بادئ ذي بدئ، شكراً لكم أستاذ شوقي الزين على إتاحتكم لنا فرصة الحوار والنقاش رغم التزاماتكم البحثية…
1- يلاحظ المطّلع على منتجاتكم الفكرية أن هنالك خيطا ناظما في الانشغالات والاشتغالات البحثيّة للدكتور د. شوقي الزين”، تتوزّع بين الهرمنيوطيقا والترجمة وإعادة ترجمة تراث الشيخ الأكبر ابن عربي ترجمة ثقافيّة تساهم في تقديم مشاريع أجوبة لأسئلة الراهن وتعقيداته، ما هي قبليّات ودوافع هذه الخيارات البحثيّة لدى د. شوقي الزين، وما هي وعودها النظريّة؟
شكري الجزيل وامتناني على شرف الدعوة لإجراء هذا الحوار لصالح منصة “النقطة الزرقاء”. بالفعل، كما لاحظتم هناك مباحث متنوِّعة أعمل على الربط بينها لتقديم واجهة فكرية مثلى. هذا حصيلة خيار شخصي وهو الارتحال بين الأقاليم الفكرية للعثور على فكرةٍ من شأنها أن تُدعِّم الأطروحات التي أشتغل عليها وتُطعِّمها بالبراهين الذي أعمل على بلورتها. أحترم كل من نذر نفسه على التخصُّص في فيلسوفٍ أو مجالٍ فلسفي تفادياً للتَّبعثر في المواد الفكرية أو تجنُّباً لما يراه تحذلقاً موسوعياً. لكن، ألهمني طبعي الرِّواقي أن أبحث عن منظومة شاملة (كوسموبوليتية) بالتوليف بين الحدود التي تُشكِّل هذه المنظومة بمعونة منهجٍ أو أكثر. كان هذا دأب العديد من الفلاسفة وأخصُّ بالذكر بول ريكور الذي راح يحرث بالمنهج التأويلي في مختلف الحقول السيميائية والنفسية والبنيوية والسردية ليجني بعد ذلك ثمار التلاقح بين الأفكار التي اشتغل عليها في مختلف المجالات من فلسفة وتاريخ وسياسة. هناك منطلقان أقف منهما موقف البرزخ وهما الثقافة العربية الإسلامية (ابن عربي) والثقافة الغربية المعاصرة (ميشال دو سارتو)، وعملتُ على الربط بين المنطلقين من خلفية التشاكل في الهموم النظرية وحدَّدته في “التصوُّف” (ابن عربي من جهة، اشتغال دو سارتو على التصوف المسيحي من جهة أخرى). ثم بدا لي أن المشكلة الفلسفية هي في جوهرها مشكلة ثقافية ومشكلة العلاقة بين الثقافات من باب الحوار أو الصراع (لا يهمُّ ذلك). فبدا لي أن المنطلقين (الثقافة العربية الإسلامية، الثقافة الغربية المعاصرة، أو إن شئتم: “الأنا” و”الآخر”) يطرحان بالفعل مشكلة ثقافية، فكان أن بادرتُ في خوض غمار ما سمَّيته بنقد العقل الثقافي ومحاولة فهم صيغة هذا العقل الثقافي والصبغة التي يتَّخذها تاريخياً وبنائياً، وأعمل على تشييد مشروعٍ من هذا القبيل، بدأ بمقدمة ضخمة وهي “الثقاف في الأزمنة العجاف” (783 صفحة)، ليتواصل مع الجزء الأول من “نقد العقل الثقافي” الذي صدر سنة 2018. قد لا يتَّفق البعض معي في اختزال الفلسفة إلى مجرَّد ثقافة. لكن شواهد كثيرة من القدماء إلى هوسيرل ودولوز تقول بأن الفلسفة في جوهرها عبارة عن ثقافة بأوسع معاني هذه الكلمة، وعمل أرنست كاسيرر على إعطاء صورة مكتملة عن هذا الرابط المجهول أو المتنكَّر له بين الفلسفة والثقافة في مشروعه “فلسفة الأشكال الرمزية”. لنقرأ مثلاً ما يقوله هوسيرل في “أزمة العلوم الأوروبية”: «الفلسفة والعلم عنوانان لصنف خاص من التشكيلات الثقافية» (ص527 من الترجمة العربية لإسماعيل المصدق). تطرح الأزمة دائماً مشكلة ثقافية فيما نفكِّر