«يبدو لي أحيانًا، أن الحرب ليست أكثر من حياة عاديّة بِوتيرة مشوّشة»*
في الحدود بين دولتين، تفصلهما أسلاك مكهربة، ويحرسها المحتلّ بعيون لا تنام، تنتقل بنا سيدة الكتابة -الرّوائية بالفرنسية- آسيا جبار، عبر خط زمانيّ متعرّج إلى حكاية الثورة الجزائرية عبر ثنائيات الهيمنة/الخضوع، المعنى/المنفى في مجتمع خمسينيات القرن الماضي.
عبر خمسمئة صفحة من السّرد المتّصل بالكثير من الحوار، يتحرّك كلّ من عمر، رشيد ونفيسة بحرّية في فضاء زمانيّ ومكانيّ ملتوٍ، قامت آسيا جبّار بحياكته بشكلٍ متقن ودقيق.
«هذا ليس وقت استعادة الذّكريات، بل وهل لها وقتٌ أصلا؟»
لكنّ الكاتبة لا تتورّع أن تعدل عن رأيها، لتسرد لنا ذكريات لا تُحصى عن كلّ شيء.. عن زهر البرتقال وحمّام الخميس، عن يوميّات الثّوار وصالونات المثّقفين، عن الحبّ العاصف الذي عاشته نفيسة بشكلٍ يكرّر نفسه في كلّ حين.
-1-
القبّرات السّاذجات، ترجمةٌ عن الأصل الفرنسيّ Les Alouettes Naïves.. وبقدر ما يوحي العنوان بروايةٍ عن نساءٍ خاضعات مستسلمات للقهر، فإنّ آسيا جبار تبعدنا عن هذا التّصور، وتكتب في مقدّمة الرّواية:
« سيتوجّب عليّ شرح عنوان الرّواية بلا شكّ. كان ذلك بعد قرأت كتاب “المغرب بين حربين” لـ “جاك بيرك “منذ بضعة سنوات، حين انتبهت لتفصيل مثير: كان الجنود الفرنسيّون يسمّون فتيات أولاد نايل الرّاقصات بالقبّرات السّاذجات. وحين سألت جاك بيرك عن ذلك، أخبرني أنّ الأمر مجرّد تحريف لفظيّ، “ouled” أصبحت”alouettes”، و “naïl” أصبحت “naïves”. وهكذا انبثقت هذه الصّورة من سوء فهمٍ كهذا.
ومع ذلك، لا وجود لأيّ فتاة راقصة من أولاد نايل في روايتي، ولا لأيّ جنديّ فرنسيّ..غالبًا. (…) ولم توجد هؤلاء الرّاقصات وفتيات الهوى مع كلّ الخيال الرّديء الذي ارتبط بهنّ إلّا في مخيّلة الجنود والسيّاح الأجانب. »
ولم يكن هذا الارتباط الموهوم في مخيّلة هؤلاء إلاّ صورة هزيلة عن بقايا الرّقص بعد عواصف الغبار التي ترتفع أثناء معارك قبائل أولاد نايل، كرقصة حزينة متحدّية في ساحة الموت عقب الكارثة. ومن هنا انطلقت الكاتبة تستنطق الذّكريات التي تعود للأيّام الخوالي الجميلة.
-2-
وبين ثنايا كلّ الذّكريات، تبدو آسيا جبّار كأنها تروي حكايتها عبر “نفيسة”.. الشّابة التي سمح لها بمواصلة دراستها الثّانوية، دون أن يجبرها على المكوث في البيت والتزام “الحايك”؛ فانضمّت إلى المدرسة الدّاخلية وعاشت مع فتيات المستوطنين الأوروبيين اللواتي لا “يمنعهنّ دينٌ ولا أخلاق عن فعل أيّ شيء”؛ وتجوّلت في شوارع المدينة مع خاطبها، لكنّها بقيت مثقلة بحملٍ كثيف من موروث العادات و”العيب”، ولم تستطع أن تتجاوز ثنائيّة الخضوع الأنثويّ والهيمنة الذّكورية. تحرّرت كما كان يبدو لها، لكنّ تفكيرها كان لا يزال عالقًا.
