همنغواي وما بعد الحرب العظمى

سأحاول في هذا المقال الكلام عن أول مجموعة قصصية لـهمنغوايفي زماننا-In Our Time” والتي  نشرت سنة 1924، وأبرزت همنغواي ككاتب واعد وذي أسلوب فريد. تُعدّ هذه المجموعة انعكاسا لشخصية همنغواي الصلبة والقاسية. ولأنه فرد من الأمة ولأنه سافر كثيرا وعمل كمراسل حربي في أكثر مكان فقد كان شاهدا حيا على عصره، لذا لابد أن نبدأ بالكلام عن العصر قبل الكلام عن الرجل.

كان القرن التاسع عشر في نهايته مثالا حيًّا للتفوق البشري العقلي والعاطفي. انتشرت الآلات والكهرباء والتلغراف في كل ربوع العالم الغربي وكان هناك نهضة روحية من الاهتمام بالفلسفة والشعر والرواية والرسم والمسرح، ببساطة كان البشر يتفجرون بالعواطف والانجازات. ثم حدثت الحرب. الحرب التي لم تحمل اسما يعرّفها عن طريق الأطراف المشتركين فيها، لأن الجميع قد دخل فيها ولم يكن هناك عدوٌّ محدّدٌ، لذا كانت ببساطة “الحرب العظمى“.

كانت الحرب العظمى أو كما نسميها اليوم الحرب العالمية الأولى صدمة قوية لهذه الحضارة التي تملكتها مشاعر الحرب والرقة والجمال. فحتى اليوم بصورة عامة نملك نحن الأشخاص العاديين معلومات قليلة عنها. فعلى عكس الحرب العالمية الثانية التي ما زالت إلى اليوم موضوعا شيقا للأفلام والعروض التلفازية، فالحرب العظمى لم تملك الكثير من التغطية. انعدام التغطية الإعلامية والدرامية هي إحدى السمات المميزة لهذه الحرب.

كما قلنا فالحضارة الغربية أو الأوربية كانت مليئة بالحب والرقة -على شعوبها فقط- لكن الحرب العظمى كانت شيئا قاسيا ووحشيا ومرعبا وكلَّ شيء ما عدا الجمال والشاعرية. فالسبب أنه وإلى الآن لا توجد عروض درامية كثيرة عنها أنها ببساطة لا تحوي أي دراما. فأغلب من عادوا من الحرب لا يذكرون شيئاً سوى الطين؛ الشيء الذي أصبح العلامة البارزة لهذه الحرب.

فالحرب العالمية الأولى على عكس الثانية لم تكن لأجل الحرية أو العدل أو أي شعار مزيف رفعته الدول لتبرير حربها بل كانت حربا عبثية بالمطلق. فمن الطبيعي جداً في تلك الفترة أن يحارب الفرنسيون الألمانَ في يوم وفي اليوم ثاني يطلب منهم العمل سويًّا لمحاربة البريطانيين وفي اليوم الثالث بالعودة لقتل الألمان وهكذا.

القصة الأولى في هذه المجموعة القصصية تتحدث عن هذا الموضوع؛ عن بحارة أمريكي في الحرب التركية-اليونانية يعمل مع الأتراك لإخلاء اليونان من السكان ويصف كيف أنه قد أتى بسفينته نحو الميناء لأن دولته كانت متحالفة مع تركيا، لكن في منتصف الطريق وأثناء دخوله الميناء اكتشف أن التحالف قد انتهى وأن الأتراك يهددونه بنسف سفينته وكانوا على وشك ذلك لولا دخول الضابط المسؤول ليخبرهم أنهم قد عادوا حلفاء من جديد.

لقد تشبع الشباب والرجال في ذلك العصر بالقصص والروايات عن الحرب والبطولة والشهادة وغيرها من المفاهيم الساذجة، لكن عندما واجهوا وجها لوجه رعبَ الموت والطين والدمار والأمراض والطين والأسلحة الكيميائية والإعاقات والطين، ذلك الطين اللعين، تغيّرت نظرتهم إلى العالم. فلم يعد هناك أحد يمجد الحرب وفضائلها ولم تعد النساء متشوقات لسماع قصص الحرب، لأنه لم يكن هناك شيء في هذه الحرب يدعو للفخر ولم يملك الجنود أي شيء ليتباهوا به. فبعد أن دخل الجنود لتحرير هذه القرية وسكانها المساكين من يد ذلك العدو الشرير وصل الأمر بأن عليهم هم الآن أن يقتلوا جميع من في القرية.

