لطالما ذكر أفلاطون الجدال الأزليّ القائم بين الفلاسفة والشّعراء، ولكن يبدو أن الفلاسفة المعاصرين بدؤوا يتّفقون حول أهمّية إحدى أبرز مميّزات الشّعر، وهو المجاز، ويبدو أن المجاز ضروريّ فعلًا؛ إذ بدونه ستصبح الكثير من الحقائق والمشاعر والأمزجة غير قابلة للبوح أو الوصف.
ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، وإنما حتى التعبير حول ما تبدو عليه الأشياء في نظرنا يستدعي استعمال المجاز، فنحن نتحدّث عن “الصّوت الحريريّ” للقيثارة، عن “الألوان الدافئة” للوحات تيتسيانو فيتشيليو *، وعن “النكهة المرحة أو الجريئة” للخمر. كما أن اللغة العلميّة الحديثة تستوعب بعض هذه المجازات، إذ تشبّه المخ بالحاسوب، والكهرباء بالتّيار، أو الذّرة بالنظام الشّمسي. فضلًا عن الحقائق الميثافيزيقية والدّينية التي اعتُقد على الدّوام أنها غير قابلة للوصف باللغة المجرّدة أو المعاني الحرفيّة.
لقد كان أفلاطون يتهم الشّعراء أنهم يدّعون تقديم معرفة لم يملكونها. وإن كان هؤلاء الفلاسفة المعاصرين محقّين في رأيهم عن المجاز، فهذا يعني أن إحدى التّوظيفات الشعريّة للغة أصبح ضروريًّا للتعبير عن الكثير من الحقائق.
برأيي، أجد هذه الطّريقة خاطئة من أجل الدّفاع عن قيمة المجاز. يمكن للمقارنات أن تكون ضروريّة للتعبير في مواقف كثيرة، وذلك بنقل ما هو غير مألوف إلى قالب المألوف. ويرى الكثيرون ضرورة المجاز نفسه، كأحد أنواع المقارنات، دون غيره؛ إذ أنه يعبّر عن معانٍ لا يمكن لأدوات التّشبيه أن تنقله.. لكن ما أحاول أن أثبته هنا، هو أنه لا ينبغي للمجاز أن يكتسب قيمته من كونه ضروريًّا للتعبير.
نعم، يمكن للمجاز أن ينقل لنا معاني لا يمكن التعبير عنها بطرق أخرى.. لكن للمجاز الجيّد تأثيراتٌ أخرى على القارئ مختلفة عن جعله يستوعب بعض المعلومات، وهي التأثيرات المقصودة بالتّحديد من صاحب المجاز. وتبدو هذه التأثيرات جليّة في مجال النّقد الفنّي، في محاولة منه لجعلنا نتذوّق ونستمتع باللّوحات الفنية، العمارة، الموسيقى والأشكال الفنية الأخرى.. هناك الكثير من الأسباب التي يمكن سوقها للتدليل على أهمّية المجاز، لكن النّقد الفنّي سوف يقدّم لنا سببين رئيسيين.
فلنأخذ كمثال هذا المقطع من كتاب مؤرخ الفن الإنجليزي جون روسكين “أحجار البندقية”. يصف روسكين وصوله إلى البندقية على متن القارب، ورؤيته لـ “سلسلة القصور ذوات الأعمدة، ولكلّ واحدٍ من القصور قاربه الرّاسي أمام البوّابة، وصورته المنسدلة بين قدميه فوق هذا الرّصيف المائيّ الأخضر، الذي جزّأه كلّ نسيمٍ إلى إبداعاتٍ فسيفسائيّة غنيّة” وتأمله لـ “واجهة القصر الدّوقي، المتوهّجة بأوردة دمويّة، وهي تتأمّل القبّة الثّلجية لكنيسة سيّدة الخلاص”.
ما فعله روسكين هنا بهذا المجاز هو أن وصف أنهار البندقيّة والقصر الدّوقي بمستوى دقّة استثنائيّ، إذ هناك أوصافٌ كثيرة لماء النّهر حين يُلامس النّسيم سطحه، وأوصافٌ أخرى للماء حين يُجزّئه إلى قطعٍ متناثرة، وأوصافٌ أقلّ حين يجزّئه النسيم إلى فسيفساء غنية بألوان قصور البندقيّة ودرجات اللّون الأخضر، لكن مجاز روسكين نقل ما رآه من أنهار البندقيّة بهذه الأوصاف تحديدًا. كما أنّ وصف القصر بأنّه “يتوهّج بأوردته الدّموية” نقل أقرب مظهرٍ ممكنٍ للحقيقة. وهذا النّقل الوصفيّ الدقيق هو أبرز ما يميّز الكتابات الفنية وما يركّز عليه النقد الفنّي كذلك.
إضافة إلى ذلك، فقد حفّز هذا التشبيه الذي كتبه روسكين القارئ على خلق صورةٍ بصريّة لواجهة القصر ولجدول الماء. وهذا شبيهٌ بما قاله جورج أورويل أنّ “صياغة مجازٍ جديدٍ تعين على التفكير بشكلٍ بصريّ”.
لماذا تخلق المجازات الجديدة صورًا في عقولنا؟ لأنها ببساطة توظيفات جديدة للكلمات، ومن أجل استيعابها لا يكفي اعتمادنا على المعرفة مجرّدة، وإنما يستلزم الأمر تسخير خيالنا أيضا. فقد حثّنا مجاز روسكين على تخيّل المياه التي تبدو كفسيفساء مكسورة، وجعلنا ندمجه مع المنظر بأكمله.
وفي الواقع، فإنّ تخيّل شيءٍ طريقة لتقديره وتذوّق قيمته، بعيدًا عن حقيقته المجرّدة التي لا تكفي للتفاعل معه بعمق.
المصدر: OUPblog
تدقيق لغوي: سليم قابة