فيها كمشكلة فلسفية، وعلى وجه التحديد مشكلة الفهم الذاتي للإنسان كما جاء دائماً في “الأزمة” لهوسيرل (ص515)، أي مشكلة تأويلية أو هيرمينوطيقية. ونرى أن جائحة كورونا كما سيأتي الحديث عنها تطرح هذه المشكلة الفلسفية في الفهم الذاتي للإنسان ومن ثمَّ المشكلة الثقافية في علاقة البشر بالعالم وبالطبيعة وبذواتهم. لا أكتفي في “نقد العقل الثقافي” بمجرَّد نسخٍ للأفكار، بل وضعتُ نظاماً هندسياً قائماً بذاته، يتركَّب من الحدود التي تُشكِّل في نظري جوهر الثقافة وهي الذات-العالم-الفعل-التفاعل. ولكل حدٍّ من هذه الحدود له اسمٌ يعتني به: أحشر الذات في “الثقافة” بوصفها عملية تكوينية، والعالم في “الثقاف” بصفته قالباً خفيًّا ومدبِّراً، والفعل في “الثقف” باعتباره إدراكاً ذكيًّا ونبيهاً للوضعيات الوجودية، وأخيراً التفاعل في “التثاقف” بوصفه تذاوُتاً يُبرز نظام العلاقة بين الثقافات. ثم إن العناية بالثقافة هو نزوع جزائري منذ الاستقلال، مع أبو القاسم سعد الله من جهة، ومع مالك بن نبي من جهة أخرى، لأن الجزائر في سيرورة تشكُّلها السياسي والاجتماعي طرحت المشكلة الثقافية بعد قرنٍ ونصف من استعمارٍ دمَّر جوانب كثيرة من الهوية الثقافية الجزائرية. ما أقدّمه هو بلورة فلسفية ومفهومية محضة. يمكن لأيّ مشتغل على الثقافة أن يستفيد منها، ويمكنه كذلك أن يلجأ إلى التحديدات المعرفية الأخرى للثقافة، من وجهة نظر التاريخ أو الأنثروبولوجيا أو علم الاجتماع. رأيتُ بأن المشكلة الثقافية هي مسألة مهمَّة بالمقارنة مع بلدٍ لم يتوقَّف عن البحث عن مستقبلٍ لشرطه الوجودي والحضاري.
2- بوصفكم أستاذا أكاديميا يتملّكه همّ مزدوج بين البحث والتدريس، ما هي صعوبات البحث العلمي في الجامعة الجزائرية، وما هي البدائل الموضوعية للقلق المتنامي من غلق الجامعات والمدارس بسبب جائحة كورونا في حالة -لا قدّر الله- استمرَّ الوضع على ما هو عليه؟
في البداية، قبل عقود، كانت صعوبات البحث العلمي في نُدرة المراجع للقيام بالبحوث وإنجاز الأطروحات. كانت الكتب والمجلات نادرة، وكانت التربصات في الخارج نادرة أيضاً. لكن، منذ عقد وبالتطوُّر الملحوظ في التكنولوجيا الرقمية، بدأ استعمال الكتب والمجلات الالكترونية التي أصبحت متوفرة لكل الباحثين، زيادةً على إمكانية القيام بتربصات في الجامعات ومراكز البحث خارج الوطن. بحكم أن المادة المعرفية متوفرة الكترونياً، فإن هذا سهَّل مهمَّة التقدُّم في البحوث والأطروحات، وحلَّ نسبياً مشكلة الحجر المنزلي لأن التدريس يُقام على مستوى منصات الكترونية بنشر الدروس التي يقوم الطلبة بحملها. لذا، بفضل التطوُّر التكنولوجي لم تعُد هنالك مشكلة في مواصلة التدريس والتعلُّم عن بُعد إذا توفَّرت السندات (الكمبيوتر والأنترنت). ما تغيَّر هو فقط الألفة مع الوضع الجديد، حيث لم نألف هذه الصيغة في التدريس والتعلُّم، مع أنها شائعة في الدول المتطورة تكنولوجياً مثل اليابان أو أوروبا. بل إن بعض المحاضرات تتمُّ عبر الفيديوهات إذا كان المحاضر في سفر أو في البيت لسببٍ صحّي. مزيَّة هذه الصيغة الجديدة هي مواصلة العمل عن بُعد لتفادي التقطُّع في التدريس أو في التعلُّم.