يمثل همنغواي وكتاباته مثالا واضحا لنمط الشخصية الأوربية التي خرجت من الحرب. فهو لا يكتب ليثير المشاعر ولا ينقلك على أجنحة الخيال أو أي شيء من هذا القبيل. كتاباته أشبه بالبنيان المرصوص إن أردت قراءته فعليك بإحضار معولك الخاص.

وعلى الرغم من اختلاف القصص في هذه المجلد إلا أن هناك رباطا معينا بينها جميعا؛ فلو نظرت إليها لوجدت أن كل قصة  تمثل عالما معزولا لوحده، لكن إن ابتعدت ونظرت، ستجد أنها كالمدن المتجمعة التي تشكل دولة واحدة.

 في المجموعة صنفان من الأعمال؛ فهي تتكون من 16 قصة قصيرة بالإضافة لـ16 فصلا أو Vignette وهي عبارة عن صنف كتابي  فريد بين المقالة والقصة القصيرة لكن الفرق غير واضح لأنها تتكون من فقرة واحدة في الغالب. يقول همنغواي في إحدى رسائله أن قصصه أشبه بالنظر إلى ساحل البحر وهذه الفصول القصيرة أشبه بالنظر إلى نفس الساحل باستخدام عدسة تكبير بقدر خمس عشرة ضعفا. بعد كل قصة قصيرة هناك فصل قصير يحمل نفس ثيمة القصة التي سبقته ويحاول تركيزها في بضعة أسطر.

يركز همنغواي على مفاهيم الألم والحزن والعبثية وصدمة الحرب وغيرها الكثير من المفاهيم التي يمكن ربط آثارها المباشرة بالحرب العظمى. فالقصص والفصول  في هذه المجموعة تتناول مفاهيم الألم وتحمله وتوجيهه للآخرين أو استقباله. وكذلك الحالة العبثية للحرب التي تذيب روحَ أغلب المشاركين فيها إلا ما ندر. فالجندي يذوب ويتهالك في خضم الحرب وينبثق منه كائن جديد وهذا الكيان لا يدوم خارج الحرب في الغالب فمبجرد انتهاء المعركة ينتهي هذا الكيان ولا يوجد هناك وصف أوضح من هذا الفصل:

بينما كانت القذائف تنسف الخندق لأشلاء في فوسالتا، أنطرح منبطحا ومرتعبا داعيا يا يسوع المسيح أخرجني من هنا. رجاء يا يسوع أخرجني من هنا. رجاء رجاء يا يسوع. فلو أنّك حميتني من الموت فقط فلأفعلن كل ما تأمر به. أنا أؤمن بك وسأخبر كل الموجودات في العالم أنك أنت الشيء الوحيد الذي يهمّ. رجاء رجاء يا يسوع. زحف القصف مبتعدا عن الخندق. توجّهنا لإصلاح الخندق وأشرقت الشمس في الصباح وكان النهار حارًّا ورطبًا وبهيجًا وهادئًا.

في ميستري في اليوم اللاحق لم يخبر الفتاة التي صعد معها في فندق فيلا روسا عن يسوع. ولم يخبر أحدا مطلقاً.

باختصار مثلما حاول همنغواي أن ينظر إلى قصصه القصيرة بمنظار الفصول المكبرة يمكننا استخدام هذه المجموعة كمنظار مكبر للقرن العشرين والفكر المنتشر  بعد الحرب. لـهمنغواي أسلوب بارد يعكس شخصيته وعصره. قد تكره هذا الأسلوب أو تحبه لكن همنغواي بالتأكيد سيصعقك، فهو نوع الشخص الذي يمكنه البدء بنكتة حدثت له في الحرب وينهيها بأن زميله قد فقد جميع أطرافه في تلك الحادثة. نعم إنه ذلك الصمت المطبق الذي يعم الغرفة في مثل هذه المواقف هذا هو الشعور الذي يخلقه همنغواي في قصصه شبه الكوميدية شبه التراجيدية هذه. 

تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة

كاتب

الصورة الافتراضية
Sajjad Thaier
المقالات: 0

اترك ردّاً