المقهى المحاذي للحي الجامعي ”المتطوع“ بالسانيا في وهران يملؤه غالباً الطلبة الجامعيون..، مساء هذا اليوم، للمرة الثانية، خلال هذا الأسبوع، ألمح ”سارة“ تتنقل بين طاولات المقهى تستجدي عطاء المحسنين، ورحمة الراحمين، لقد كان منظرا بشعاً لا يدرك حجم قبحه إلا أولئك الذين يمتلكون ضمائرا ما تزال تنبض بشيء من الحياة، أولئك الذين يؤمنون بأن هذه المظاهر، على كثرتها، تحتاج إلى الثورة عليها، وليس إلى التكيف معها والقبول بها وكأنها لا تخصنا.
سارة في الثامنة من عمرها، في السنة الثالثة ابتدائي، غضّة طرية لا تعرف من مآسي الحياة ومشاكلها غير ما يمكن أن يوحي به إليها إدراكها المحدود وعقلها الصغير.. ومع ذلك يتم التضحية بها واشراكها قصرا في معمعة الحياة الظالمة.. دون أن تعرف للطفولة معنىً.. ترى مالذي سيبقى لها من آليات الدفاع والمقاومة عندما تكبر وهي التي تتلقى الضربات الموجعة، من الآن، منذ نعومة أظافرها.
عندما وصلَت إلى طاولتنا، كان هنالك مقعد شاغر فرمت بجسدها المنهك عليه..، كان ثمة احتمال قوي بأن يكون قد أعياها تعب المشي من مكان إلى آخر، لذلك لم نطلب إليها عدم الجلوس إلينا.. وكان من الواضح كذلك أنها لم تتلق تلك التعليمة الصارمة التي يلقى بها آباء الأسر الميسورة إلى أبناءهم، وبالأخص الإناث منهم، عندما يخبرونهم باستمرار عن ضرورة عدم التحدث إلى الغرباء..
لم تكن سارة تعرف شيئا عن ذلك، لأنها نشأت وأخذت تعاليمها التربوية الأولى من حي”كيمو“ القصديري، جنوب مدينة السانيا.. حيٌ يعجّ بالبرارك، والفوضى والقاذورات وكل مظاهر الفقر والبؤس التي يمكن أن تتخيلها.. هناك يخنق الفقر بجوه الفاسد، كل مظاهر الحياة الطبيعية.. لا الصحة ولا العلم ولا الفضيلة أيضا.. الشيء الأكثر أهمية الذي يجب أن تتعلمه في حي كيمو هو ”الكفاح لأجل البقاء“.. ومن أجل ذلك تتعدد الأساليب والطرق، المشروعة وغير المشروعة، ليكون كل شيء مباح، الكذب والنفاق والتزلف.. والجريمة أيضا.. في كيمو طاق على من طاق.
لم تختر سارة المكان الذي ستولد فيه، لم تختر والديها أيضا.. ولكنها وجدت نفسها مجبرة على التسول في الشوارع، والتنقل من مقهى إلى آخر، ومن محطة إلى أخرى، في كل مرة بعد أن تنتهي من دوامها الدراسي.. هذا الواقع المؤلم والقبيح الذي تواجهه سارة سيفتح أعينها على الكثير من الأشياء، لكنه بكل تأكيد لن يعلمها شيئاً اسمه الكرامة.
أخبرتها أن هذا الذي تفعله ليس أمراً جيداً، وكنت أعرف في قرارة نفسي أنني أقدم نصيحة غير مفهومة بالشكل الكافي بالنسبة لطفلة في سنها، طلفة خرجت من “كيمو” القبيح، كررت نصيحتي لها للمرة الثانية في صيغة سؤال، لكنها لم تنبس ببنت شفة، فقط ارتسمت على شفتيها ابتسامة واثقة، وخيّل إليَّ أنها تتساءل في قرارة نفسها ساخرة: ما الذي تعرفه انت عن الحياة، ما الذي تعرفه عن الجيد والقبيح فيها؟!
هذه الممارسة شبه اليومية التي تقوم بها سارة تقتل فيها الكثير من معاني الحياة الطبيعية، معنى تقدير الذات واحترامها لنفسها، ومعنى الفردانية والحرية واحترام الآخرين لها.. وقبل كل ذلك تقتل فيها معنى أن تكون طلفة تتمتع بشئ من حقوق الطفولة شأنها شأن قريناتها في سنها، لذلك فإن كل هذه القسوة التي تعانيها وكل هذا الاستغلال سيجعل منها فتاة مشوهة، تخجل من نفسها عندما تكبر وتتمنى لو أنها لم تولد مطلقا، سيشكل الأمر بالنسبة لها عقدة شديدة الأثر.
ما يحدث لسارة هو عنف متعدد الأوجه، عنف أسرى واجتماعي، والنتائج التي يمكن أن يخلفها لاحقاً، كما يقررها علم النفس، كارثية لدرجة لا يمكن أن تتصور، إنها باختصار نتائج ساحقة، تقتل في الإنسان كل شيء إنساني، لتبقي فقط ما يتعلق بغريزة البقاء، وأحياناً حتى هذه الغريزة، وهي الأقوى في الإنسان، تفقد حضورها وقيمتها وتدفع بالمرء إلى الانتحار.
كنت قد سألت سارة، من الذي قال لها أن تفعل هذا؟ فاخبرتنا أنه والدها، والد يتمتع بكل مظاهر الصحة والعافية حسبما فهمنا، وحين سألناها: أين تركتيه؟ أخبرتنا بأنه في البيت، لقد كان في البراكة رفقة زوجته وولدهما الثاني، وأضاف صاحبي سؤالاً غير برئ: باباك يكمي؟ (يدخن) فأومت رأسها بالإيجاب، علقت قائلاً: إذا كنت تعيش في كيمو وما تكميش فلا بد أنك تشرب أو تزطل، المهم أن يكون لك عادة سيئة ما تواجه بها قبح الحياة البائسة.
سارة بالنسبة لوالد بائس وعاطل عن ممارسة الحياة بصفة طبيعية، ملكية شخصية، تم انجابها لتكون جزءاً من حياته القبيحة، وليس ثمة جريمة أسوأ من إنجاب سارة واخوها في ظل تلك الظروف.. كان من المفترض على والدها أن يتحمل مسؤولياته كاملة تجاه زوجته وتجاه ولديه.. كان بإمكانه أن لا يتزوج مطلقا، كان بإمكانه أن يؤجل الإنجاب، أو أن يتبنى فلسفة اللاإنجابية إذا شاء، دون أن يؤثر ذلك على رغبته في المتعة.. كان بإمكانه ذلك، لكنه آثر أن يرضخ لتقاليد المجتمع المتخلف وضغوطاته وينجب سارة ويرميّ بها في الشوارع باحثة عن بضعة دنانير ليشتري بها علب السجائر كل يوم.