3- بالحديث عن الجزائر التي عرفت حراكًا سياسيا ساهم في تحييد بعض رموز الحكم السابق، يعلّق البعض أن تغيُّر الأشخاص لم يفرز تغيّرًا في الذهنيات ونمط الحكم بما يعزّز من الديمقراطية التشاركية الحقّة وحريّة التعبير، ما موقفكم من نتائج الحَراك وتعامل السلطة معه، وما واجبات المثقّف إزاء سؤال النضال السياسي خاصّة وأنكم تؤمنون بتناهي المثقّف بما يحدُّ من دوره في المشاركة السياسية المباشرة؟
التغيير هو مسألة “بنيوية” تتطلب الوقت والصدق. لا يكفي تغيير الأشخاص لامتصاص الغضب، بل تغيير المنظومة الذهنية والعملية في رمَّتها. لأن ببقاء أسباب الأزمة فإن أزمات أخرى ستندلع لا محالة. لا يُمكن بناء الجديد بعناصر قديمة. فهم الجزائريون المسألة جيّداً. لقد كان الحراك موعداً مع التاريخ بعد الإخفاقات المتتالية في ممارسة نظام الحكم وفي إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات الموضوعية ومنها الممارسة السياسية نفسها والمعضلات الاجتماعية مثل البطالة والهجرة غير الشرعية. عمل الحراك على تصحيح المسار السياسي في الجزائر الذي عرف في السنوات الأخيرة تصلُّباً واستشرى الفساد بسبب الخلط بين السياسة والمال. أوَّل تغيير هو الفصل بين السياسة والمال، باهتمام أهل السياسة بنظام الحكم، وباهتمام رجال الأعمال بالمنظومة الاقتصادية. ثاني تغيير هو إعطاء أهمية كبرى للثقافة والعلم، لأن ولا حضارة قامت على الجهل والشعبوية، ولا دولة تعزَّزت اقتصادياً واجتماعياً بغياب نخبة محصَّنة نظرياً، متكوّنة فكرياً، ذات كفاءات عالية، وفي خدمة المصلحة العامة. ثالث تغيير هو دمقرطة العمل السياسي بإعادة إرجاع الفضاء العمومي للمجتمع ليمارسه حقه في التعبير والتظاهر، لأن العمل السياسي الأفقي حركة، والعمل السياسي العمودي سكون، لا يمكنه ابتكار مقوّمات الممارسة الديمقراطية. وحده العمل السياسي الأفقي الذي يبتكر السياسة ويعيد ابتكارها بما هي علم الإمكان. لأن على أساس حركة المجتمع وتحوُّل الذهنيات وتطوُّرها يتمُّ التشريع وصناعة القوانين. ما موقع المثقف وما موقفه من ذلك؟ لا يعني تناهي المثقف هجره للفضاء السياسي أو عدم انخراطه المباشر للسياسة، لكن أقصد به الوعي بحدوده الذاتية وإمكانية أن يغتني بتفاعله مع الفضاء الذي ينخرط فيه، شريطة أن يكون العمل السياسي الأفقي حقيقة معلومة توفّر له آليات هذا الاغتناء وإغناء الفضاء السياسي نفسه.
