كان يمكن أن تكون هذه المقدمة مدخلا أو بناءً كاملاً لقصة قصيرة، لرجلٍ يحمل بين يديه كتابا من كتب الأساطير القديمة، ليُسقِط عليه وهو يقرأ آخر حكاياه، حالته النفسية، فيتخيَّل أن الأحزان زرقاء، زرقة عميقة، يفكر في ما يمكن أن يشبه هذه الزرقة فيتهادى لمخياله أو لذاكرته مسودة مرمية على أرضية غرفته، ليست أرضية اليوم، بل تلك التي كانت هنا قبل سنوات، لكنه مع ذلك مازال يتذكر أول سطر، يبدو أن الأمر كان مُلحًّا حتى يعاوده اليوم، وعلى كل يُفرج عن شفتيه كأنه يحرر بذلك أخيرًا عبارة تدعي أنها كانت سجينته لسنوات، يقول: “أحزاني قطعة من سماء المغيب”. يطبق شفتيه مرة أخرى. وتزفر رئتاه من أنفه زفيرًا طويلاً.
يتحرك وسط الغرفة قليلا، ويتساءل: هل كانت هذه العبارة سجينة كل تلك الفترة تنتظر أن يقرأ أسطورة تحررها منه؟ وفكَّر أين يمكن أن يكون وجه التحرر، وهو لم يقم إلا باستصحابها لسياق حكاية بقعةٍ زرقاء؟ وبينما هو يُسائل نفسه ويحاكيها عن جدوى تتبعه سيل الأفكار الفوضوي، لمعت في ذهنه فكرة أن ذكرياتنا تتفكك في مخزنها حيث هي إلى قطعٍ صغيرة، تحاول بعد ذلك أن تتحرر من سجنها بذاكرتنا إلى العالم الخارجي لمَّا نربطها بقطع أخرى خارجًا! نحن نمنحها ميلادًا جديدًا! في حدث جديد.
يبتسم وهو يحتفي بفكرة يخيل إليه أنها جديدة عليه، قائلا أن العالم يرفض الثبات، وحتى الذكريات ترفض أن تظل قابعة دون فائدة، مستسلمة للسكون، لا بد من حركة، ولا بد من ميلادٍ جديد!
يحرك عينيه وهو مازال يحافظ على ابتسامة الانتصار، بحثا عن ذكرى أخرى مختبئة يخاطبها، حين تستقران على الكتاب الذي انطلقنا منه في فرضية مقدمة قصة قصيرة محتملة. وتعيده بذلك صفحات الكتاب لقصة البقعة الزرقاء التي تستقر بقلوب البشر، ولعبارته العائدة: “أحزاني قطعة من سماء المغيب”. والحقيقة أن قطع الذكرى قد لاتعود فقط لتشكل حاضرا جديدا، ولكنها أيضا قد تعود لتعيد صاحبنا للحظة قديمة، وربما في نهاية المطاف تحاول اللحظات هي الأخرى الحفاظ على وجودها الدائم، فتعيد بعض الذكرى الشعور القديم، يبدو أن كل ما في الوجود يخشى العدم!
يفكر أنه في تلك اللحظة التي أعادته إليها عبارته ليعيشها مرة أخرى فلا تنعدم بدورها، قد استشعر مرة أخرى برد الأرض وقت مراقبته لسماء المغيب، وعتمتها، إذن: أحزانه باردة ومعتمة.. ولكنه بردٌ يجده في قلبه، وها هنا تخيَّل أنه مسكون بهلام البقعة الزرقاء المائعة، التي لا تتشكل بشكل ولا يحدها شاطئ، ولها دوائر تدور نحو داخلها. لن يكون من الغريب أن نقول أنه قد تقدم نحو المرآة القابعة وسط غرفته لسبب ما، لأنه رجلٌ يزعم أنه يتحرَّى أصول الأشياء ويكرس حياته لملاحقتها، وهناك لن يكون من الغريب أيضا أن يرفع قميصه ويبحث في المرآة عن تلك الهيأة الهُلامية الزرقاء. ولكن الغريب سيكون عثوره عليها بالفعل!
وها هنا كان من الممكن أن تكون هذه اللحظة هي تلك اللحظة التي يدرك فيها رجل القصة القصيرة بينما الأضواء من حوله تخفت تدريجيا ولكنه مع ذلك يظل قادرًا على الرؤية ما في المرآة بوضوح، فيدرك أنه على وشك التعرف على سر حركة دوامة البقعة الزرقاء نحو الداخل، بالطبع لن تكون لحظة إدراكه لحقيقة الخرافة، ولا يفوته أن يبحث عن أصل رؤيته الواضحة وسط ظلام المكان، نقول أنه يلاحظ أن ثمة نوعا من الضوء قادم من الدوامة، ولكنه لا يمنع نفسه من فرض أن هذا الضوء منفصل عنها، وقد يكون له أصل آخر.. يعود سريعًا إلى لحظته الراهنة يتأمل حركات الدوائر التي تتجه إلى داخله.
وها هنا كان يمكن أن يكون هذا الحدث في القصة القصيرة المفترضة، الحدث المفتاح الذي يكشف سرَّ البقعة الزرقاء في كتاب الأساطير، والتي تركت مجهولة. الرجل يقف حيث انتهت الأحداث، ويمكن أن نقول أن هذا هو الجزء الأصعب، الذي عليه أن يواكب توقعاتنا المتزايدة لما ستحمله الأحداث القادمة، هل سنعرف كما سيعرف الرجل الجزءَ المفقود من كتاب الأساطير؟
والحقيقة أننا لن نشهد ذلك، في حدث استثنائي، غير معهود من تجاوز عقدة القصة والتوجه مباشرة للنهاية، ولهذا السبب تحديدًا لم تكن هذه القصة إلا قصة مفترضة. سنقف قليلا ونحن نتأمل جمود الرجل في مكانه، ولأنه على هذه الحال من الجمود فإنه يتعذر علينا سردُ ما يجري معه. يمضي زمن القصة، ولكننا لا ندركه لتوقف الرجل والأحداث، وهكذا سيبدو أنه وهلة من الزمن، إلى أن تعود الأمور للتقدم، يبدو أن الرجل في النهاية يسمح لعينيه بأن تمنحاه بعض الدموع، وقد يحمل ذلك رمزية خاصة للقصة، ينزل قميصه الذي رفعه قبل برهة، تعود إنارة الغرفة الطبيعية، ويعود أدراجه للنقطة التي كان يقف فيها وهو يحمل الكتاب، يحمله مرة أخرى ويجلس على الأرضية بينما يخرج قلما من جيب قميصه والذي لم يقع أثناء رفعه للقميص.
وهكذا يكتب الرجل: