم الصبيانيّة الفوضويّة، الحقد، ذكريات مبهمة وغير واضحة، فكر بليد ومتقلب، وترى الكلمات والأفعال الإنسانية تخرج كما لو أنها كومة قمامة عفنة مغلّفة بلوحة جميلة.
إنّ تلاعب أليوت بالوعي في رواية الحجاب المرفوع” The Lifted Veil ” يدل على عدم خضوع شخصياتها للماديّة. فالتّعاطف هو جوهر الفعل الأخلاقي، ومعرفة لاتميير لا تجعله إلاّ متحيزاً، فبسبب معرفته الكبيرة أصبح يتقزز من الجميع ومن دون شفقة على الآخرين. فالجهل له مميزاته. كما في هذا التّعليق الشهير من رواية ميدلمارج:
لو أنّ لدينا رؤية ثاقبة وإحساسًا عميقًا بالحياة البشرية الاعتياديّة، لكان الأمر شبيهاً بسماع العشب ينمو وسماع خفقات قلب السّنجاب، ولمتنا من دوي زئير الصّمت الذي يقع في الجانب الآخر. وكما هو الحال، فأسرعنا يسير بشكل حسن وهو محمل بالغباء.
تدقيق لغوي: بوسيف ميّادة.