الشك واليقين في رواية الأرض المسطحة

لقد شغل الفن والأدب عدة وظائف عبر التاريخ، فمرة هو المؤرخ والحافظ للتراث، ومرة هو الناقد للمجتمع وأوضاعه، ومرة هو الأنيس ومصدر الملهاة والمتعة، ومرة هو الناقل لأفكار معينة.. وغيرها من الأدوار العديدة التي قد يطول تعدادها. وكثيراً ما حمل العمل الأدبي أو الفني الواحد في طياته أكثر من وظيفة واحدة سواءً أكان بتصميم من  المؤلف أم بدونه.

لقد حاول إدوين إبوت (1838-1926) المدرس، الكاتب، العالم الديني والروائي الانكليزي أن ينقد في روايته القصيرة هذه الوضع الطبقي في مجتمعه باستخدام الرياضيات والفن معاً لكي يخرج لنا هذه التحفة من الخيال العلمي. لقد استطاع إبوت نقد مجتمعه بشكل قوي وهاجم تعنّتهم بآرائهم وتعصبهم الجاهل والطبقية المقيتة التي تسيطر على جميع مفاصل المجتمع مما يمنعه من الازدهار لكبته الطاقات العظيمة فقط لأنها ولدت في الطبقة الخاطئة. 

من المؤسف أن المؤلف نفسه لم يستطع التخلص من تعصباته ونظرته الضيقة للحياة.

”لا تعجل، فالكون لا تنقضي عجائبه.“

الرواية عبارة عن مذكرات السيد مربع وهو رجل من الطبقة المتوسطة. ففي الأرض المسطحة؛ هذا العالم ثنائي الأبعاد حيث هناك فقط يمين ويسار، أمام وخلف. تعتمد مكانتك الاجتماعية على عدد أضلاعك، فكلما زاد عدد أضلاعك زادت مكانتك. لذلك على قمة الهرم يجلس الدائرة، وهو ليس دائرة تامة الاستدارة بالضبط ولكنه مكون من عدد كبير جداً من الأضلاع الصغيرة بحيث عندما نراه نظن أنه مدوّر. وهكذا فالمربع هو من الطبقة المتوسطة وتحته تقع المثلثات وهم العمال الأغبياء المكلفون بالقيام بالأعمال الثقيلة. وفي نهاية السلسلة في الأسفل هناك المرأة، فهي مثلثة أيضاً ولكنها مثلث محدب جداً حتى أنها تشبه الإبرة، ولذلك تعتبر هي أدنى المخلوقات في هذا العالم.

تبدأ القصة مع السيد مربع وهو يخبرنا من السجن كيف تحولت حياته الطبيعية إلى مغامرة علمية بين الأبعاد حين يلتقي بكيان غريب. هذا الكيان عبارة عن كرة. ولكن لكونه كائناً ثنائي الأبعاد فهو لا يستطيع النظر إلى الأعلى. لذلك كل ما يراه هو دائرة، ولكن هذه الدائرة تتسع وتضيق بشكل غريب مع تحرك الكرة. وهنا تبدأ الكرة بالشرح بأنها كيان من كون ثلاثي الأبعاد وترفعه عن كونه وبشكل إعجازي يرى السيد مربع عالمه من فوق لأول مرة لكي يكون أول كائن ثنائي الأبعاد ينظر إلى الكون من هذه الزاوية الجديدة.

يصبح السيد مربع صديقاً للكرة ويبدآن بالتنقل عبر الأبعاد. ففي البداية يذهب إلى كون ذو بعد واحد، حيث الجميع عبارة عن خطوط مختلفة الطول يسيرون إلى الأمام والخلف فقط، وبما أن هناك بعد واحد فعليهم دائما أن يسيروا جميعهم إلى الأمام أو الخلف معاً. يحاول السيد مربع وكرة أن يخبروا هؤلاء الخطوط أن هناك المزيد، أن هناك أبعاداً أخرى وأنهم يمكنهم الذهاب يميناً ويساراً، فوق وتحت. ولكن ملك الخطوط يرفض هذا الهراء فكيف يمكنه تصديق أن هناك شيء خارج تجربته وخبرته الحسية التي اكتسبها طوال حياته.

”لو كنت رجلاً منطقيا –مع أنني أرتاب بعض الشيء في كونك رجلا– لأنك تمتلك فيما يبدو صوتا واحدا، ولكن لو كانت لديك ذرة من المنطق، لاستمعت إلى صوت العقل، أنت تطلب مني أن أصدق أن هناك نوعا آخر من الحركة غير تلك التي أراها كل يوم، و أنا بدوري أطلب منك أن تصف بالكلمات أو تبين عن طريق الحركة ذلك الخط الآخر الذي تتحدث عنه، ولكنك بدلاً من أن تتحرك تمارس نوعا من الحيل السحريّة للاختفاء ومعاودة الظهور مرة أخرى، وبدلاً من أن تقدم لي صورة واضحة لعالمك الجديد، تخبرني فقط بأطوال نحو أربعين من حاشيتي، وهي حقائق يعرفها أي طفل في عاصمتنا، هل هناك ما هو أكثر جنوناً أو وقاحة من ذلك؟ اعترف بحماقتك أو ارحل عن أرضي..“

ثم يذهب الاثنان إلى كون ذو أبعاد صفرية، حيث يوجد هناك نقطة فقط وتقضي وقتها بالفخر بأنها الكيان الوحيد الموجود في هذا الوجود وأن الكون كلها يدور حولها وأنها هي مركز الكون.

