من علم الأعصاب إلى الفلسفة، تفيد الأدلة بأن ماهية الذات في حالة تغير.
إن مجال علم الأعصاب يشتمل على العديد من الدراسات لحالات مثيرة للاهتمام، مما يتيح لنا التعرّف أكثر على الدماغ البشري. إحدى تلك الحالات تعود لرجل أمريكي يدعي فينياس غيج، تضرّر جزء من الفص الأمامي الأيسر لدماغه بسبب مسمار تثبيت السكك الحديدية. أدى هذا الضرر إلى حدوث تغيرات كبيرة على شخصيته وسلوكه، إذ أصبح أكثر اندفاعا وأقلّ مراعاة للآخرين مما أدى إلى فقدانه لوظيفته كرئيس لعمال بناء سكك الحديد.
ولغرض الحد من المعاناة يفضل بعض مرضى الصرع إجراء عملية جراحية تمنع الرسائل العصبية من التنقل بين نصفي المخ، عن طريق قطع الروابط أو الألياف الموجودة بينهما. فعند قطع هذه الألياف – الجسم الثفني- يتوقف انتشار نوبات الصرع بين الفصين الأيمن والأيسر، ونتيجة لذلك ينقطع الاتصال ما بين الفصين. يسهم هذا النوع من العمليات الجراحية في وصف أوضح للعديد من السلوكيات المثيرة للاهتمام المتعلقة بمتلازمة الدماغ المنفصل split-brain syndrome.
في إحدى التجارب طُلب من مريض بمتلازمة الدماغ المنفصل الضغط على زر ما عند رؤيته للصورة على الشاشة، حيث تظهر هذه الصور إما في المجال البصري الأيمن أو الأيسر، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن المعلومات المتلقاة من المجال البصري الأيمن تعالج في النصف الأيسر من المخ والعكس صحيح – يقوم الجانب الأيسر من الدماغ بمعالجة اللغة –. ثم حث المريض على وصف ما رآه في الشاشة لكي يتيح للأطباء تقييم نتيجة تعذر الاتصال بين جانبي الدماغ. فكانت النتيجة كالتالي:
بينما استطاع المريض تحديد الصور المعروضة للجانب الأيسر من الدماغ، حدث شيء غير متوقع عند عرض الصور للطرف الأيمن حيث ادّعى المريض أنه لم يرَ أي صورة على الشاشة في حين أنه قد استمر بالضغط على الزر بيده اليسرى مما يشير إلى أنه قد ظهرت صورة على الشاشة بالفعل. بما أن الملاحظات الناتجة عن هذه التجربة تشير إلى أن كل جانب من الدماغ يعمل بشكل مستقل عن الآخر، يراود ذهننا سؤال آخر ألا وهو، هل بإمكاننا أن نزعم أن كل جانب من الدماغ يمثل ذاتًا مستقلة؟
عندما طُلب من المريض وصف ما رآه على الشاشة، استخدم الجانب الأيمن من الدماغ لوصف أو تحديد الصورة أما الجانب الأيسر للإجابة.
رغم أن الكلام والمعالجة اللغوية للجانب الأيسر لم يعودا متصلين بالجانب الأيمن إلا أن الجانب الأيسر قد اختلق تفسيرا مما يجعلنا في حالة اندهاش. هذه الشريحة من الأشخاص لا تزال تختبر ذاتًا واحدة لأن الجانب الأيسر من الدماغ يعمل على تفسير أي عمل يقوم به الجانب الأيمن حتى لو اقتضى الأمر منه التخمين.
تعتبر تجاربنا مع العالم الخارجي مثالا ملموسا وبسيطا، فإذا ركزنا على أحد الحواس، النظر مثلاً، يستطيع العديد منا ملاحظة الأطوال الموجية للضوء لوجود مسار عصبي معقد يسمح بانتقال هذه المعلومات إلى الدماغ، حيث تحول هذه التجارب المادية للعالم الخارجي إلى نبضات عصبية. بمجرد وصول هذه المعلومات أو التجارب إلى الدماغ يتضح مدى اختلاف تصورات كل فرد فينا. يطلق على تجربتنا الشخصية للمحفز في عقلنا الواعي بالكواليا (qualia). لا توجد أي طريقة لإثبات كيفية رؤيتي أو تخيّلي للون الأحمر لأن الكواليا (qualia) الخاصة بي مكافئة تماما لخاصتك. تتطور الحواس مع تطور أدمغتنا مما ينتج عنه إمكانية تغير خبراتنا أو الكواليا خاصتنا أيضاً.
هل الذات الموحدة والثابتة مختَلقة أيضا؟ ربما…
تتميز العديد من المعتقدات البوذية بوجهة نظر فلسفية مدّعية أن الذات ما هي إلا وهم ونسج من الخيال. على مدى 2500 سنة الماضية، طورت العديد من المدارس البوذية مناهج وتعاليم لمساعدة الأشخاص في التعامل مع الألم والصعوبات والعواطف المرتبطة بوجودنا. يتمحور التقارب بين هذه المدارس حول الفصل أو الابتعاد عن فكرة الذات مما سلّط الضوء على فكرة اللاذات.