« ولكن، ما قيمة امرأة لا تحسن حياكة الصّوف؟»
تتذكّر ما قالته إحدى سيّدات العائلة العجائز في بلدتها هناك، وهي تروي عن أولى سنوات زواجها قبل سنواتٍ مضت، بينما نفيسة الآن في تونس تراقب حملها وتنتظر عودة زوجها من الحدود. هل تغيّر الأمر حقّا؟ هل أصبحنا أفضل؟
«توقّفت فجأة وقد تذكّرت: “هل تصدّقين أنّ عمّك لم يضربني أبدًا؟”، ضحكت مجدّدا: “لو أخبرت صديقاتي بهذا في ذلك الوقت لم يكنّ ليصدّقنني”.»
لا زالت السّيدة تروي، ولازالت نفيسة تحاول المقارنة. تتذكّر كم أصبحت تبدو متعلّقة برشيد أكثر، وكم سيتعارض ذلك مع التّحرر الذي تظنّه في نفسها. لا نعلم إلى أيّ حدّ فكّرت في ذلك؛ لأنّ آسيا فضّلت أن تعيدنا إلى الماضي، حين كانت العجائز تفتخرن بخضوعهنّ التامّ وببعض الامتيازات التي حصلن عليها مقابل ذلك. هل عاشت آسيا ذلك فعلا؟ ليس بقدر ما نعلمه. لكنها جعلت نفسها صوتًا للثّورة ضدّ الاستعمار، وضدّ تبعيّة المرأة وهيمنة الرّجل؛ ومرّرت كل ذلك عبر ذكريات نفيسة وأختها نجيّة في رحلتهما من مدينة ما في الجزائر مرورا بجبال الثوّار إلى تونس العاصمة وسجون الاستعمار الفرنسيّة.
-3-
وبينما تغرق نفيسة في ماضيها، تروي لنا آسيا جبار من جهة أخرى حكاية رشيد وعمر -صديقا الطّفولة- اللذان يلتقيان من جديد في الحد بين الحياة والموت داخل مخيمات اللجوء. ويعيد عمر سرد الحكاية من بداياتها، من سنوات الشغب الأولى وجرأة الخطوات المحرّمة المرتبكة..
«هذا أنا، نفس الشّخص الذي تراه تمامًا، ولم لا أكون؟ وكذلك أنت، أنت ما عليه حقّا الآن، ولست ذلك الظّل الذي كنت تظنّه في الماضي.»
لا يصدّق عمر ذلك، ولا يزال يتساءل: لماذا تغيّر كلّ منهما؟ ولكن ألم يكن رشيد جريئًا منذ الأزل، جريئًا في تمرّده، في حربه وحبّه. منذ أن تجاوز العرف والدّين وانجرف لمغامراته دون أن يخشى رقابة والده؛ والآن أصبح الصّحفي الذي يجوب القرى والمخيّمات مع زوجته وحبّه العارم ويعيش أخبار الحرب لينقلها. هل كان هو سيفعل ذلك؟ هو من أصبح يرتعب من الزواج ومن الأمل، وتخلى عن كل شيء ليستسلم لمزاج عدميّ كامويّ متشائم.
—
هذه حكاية المنفى والثّورة، حكاية التناقضات التي تختفي بين تلافيف النّفوس، حكاية الهيمنة والضّعف الأنثويّ؛ لن تجد حبكة تحبس الأنفاس ولا ألغازا منسيّة، لن تجد سوى أعماقًا مخيفة عن القرن الماضي، لازالت تتمدّد في قرننا هذا.
«بالنسبة لي، الكتابة لا تقدّم لي شيئًا، ولا أي من أجل التسلية، فالكاتب إنسان ممزّق، مقعد ومجرّد من كلّ قواه…»
هل كانت آسيا جبّار تظنّ ذلك فعلًا؟ لعلّنا لن نعلم ذلك؛ فقد كتبت الكثير، لكنّ صوتها بقي مكتومًا ومغيّبًا.
(*): جميع الاقتباسات الواردة هي من ترجمة صاحبة المقال عن النصّ الأصليّ بالفرنسيّة.