4- بالنسبة لجائحة كورونا شاهدنا معالجة سياسيّة وإعلامية وصحيّة للوضع أغفلت القلق الوجودي والوضع النفسي للأفراد، ما الذي يمكن للفلسفة والفنِّ والجماليات أن تساهم به في رتق هشاشة الوضع المعنوي للأفراد؟
بالفعل، كانت المعالجة السياسية والإعلامية والصحية واقعية بحشر الأجساد في الحجر المنزلي والصحي بسبب الجائحة، وهذا دورها، أي سياسة الأجساد؛ أما الفلسفة، فهي تحاول تقديم معالجة وجودية للقلق المتنامي أو سياسة الروح. تتطلَّب الأزمة التي نعيشها علاجاً مركَّباً يخص في الوقت نفسه الجسد والنفس والروح. إذا كانت سياسة الجسد هي عمل سياسي وصحي بتوفير مقوّمات العيش الكريم ومحاربة الوباء وتنظيف المدن، وإذا كانت سياسة النفس هي عمل سيكولوجي بإصلاح الخلل الممكن وقوعه على مستوى الشعور والتذهُّن، فإن سياسة الروح هي عمل فلسفي يقوم أساساً على العلاج بالكلام كما ذهب فيكتور فرنكل، الذي لاحظ عن حق بأن الجسد يمرض وبأن النفس تمرض، لكن الروح لا يمرض، لأنه العُنصر الناطق والمفكّر والخالد من الإنسان. نرى بأن الفلسفة تتبوَّأ مقعداً سامياً في سياسة الوجود الإنساني في العالم. فهي تشتغل على القول الحي (لوغوس) بتقويمه وجعله وسيلة في معالجة المشكلات الوجودية التي نتخبَّط فيها اليوم. تُقدِّم الفلسفة هذا المنهج العلاجي للفرعين الآخرين وهما سياسة النفس وسياسة الجسد بمداواة العلل التي تستبدُّ بهما. نرى بوضوح أن الفلسفة تُلهم الفروع الأخرى بوسائل علاجية كما فعلت في الماضي أيضاً، عندما كانت طبًّا روحانياً يداوي القلق والتعاسة والخوف من المجهول وممَّا تسفر عنه الأوبئة أو الحروب أو المجاعات. لم تتغيَّر المخاوف عبر العصور، ومن ثمَّ فإن الدور العلاجي للفلسفة لم يتغيَّر هو الآخر، وتبقى أحسن طريقة في محاولة فهم الأزمات المعاصرة قصد تفكيك مركَّباتها العويصة وتقديم حلول مناسبة للظرف الراهن.
