ظلت حيوانات المحميّة تهنأ باستقرار وطِيب عيش، كلٌ يأتيه رزقه حيث طلبه من أعلى السلسلة إلى أدناها، والطّبيعة تجود عليهم بما حباها الله من خير غير ناقص، وكانت الأسود والسّباع تفرض هيمنتها فهي صاحبة الحظ الأوفر ولا منافس لها. ثم الذئاب وما قل منها شأنا وهكذا دواليك حتّى الأضعف من الغزلان والأرانب والخلد.
بالقرب من الغابة يعيش إنسان غير بعيد عنهم، يحرص على تأمين المحميّة ومتابعتها، حتّى أنّه بنى مزرعته الخاصّة داخل المحميّة، يربي فيها شتّى أنواع الحيوانات ممّا يقتات على لحومها ويزرع أصناف المزروعات، الأرض غزيرة الماء بينابيعها المتفجّرة شتاءً وربيعاً، لم يكن في حاجة للمياه، كون السماء كانت شديدة البذخ فلا تُمسك خيرها، أمّا صيفاً فكان يستخرج الماء من بئر حفرها.
كان الحارس يخرج كل يوم يتابع واقع الحيوانات، ويسهر على حسن سيرورة الحياة في المحمية. استيقظ يوماً ما على علو أصوات الحيوانات بين رغاء وثغاء وعويل وما تلاه، خرج لتقصي الأمر، فلاحظ أنّ البحيرة قد بدأ ماؤها ينضب على غير المعتاد، والحيوانات في هرج حوله، ولم يعد يكفي قطعان الغزال والحيوانات الأخرى، وفي المقابل نَقص الكلأ في أماكن رعيها، فباتت تموت جوعاً وعطشاً، في حين كانت الأسود وكل ذوات المخالب تعيش أفضل أيّامها، في هناءٍ ورغدٍ، فقد استحوذت على منابع الماء المتبقي، لا تكاد تتركه منتظرة كل من يأتيها طالبا للماء، فيفتك حاصدا.
أدرك الصيّاد خطر الأمر على حيوانات المحميّة، فخرج حاملاً سلاحه شاهراً إيّاه بوجه السّباع، قاتلاً من قتل وآسراً من أسر، فهارب غير مدرك، وعادت الحيوانات تأتي منبع الماء في غير خوف لمدّة من الزّمن، وحلّقت الغربان حول الحِمى، غير بعيد.
حلّ فصل الصيف، فأمسكت السماء قطرها، وانحصر الماء إلى زاوية ضيّقة فأمست الحيوانات تعيش الويل في طلبه، وكَثُرت شكواها وبلواها، وكالعادة تدّخل الحارس للبحث في القضية لكن هذه هذه المرّة كان مآله الفشل، فاقت المعضلة مقدرته، انتظرت الحيوانات فترة من الزّمن لربّما يأتيهم الحل لكن انتظارهم كان دون طائل فما استطاعت للحال صبراً. اجتمعت ذات مساءٍ على عقد صلح للبتّ في القضية بشكل عاجل، فقرّروا إرسال الخلد إلى المحميّة المجاورة لمعرفة الأوضاع هناك، انطلق الخلد بالنبش والحفر بأعماق الأرض وعبر السياج أسفله، وعندما تواصل مع بقيّة حيوانات المحميات المجاورة أدرك أنّ الأمر متفشٍ في كل البقاع، فإذا به يعود أدراجه ليبلغهم الواقع والحال، فكمنت له الضباع وهدّدته وأمرته أن يكتم الأمر ويبدل القصّة وأن يحفر نفقا صوب مزرعة حارس المحميّة فيوصل ماتبقى من مائها إليه، كل ذلك تحت جنح الظلام تحت نظر البوم والخفاش وهذا ماحدث،
استيقضت الحيوانات على فزع من تعالي أصوات الغربان فهرعت إليها الضباع وكل السباع، هلموا وانظروا أمركم إن ماء البحيرة قد جف فماذا أنتم فاعلون، تشاوروا فيما بينهم، فقرروا عقد اجتماع طارئ للبحث في الأمر يحضره جميع الحيوانات، قرروا انشاء لجنة تقصي الحقائق وكان “الخلد” رئيسها ، فأشار عليهم أن يبحثوا في أمر اختفاء الماء، فأرسلوا طائر الحدأة للنظر في الأمر ، فما إن رأى الماء يتدفق إلى مزرعة حارس المحمية حتى عاد إليهم مسرعا وأخبرهم بما رأى .. استحوذ الحارس على كل الماء لصالح مزرعته وكل حيواناته.