بعد ذلك يعود السيد مربع لعالمه وعندما يحاول أخبار الجميع بما يعرفه، يودعونه السجن لأنه مجنون.

”إن الرضا عن الذات مرادف للانحطاط والجهل، وطموح المرء خير له من قناعة زائفة تعمي عينيه وتغُل يديه. “

يقدم لنا الكاتب في هذه  الرواية طريقة فريدة في النظر لنظرية الأبعاد المتعددة أو البعد المكاني الرابع الذي تقترحه الفيزياء الحديثة. كما أنه يلتمس من عندنا أن نعيد التفكير، ليس في وجهة نظرنا للأبعاد فقط ولكن في قيمنا ومبادئنا ذاتها.

فنحن نؤمن بما نؤمن لأننا نؤمن به ببساطة. أغلبنا يملك أجوبة جاهزة لأسئلة جاهزة ويعيش حياته وهو يرفض إخراج رأسه من الصندوق. فمتى أخر مرة حاولت أن تطير؟ حسناً، ما هذا الجنون. نحن البشر لا نطير. ولكن من قال ذلك؟ هل جربت أن تتأكد بنفسك؟ لقد قال الجميع أن الأخوين رايت مجنونين ولا يمكن اختراع أداة تسمح للبشر بالطيران ولكنهما فعلاها.

يقول ديكارت “إذا أردت أن تكون باحثًا صادقًا عن الحقيقة، فمن الضروري أن تشك ما لا يقل عن مرة واحدة في حياتك بكل الأشياء.” فعلينا ولو لمرة واحدة أن نشك وأن نتساءل، لماذا يُعد نقل اليهود لذنوبهم إلى الدجاجة شيئاً سخيفاً، بينما رميك للشيطان بالحجارة يبدوا منطقياً جداً؟ أنا لا أقول أن عقيدتك مخطئة أياً كانت ولكن هل فكرت أن تشك! وتضرب بالمنطق المتعارف عليه عرض الحائط وتكوّن منطقك الجديد. هذه مهمة صعبة جداً صدقني، فحتى مؤلف هذه الرواية فشل فيها.

فمع النساء نتحدث عن «الحب» و«الواجب» و«الصواب» و«الخطأ» و«العطف» و«الأمل» وغيرها من المفاهيم العاطفية المنافية للعقل التي لا وجود لها في الواقع، ولا تفيدنا هذه الأوهام إلا في السيطرة على العواطف الزائدة عند النساء. “

رغم أن هذه الرواية محاولة من الكاتب لدفعنا للشك إلا أنه يحاول أيضاً أن ينقل عدداً من الصور الاجتماعية لعصره وينقدها. والكثير يرون أن تصويره للمرأة بهذا الشكل كان بقصد السخرية لكي يبين كمية الظلم الذي تتعرض له المرأة في المجتمع وأن هذا التصوير كان عبارة عن صورة أخرى من صور نقده لمجتمعه المحافظ. ولكن في الواقع أن قراءة متأنية لباقي أعمال هذا الكاتب، سنجد كراهية قوية وعداءً واضحاً للنساء، وقد وضعهم في أدنى السلم الاجتماعي في هذه الرواية ليس لتبيين سوء المعاملة التي يتعرضون لها بل لأنه يؤمن أنهن أدنى الكائنات.

فهذا الكاتب ذاته الذي يدعونا إلى التفكير خارج الصندوق وبشكل مبتكر لم يستطع النظر إلى المرأة خارج النظرة السائدة في مجتمعه. فهو لم يشكك في مسلّمة أن المرأة أدنى لأنه لم يظن أنها مسألة للشك، ويا فتى! كم كان مخطئاً.

في إحدى المحاورات بين الكرة التي ترشد المربع وتنيره وتخبره عن حجم الكون وكم كان فهمه للكون قاصراً وأن عليه أن يفتح عينيه ويتقبل الحقيقة، وهذا ما يقوم به المربع. لكن المربع بعد معرفته بوجود بُعدين أسفله وبعدٍ ثالث أعلى منه حيث أتت الكرة منه يسأل الكرة: هل هناك بُعد رابع، بُعد أعلى من بُعدك؟

وهنا تجيب الكرة بغرور وثقة عمياء بأن هذا الكلام هراء محض فليس هناك أكثر من ثلاثة أبعاد في الكون وكل من يقول غير ذلك عبارة عن أحمق مجنون.

لذلك ليس هناك شيء أكثر إضحاكاً من مبشّر متعصب، من نبي أو بشر يطلب من الناس أن  يغيروا أفكارهم ويتساءلوا وهو يرفض نفس التفكير. وهذا هو وضع الكرة بالضبط وللسخرية فهذا وضعنا نحن البشر، على الأقل أغلبنا.

لذلك عزيزي القارئ، ما هي المسلمة التي تؤمن أنها غير قابلة للشك؟ أو أفضل؛ ما هي المسلمة التي لم تفكر في حياتك أنها موضع تساؤل وشك أصلا؟ وما السبب الذي يدفعك للظن بأن على الطرف الآخر إعادة التفكير في مسلماته وأنت لا؟

تدقيق لغوي: حفصة بوزكري

كاتب

الصورة الافتراضية
Sajjad Thaier
المقالات: 0

34 تعليقات

اترك رداً على نيتشه والوجودية: الجزء الثاني، الحرية والخوف. - النقطة الزرقاءإلغاء الرد