5- ظهرت على خلفيّة جائحة كورونا مراجعات فكرية وفلسفية تصبُّ في خانة النقد الذاتي لسياسات الدول الأوروبية ومنهجها في التعامل مع الوضع الصحّي، فبين نبوءة “ميشال أونفري” بأفول الحضارة الأوروبية التي أصبحت “عالما ثالثا جديدا” لم يُجِد التعامل مع أزمة الكورونا وترَك الشيوخ يموتون في ممرّات المستشفيات بسبب اتباع أوروبا للإيديولوجية الليبرالية القائمة على قواعد براغماتية محضة، وتوقّعات “سلافوي جيجيك” بانبثاق “شيوعية جديدة” من رحم الأزمة الصحية العالمية بما يعكسُ حاجة العالم لنفَسِ تعاونٍ وتضامن حقيقي، وبين ملاحظات إدغار موران في إخفاق الإنسانية المعاصرة في خلقِ مشاعر أُخوة بين مختلف العوائل الروحية والثقافية بسبب منزع الرأسمالية المتوحشة في الاقتصاد، كيف يرى د. شوقي الزين مستقبل العالم وتحديّات الإنسانية القادمة على أعقاب هذه الجائحة؟
كانت هذه الإخفاقات متوقَّعة منذ أن “تشيَّأ” الإنسان ومعه القيمة الروحية. عندما يصبح كل شيء رهن القيمة المادية أو المال، فإن كل القيم الأخرى تنهار أو يتراجع مفعولها على الواقع. معلومٌ أن ما يُدبِّر العالم اليوم هو النموذج المالي-الاقتصادي الذي حوَّل كل شيء إلى بضائع، بما في ذلك القيم الإنسانية. هل تعلمون أن البعض يُقدِّم دروساً في الصلاة المتقنة مقابل المئات من الدولارات، وهو سلوك شبيه بالقساوسة البروتستانت في الولايات المتَّحدة الذين يُقدِّمون دروساً ومواعظ باهظة الثمن، يحضرها في الغالب الأثرياء ورجال المال والأعمال؟ كذلك الفن الذي تحوَّل هو الآخر إلى سلعة مربحة في المزاد العلني ببيع اللوحات الزيتية لرسَّامين من النهضة أو الفن الحديث والمعاصر بملايين الدولارات. تحوَّل المال إلى “ماهية” انتفت معها العلاقات، حيث أصبح غاية في ذاته بعدما كان، في الأصل، غاية لغيره، أي لأجل الاستثمار وحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. الماهوية التي استبدَّت بالمال هي نفسها الماهوية التي تسلَّطت في عالم الاستهلاك. لأن بمقدار ما يستهلك البشر بسرعة من وراء الرغبات المتزايدة والإشهار المتنامي، فإن المال يصبح القيمة المادية منزوعة القيمة الإنسانية، ويتحوَّل هكذا إلى رأسمال بلا صفقات، وأحياناً رأسمال من أجل صفقات أكثر ربحاً. يحثُّ العالم المعاصر على اقتناء الحاجيات والدخول في دوامة الاستهلاك المعمَّم والباذخ، ونتيجة ذلك تكاثر الديون وإفقار شرائح واسعة من المجتمع ينجرُّ عنه البطالة والقلق والانتحار والمخدرات والأمراض النفسية والاجتماعية. عرَّت الجائحة هذه الحياة الإنسانية الملتبسة بين الترف المادي والعوز الاقتصادي، أي بين طبقات اجتماعية أكثر ثراءً وطبقات أخرى أكثر فقراً. طبعاً لا يتعلَّق الأمر بالرجوع إلى الحلول السحرية (والمستحيلة) التي قدَّمتها بعض الأيديولوجيات في الماضي مثل الشيوعية، لكن ينبري الحل في معالجة الأزمة في بنيتها ككل من جهة، وفي أجزائها المحلية من جهة أخرى، أي اللجوء إلى الحلول العلائقية (لا الماهوية) بين المحلي والكوني. ما أشار إليه أونفري وإدغار موران يصبُّ في أزمة الغرب مع نفسه، مع تمركزه وعنجهيته. اقترحتُ شيئاً رواقياً وهيغلياً في الوقت نفسه، ينطوي على نفي مضاعف يُسمَّى “اللادونية” (لا…دون…)، بمعنى أن علائقية المحلي والكوني أو علائقية الجزء والكل تجعل مستحيلاً استغنائنا المطلق عن بعضنا بعضاً. لقد فقهت الرواقية المسألة من باب الكوسموبوليتية، وفهم هيغل المسألة من باب جدل العبد والسيّد والكفاح من أجل الاعتراف. تقول “اللادونية” أننا لا نقوم أصلاً دون غيرنا ولا يقوم غيرنا بدوننا، بما في ذلك الأعداء. يحتاج العدو إلى عدوه ليكون هناك شيئاً يُسمَّى “عدو” أو “عداء”. هكذا يفتقر الأعداء إلى بعضهم بعضهاً فيما هم يسعون أصلاً إلى نفي بعضهم بعضهاً. بحكم أن الغرب لم يُدرك هذه “اللادونية” الدَّفينة في علاقته بالآخر، فهو يتخبَّط اليوم في أزمة إيجاد الحلول للأزمة. وحده التصوُّر العلائقي بنفي الحدود الطاغية أو جعلها ترتبط ببعضها بعضاً من شأنه أن يُقدِّم عزاءً لهذه الأزمة الصحية والوجودية.
