يُعتقد غالبًا بأنَّ النُّظم الاجتماعية الهرمية، والجائرةِ أحيانًا، كالنِّظام الأبوي، طبيعية نوعا ما؛ محض انعكاس لشريعة الغاب. ولكن البناء الاجتماعي للصياد-الجامع(1) المُعاصر يوحي بأن أسلافنا كانوا سوائيين(2)، حتى عندما تعلق الأمر بالجندر [الجنس الاجتماعي]. ويكمن سرهم في أنهم لم يعيشوا مع الكثير من الأقرباء.
لم تختلف هذه المجتمعات عن معظم المجتمعات البُستانية، الرعوية والزراعية المعاصرة فحسب، بل اختلفت أيضًا عن المجتمعات الهرمية للقردة، أقربُ أسلافنا التطوُّريين. تُعرف مجتمعات الشمبانزي والغوريلا بوجود أنماط للامساواة الجنسية تُشبه تلك المعروفة لدى إنسان ما بعد الزراعة.
تاريخ الهرمية
قبل 10,000 سنة مضت، بدأ الإنسان في بناء مجتمعات تعتمد على صناعة المواد الغذائية، والتي أدت بدورها إلى ظهور الميراث وتجميع الثروة. تسببت هذه العوامل بالذات في بروز نظم هرمية متماسكة تعتمد على الطبقية المجتمعية، بمنطق ‘كلما ازدادت الثروة، تزداد معها القوة’. تجسدت هذه المؤسسة أيضًا على المستوى الجندري. فالجنس الذي تمكن من الاستئثار بالثروات هو الذي أضحت له اليد العليا في الاستيلاء على الأراضي، قرارات الزواج، والحياة العائلية، بعدما تمكن أخيرًا من فرض سيطرته على الجنس الآخر.
إنَّ اللامساواة الجنسية -التي تظهر في معظم المجتمعات المصنِّعَة للغذاء والمتطورة حديثًا نسبيّا في تاريخ البشرية- تعني بأنَّ الجنس الأقوى (غالبًا الرجال) له أن يُملي التحالفات بين الأقارب الذين يعيش معهم. أدى هذا إلى تزايد استفحال العشائر كما أنه يسَّر في انتقال الثروة من جيل إلى آخر. لم يكن للجنس الأضعف (غالبًا النساء)، وكقاعدة، أي خيار بخلاف اتِّباع الزوج والتنقل مع عائلته.
لا نُؤمن بكون هذا السِّيناريو القاسي “طبيعيًّا” بالضرورة. فقبل بزوغ فجر إنتاج الطَّعام، كان جميعنا صيَّادًا-جامعًا. وإذا كانت القلة القليلة من الصيادين-الجامعين المُعاصرين تجسيدًا لماضينا التكيُّفي، فإنَّ نتائج بحثنا تفيد بكون أسلافنا أكثر منا سوائية ومساواة بين الجنسين.
الشيء المُثير للدَّهشة من خلال دراستنا لمجتمع البياكا (BaYaKa) من الكونغو والٱجتا (Agta) من الفلبين هو درجة المُساواة المُلاحظة في العديد من المجالات الاجتماعية: لا وجود لشيوخ قبائل، ولا لأُسر كبيرة، ولا لملكية الأراضي أو الثروات؛ كما أنَّ للأزواج حُرية التنقل بين المُخيَّمات كيفما ووقتما يشاؤون، بل ويجب عليهم فعل ذلك باستمرار بحثًا عن الطعام أو عمَّن يُشاركهم إياه. ولهذا السبب بالذات يضلُّ تكوين الجماعات عُرضة للتغيُّر الدائم، ممَّا يجعل من الأفراد في المخيَّم الواحد غيرَ ذوي قُربى، الأمر الذي يقف في وجه تشكل الأنظمة المجتمعية الهرمية.
تسمح حُرِّية التنقل هذه، ولكلا الجنسين، بطلبهم المُساعدة من أفراد عائلاتهم متى احتاجوا إلى ذلك. أفصحت النتائج الرئيسية لبيانات محاكاة الحاسوب والبيانات المُجمعة وفق الملاحظة المُباشرة أنه وبالرَّغم من محاولة كل من الأزواج والزوجات زيادة عدد أقاربهم المتواجدون بالقرب منهم من حيث المخيمات والمسافة، إلا أنَّه لا أحد منهما يملك سلطة إرغام الآخر على التعايش مع ذويه، ممَّا يقتضي بأنَّ كلاهما سيقيم مع عدد صغير من الأقارب والأنسباء وعدد أكبر منه من الأفراد الذين لا تجمعهم بهم أيّ صلة قرابة. إذًا، تطال قواعد المشاركة الجيرانَ غير الأقربون وتُستعمل حركة التنقل الدائمة بين المخيمات كوسيلة لتفادي الأفراد غير المتعاونين.
لم يكن لهذه المُجتمعات النَّجاة في الأوساط البيئية القاهرة دون التشبث بسلاح التكاتف بين الجنسين والعائلات واعتماده في صميم أسلوب معيشتهم. هذا يعني، باختصار، بأنَّ السَّوائية ومشاركة الطَّعام والتعاون على نطاق واسع والمساواة بين الجنسين جميعها من الضروريات لدى الصيَّادين-الجامعين.
تطوُّر العدالة والإنصاف
المُحاكاة التي قُمنا بها هي عبارة عن إجابة آلية بسيطة عن أُحجية عيشِ الصيَّاد-الجامع المُعاصر مع القليل جِدًّا من الأقرباء، ولكنها تضفي الكثير لتصورنا عن تطوُّر الإنسان وعن طبيعته.
لقد تم مُؤخرا اعتبار حقيقة تمكننا من التَّعايش والتواصل وكذا التكاتف مع أفراد لا تجمعنا أي صلة قرابة بهم من أكثر الفروق الجوهرية بيننا وبين المُجتمعات الحيوانية الأُخرى.
يُمكن للبشر أن يصطبغوا بأي صِبغة كانت، من تلك الأكثر وحشية وطبقية، كشنِّ الحُروب والاتِّجار بالجنس، إلى أكثرها تلاحُمًا وغَيرية، كحملات التبرع بالدَّم إلى الغُرباء. إنَّ الخير والشَّر هُما فقط حدَّا طبيعتنا القابلة للتحور والتَّشكُّل والتَّكيُّف. وبالرغم من هذا، تُبرهن لنا الجماعات القليلة النّاجية من الصيَّادين-الجامِعين أنه لم يكن لها لتتطوَّر دون المساواة والتَّكاتف بين الجنسين أو دون تِلك السِّمات التي نُحب أن نُشير إليها ب “الإنسانية على نحوٍ فريد” والتي يتشاركونها مع أسلافنا الغابرين مثل الإنصاف والاهتمام بالغير.
هوامش:
(1) الصيَّاد- الجامع: بالإنجليزية Hunter-gatherer هو مصطلح يطلق على الفرد الذي يتبع نمط البحث عن الطعام من خلال تغيير المكان باستمرار بدل الاعتماد على الزراعة. اتُبع هذا الأُسلوب من قبل جميع البشر في العصر الحجري القديم (قبل حوالي 20 ألف سنة).
(2) سَوائية: بالإنجليزية Egalitarianism مذهب المساواة بين الجميع أو ممارسة المساواة بين الجميع؛ الجميع سواسية.
المصدر: https://theconversation.com/why-our-ancestors-were-more-gender-equal-than-us-41902