ترتبط العديد من حاجاتنا ورغباتنا بمشاعر غير ثابتة يحددها سردنا الشخصي. ولكن مع اللاذات تُرفض هذه الرغبات وتعوض بالسعي إلى تطوير الذات والحكمة. حيث يتطلب تحقيق التحرر والتفكر الذاتي أو ما يسمّى بالاستبطان ممارسة أساليب مختلفة من التأمل.
ولغرض فهم الارتباط العصبي والإدراك أضفى كل من علماء الأعصاب وعلماء النفس والإدراك أبحاثا جديرة بالتقدير، تظهر هذه الدراسات أن بعض الأنشطة تغيّر من الجوانب الجوهرية للدماغ بما في ذلك عدد المرات التي يميل فيها الذهن إلى الشرود وأيضا كيفية تواصل مناطق الدماغ المختلفة مع بعضها البعض.
هل التغيير في النواحي الأساسية لعملياتنا المعرفية وإدراكنا ودوافعنا ونظامنا السلوكي يغيّر من جوهرنا؟ وعليه تشير العديد من الأبحاث حول الشخصية إلى أننا نصبح أقل انفتاحا تجاه التجارب الجديدة وأكثر تقبّلا وانضباطا مع تقدم السن.
تشير الأدلة إلى أن سمات الشخصية الأساسية والشبكات داخل الدماغ قد تتغير من خلال نشاطات معينة بمرور الزمن، جمع هاته السمات أو الصفات والشبكات سويا تعود لتأثير الجانب الكروي الأيسر (الجانب الأيسر للدماغ) -المترجم- الذي بدوره يشرف على بناء توضيح دقيق حول هويتك، وبالتالي بعد تحقق علم النفس والأعصاب من صحة هذا التساؤل، أحدث هذا الأخير جدلا واسعا في الأوساط الفلسفية.
طور الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم أفكارا مماثلة عن الذات في كتابه المعنون “رسالة في الطبيعة البشرية”(1739)، ملخصا التالي:
” تعتمد الهوية على ترابط الأفكار، تلك الترابطات تُشكّل الهوية، عن طريق التغيير السلس الذي تحدثه. ولكن نظرا لاحتمال تضاؤل الترابطات وسلاسة التغيير بدرجات غير مدرَكة، فليس لدينا معيار دقيق يمكّننا من حسم أي جدل حول مسألة الوقت، عندما يكتسب أو يخسر أحقيته لصالح الهوية. جميع الجدالات المتعلقة بهوية الأشياء المتصلة ما هي إلا لفظية، إلا بقدر ما تؤدي العلاقة بين الأجزاء إلى الخيال أو مبدأ وهمي للوحدة كما لاحظنا بالفعل”.
وبالنتيجة، تتغير دوافعنا ورغباتنا تدريجيا يوما بعد يوم. قد لا نتمكن من ملاحظة التغيير الكبير الذي يحدث لعام مغيرا هويتنا بشكل جذري. تخيل عملية إزالة حبيبة رمل من كثبان رمل يوميا، بالتأكيد سيتقلص حجم الكثبان ولكن لن نتمكن من ملاحظة الفرق بعد يومين متتاليين. على الرغم من ذلك فإننا نتذكر فقط هذه التغيرات الطفيفة مع مرور الوقت.
إذا أراد شخص ما أن يجعل من الكتابة عادة، ففي كتابته لخمس كلمات يوميا سيتمكن من كتابة مسودات أطول تدريجيا. في اليوم الأول خمس كلمات وفي الثاني عشر كلمات وفي نهاية الشهر 150 كلمة وفي نهاية العام 1825 كلمة، رويدا رويدا على مدار عام ستصبح شغوفا بالكتابة، لكن لا يوجد لحظة معينة تستطيع أن تحدد فيها تغير وتطور المهارات والعادات، مع ذلك ستتحسن قدرتك على الكتابة بشكل ملحوظ بين الشهر الأول والأخير. وهذا هو تناقض الذات العلائقية المتغيرة باستمرار.
وفقا لفلسفة هيوم والبحث العلمي، فإن الذات قد تكون ملائمة لتجميع تصوراتنا وربط السبب والنتيجة معا. إذا هل هناك حقا ذات حقيقية؟ ولماذا هي مهمة؟
هذا المقال ما هو إلا تمهيد استهلالي للسؤال الفضولي الذي يكمن في جوهر من نحن. بغض النظر عن هويتك، أوصي بتعلم الفلسفة من أجل إثراء وجهات نظرك وتفكيرك النقدي و نظرتك حيال العالم.