6- هناك ثلاثة وقائع مستجدّة أصبحت تنذر بتشكّل ملامح عالم احترابي وعنصريٍّ متشظٍّ على نفسه: الأولى تتمثل في صعود اليمين المتطرّف في أوروبا، الثانية تعكسها المعاملة العنصريّة لبعض أفراد الشرطة الأمريكية ضد السود نظير واقعة مقتل “جورج فلويد”، وثالثا ردود الأفعال المشوبة بالكراهية ضد الصين بالتزامن مع انتشار وباء كورونا في مقاطعة ووهان التي شكّلت مناسبة للكراهيّة والعنصريّة المضمرة أن تتجلى، حيث أُوِّل الأمر في البلاد العربيّة لاهوتيا بوصفه عقابا إلهيا ضد الحكومة الصينية لاضطهادها الإيغور المسلمين، وفي أوروبا والو.م.أ -بصفة خاصّة- تم وصف الكورونا بالفيروس الصيني. برأيكم ما علّة موجة العداء والكراهية والعنصريّة التي تعود للسّطح كلّما انفجرت أزمات إنسانية معيّنة في منطقة ما من العالم؟
هذا شيء بديهي ينطلق من فكرة “كبش الفداء” التي ارتقى بها رونيه جيرار إلى ثابتة أنثروبولوجية في تاريخ البشر. الفكرة هي أن بحلول الأزمات، أيًّا كانت طبيعة هذه الأزمات (سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم صحيَّة)، هناك دائماً الميل نحو البحث عن آثم أو مذنب يُحمَّل المصائب. في كل أزمة، هناك جحوظ في التمثُّل الممزوج بالخوف يدفع الناس إلى البحث عن مذنبين للتكفير عن خطاياهم: إذا كان هنالك زلزال، سنقول بأن السبب هو التبرُّج والخمر؛ إذا كان هنالك وباء، سنقول كذلك بانتشار الفاحشة أو الظلم؛ وإذا كانت هنالك أزمة اقتصادية تُسبّب البطالة، سنقول بأن السبب هم الأجانب (من أفارقة ومغاربيين) هاجروا إلى البلدان الغربية واستولوا على مهن المواطنين الأصليين؛ وإذا كانت هنالك أزمة سياسية داخلية، سنقول بأن السبب هو اليد الخارجية التي تسعى لتدمير البلد، مع أن ما يُعاني منه أهل البلد من تهميش وفقر وبطالة لا علاقة له، لا من قريب ولا من بعيد، بأيادٍ أجنبية أو تخيُّلات من هذا القبيل. هناك إذاً هذا الميكانيزم المسمَّى “كبش الفداء” الذي يشتغل في التمثُّل البشري ويُصوِّر أن سبب الأزمات المستشرية هو مخاطر خارجية أو الابتعاد عن الأخلاق الدينية. يميل البشر بطبعهم إلى قياس الأفعال بنموذج يُحتذى، سواء أكان نصاً دينياً أم مبدأً متعالياً أم مثالاً سامياً، ويرون أن ما يحدث لهم هو الابتعاد عن هذا النموذج الأصلي بتقليد نماذج أخرى أو بتدخُّل أجنبي تحت مسمَّى “الغزو الثقافي”. المشكلة الجوهرية هي مشكلة الذات مع ذاتها أولاً: فلأن الصين لم تحترم البروتوكول الصحي باستهلاك الحيوانات المتوحشة الحاملة للفيروسات، حصل ما حصل من انتقال الفيروس إلى الإنسان وبداية العدوى بين البشر؛ ولأن الرؤية الدونية والعنصرية لا تزال تستبدُّ بشريحة من المجتمع الغربي (وليس كل المجتمع الغربي) حصل ما حصل من تعدٍّ على السود بملاحقاتهم والقبض عليهم إلى غاية قتلهم بالعفس عليهم.