تشاورت الحيوانات فيما بينها، فأعطى كل منهم رأيه، أما قطيع الغزلان فدافعت عن الحارس بما تعرف عنه فلم ترى منه شر قط، وكذلك الأرانب وغيرها من الحيوانات، ثم جاء الدور على السباع والذئاب وكل ذي مخلب وعلى رأسها الضباع فأفشوا في المجلس كل فعل لايوافق أهواءهم وأنكروه أيما إنكار، وغرسوا في نفوس من بالمجلس كل ما ألصقوا بالحارس من أمر شنيع، فما كاد ينتهي الإجتماع إلا وصورة سوداوية عنه مطبوعة بأذهانهم، نطق الضبع قائلاً : ألم يكتفي بوضعنا في هذا السجن ليأتي الآن ويأخذ منا سبب معيشتنا …
تصرخ الحيوانات بصوت واحد .. لن يكون لن يكون ..
صوت خافت يصدر من داخل قوقعة سلحفاة اقتلوا الحارس واسترجعوا ماءكم واخرجوا من السجن ..فالحرية تناديكم …
وضع الضبع الأكبر خطة بمساعدة “العقاب” وحددوا موعد التطبيق، حين تغيم السماء ويسمع في السماء دوي، ذلك صوت الإذن فبادروا …
أبرقت السماء بعد فصل جفافها وسمع لها دوي قادم من بعيد، صاحت “الحدأة” حان الوقت، قفزت غزالة فوق السياج إلى كوخ الحارس، رآها فاستغرب فعلها، استشعر وجود أسد فرت الغزالة منه، أحظر بندقيته وهم خارجا، فتح باب السياج إلى المحمية لتخرج الغزالة فما كادت تخرج إلا وسقطت أمامه متمارضة، أسرع ليرى مابها وضع بندقيته جانباً وفي تلك اللحظة التقطها الأرنب وقفز فاراً بها، أغلق الذئب باب المحمية إلى منزله، واجتمعت الضباع عليه كي لا يفر وأتاه الأسد يزأر ويزمجر وفتحت له فسحة نحوه ..و هناك كانت مقتلة الحارس باشتراك كل الحيوانات، تلاه برق يخطف الأبصار ورعد يخترق السمع ووابل من المطر ..
هناك خرجت السلحفاة من سباتها. .ألم أقل لكم أقتلوه تفلحوا . هذا أول الغيث، أقبلوا أقبلوا الحرية تناديكم، البوابة البوابة …فهرعت الحيوانات بين قفز وجري تحتفي بموت الحارس وفتح البوابة نحو العالم الآخر …
سقط السياج وهربت الحيوانات، ارتفع صوت الضباع تنادي أبناء جنسها من خارج المحمية، فأتت من كل حدب وصوب، استشعرت القرود أمراً مريباً فتسلقت أعالي الأشجار، و استخفت الأرانب في الجحور وكذلك فعل الخلد، بينما تسلقت السباع على قلتها بعض الجذوع، وهربت الثعالب والذئاب صوب الغابة، وبقي الأسد الزعيم المحتمل ماكثاً على جثة الحارس يبرز قوته، فما لبث إلا وتجمعت حوله الضباع بعدما أمست قطيعا واحداً وأخذت في مناوشته من كل الجهات فأبقت عليه جسداً متهالكاً، صريع بجانب صريع.
أما السلحفاة فقد عادت إلى سباتها لما تراءى لها الذي كان وباتت الضباع سيدة الحال وآمرة المجال، عادت
المياه إلى مجراها، وتفرقت حيوانات المحمية بين مختبئ جبان وهارب حيران ومتدبر ندمان، فاستقوى الجبان بكثرة الخيان واطماع الكسلان ورعونة جهلان، وهذا ماكان في محمية الحيوان من عبر للإنسان ..