7- يعتبر البعض جائحة كورونا بمثابة واقعة ميتافيزيقية مستجدّة في حياة الأفراد وسياسات الدول، ما هي برأيكم الدروس التي تمدّنا بها هذه الجائحة من أجل إعادة ترتيب علاقتنا بالعالم والإنسان على المستوى السياسي والبيوتيقي؟
بالفعل، أحدث الجائحة رجَّة في الوعي المعاصر، لأنها المرَّة الأولى التي تتوقَّف فيها الحياة الاقتصادية والمواصلات العالمية مثل شركات الطيران. لم تُحدث العديد من الأمراض المعدية هذا التوقُّف في الآلة الصناعية والسياحية. لماذا سبَّبت جائحة كورونا ذلك؟ لأنها مرض معدٍ جدًّا ويمسُّ خصوصاً الرئتين بما يُسمَّى بالمتلازمة التنفسية الحادَّة الشديدة (Sars-Cov). ومن ثمَّ فإن أثرها على الأفراد قوي جدًّا والعدوى شديدة التنقُّل. يُفسِّر هذا الأمر لماذا توقَّفت الحياة الاقتصادية والاجتماعية خلال شهرين أو أكثر. كان ذلك من أجل وضع حدٍّ للانتشار السريع للفيروس وللحدِّ من عدد الوفيات التي أسبابها غير كوفيد-19 ويمكن أن تكون أمراضاً مزمنة. لكن أسهم الفيروس في التفاقم من الوضع الصحي. إذا كانت هنالك دروس ينبغي استخلاصها من هذه الأزمة الصحية، فيمكن تلخيصها فيما يلي: 1. الصحَّة هي الخير المشترك للبشرية جمعاء ولا يمكن إخضاعها إلى قوانين السوق، مثل قانون العرض والطلب. كانت الموجة التي اجتاحت أوروبا (خصوصاً إيطاليا وإسبانيا) بسبب التضحية بمجال الصحة لأجل الخواص وتقليص ميزانيتها في القطاع العام؛ 2. ليس الاقتصاد هو كل شيء، وليس الاستهلاك هو قداسة العصر. بل هناك قيم أخرى لامادية خصوصاً يمكنها أن تُسهم في معالجة أزمات العصر والحدِّ من الجشع الذي أصاب العالم التجاري والمالي، وجنون الاستهلاك الذي أصاب شرائح واسعة من المجتمعات؛ 3. أهمية الوسائط الاجتماعية والتكنولوجيا الحديثة في العمل والتدريس والتعلُّم، حيث وجدت بعض الدول نفسها متأخّرة في الاهتمام بالتكنولوجيا الرقمية ولم توليها اهتماماً خاصاً. بهذه الأزمة الصحية، تتبيَّن أهمية هذه التكنولوجيا في مواصلة العمل دون الحاجة إلى التنقُّل لتفادي العدوى.
8- هل انتقال الفيروس من سوق للحيوانات في مدينة ووهان إلى جسدِ الإنسان يعدُ سخريةً من التفّوق والمركزية الميتافيزيقية للإنسان بما يعطّل فكرة الفرد بوصفه كيانا أخلاقيا؟
لا شك في ذلك، وتميل الدراسات المعاصرة إلى نقد النموذج الديكارتي بإعادة التفكير في الشرط الحيواني الذي يتمتَّع بأحاسيس وبجهاز خاص في التمثُّل. الخطيئة المعرفية الكبرى التي حصلت في الغرب هي الفاصل السَّخيف والزَّائف الذي حصل بين الطبيعة والثقافة، بعدِّ الأولى ضرورة تلتهم الحيوان وتدفعه إلى الافتراس بغريزة كامنة في منظومته العضوية، وبعدِّ الثانية موطن الإنسان بوصفه كائناً أرقى بحكم النطق والتفكير وآليات أخرى أكثر تعقيداً. القطيعة التي حصلت بين الطبيعة والثقافة هي مصيبة العصر ووجب إعادة رأب الصَّدع الذي حصل بينهما لتبيان أن الحيوان يتمتَّع بقدرٍ من الإحساس والتمثُّل، وتبيان أن الإنسان حيوان كذلك (أو الحياة والطبيعة تسريان في جسده) وله القابلية للافتراس والقتل والتنكُّر للقانون الأخلاقي الذي يحمله بين جنبيه. ما حصل في التاريخ من صراعات ومجازر ومظالم تجسَّدت في اقتتال طائفي-ديني أو تعدِّيات استعمارية أو حروب عالمية ما هي سوى الترجمة الطبيعية لما هو عليه الإنسان، الذي يميل بخبث إلى إبراز البُعد الثقافي والحضاري للمواهب والعبقريات التي يُجسِّدها، ناسياً أو متناسياً الجانب المظلم من هذه الإشراقات الحضارية، وهو القدرة على الانتهاك والعنف. تدفعنا هذه الجائحة إلى إعادة النظر في السؤال الطبيعي وعلاقتنا بالحيوان: هل هناك ضرورة قصوى في استهلاك الحيوان بالكم الذي نراه في الحاضرة المعاصرة وبالهمجية عينها؟ لا يعني هذا بالضرورة العودة إلى البُعد الرومانسي للطبيعة وأن نصير نباتيين، لكن يتطلب الأمر إعادة النظر في فلسفة الحيوان ككل: كيف نرى الحيوان؟ لماذا نتناول الحيوان؟ ما قصَّة الذبائح؟ مع أن الحيوان هو وجهنا الخاص الذي نتنكَّر له، أي حقيقتنا الإنسانية البشعة التي نعجز أو نرفض النظر إليها مباشرة.
9- أخيرا، بوصفكم إحدى القامات الفلسفية في الجزائر والعالم العربي المجدّةِ والغزيرة في إنتاجها الفلسفي، ما هي مشاريع د. شوقي الزين الفلسفية التي يشتغلُ عليها حاليا، وما إصداراتكم الفكرية التي –ربما- هي بصدد النشر قريبا؟
من بين الأعمال التي ستصدر قريباً الترجمة العربية لكتاب لورانس فانين عنوانه “لماذا نتفلسف؟ سُبُل الحرية”. وهو تتمَّة للترجمة العربية لكتاب جون غرايش “العيش بالتفلسف” الصادر سنة 2019. كتاب غرايش موجَّه للنخبة من بين الأكاديميين والباحثين والأساتذة وطلبة الدكتوراه، وكتاب فانين مخصَّص لتلاميذ الثانوي وطلبة الجذع المشترك والليسانس والماستر، علاوة على القارئ العام الذي يريد مقدمة سهلة وواضحة عن الفلسفة دون تكلُّف. يجد في كتاب فانين ضالَّته. ترجمتُ إذاً الكتابين لأراعي حقوق الجميع في التفلسف. هناك أيضاً الجزء الثاني من “نقد العقل الثقافي” الذي أشارف على الانتهاء من تدوينه ويشتمل على 12 فصلاً حول رؤية العالم ونظام الثقافة.
شكرا جزيلا مرّة أخرى أستاذنا على كرم قبولكم إجراء هذا الحوار معنا.