ربما قد رأيت أحد الفيديوهات المنتشرة على السوشل ميديا الذي يعرض شخص ما يمتلك كرة ضبابية سوداء، ينقلها الى الأشخاص الذين يتعامل معهم، وبدورهم هؤلاء المتلقون ينقلونها لآخرين، وتستمر السلسلة في النمو حتى يصبح كل البشر بكرات سوداء ضبابية يحملونها في صدورهم.
هذا السيناريو الرمزي هو ما يُعبر تقريبا عمّا يكتبه الباحثون في المجال النفسي والطبي في ما يسمى بالصدمة العابرة للأجيال Transgenerational trauma!
إننا حين نتحدث عن العنف، فالحقيقة أننا سوف نتحدث عن كرة سوداء معدية ومتعدية ومنتقلة و مستمرة، ما يجعلنا أمام سلسلة من حلقات الألم اللاّمُنتهية والمستمرة في نسل الإنسان !هل يُصنف العنف كصدمة أو اضطراب؟
تُعرِّف منظمة الصحة العالمية العنف على أنه سوء المعاملة بجميع أشكاله المادية والعاطفية ويشمل هذا التصنيف حتى مختلف سلوكيات الإهانة والتخلي والإهمال ما يسبّب ضررا ضد الآخر، و قد تُعتبر السلوكيات العنيفة والعدائية أعراضا لبعض اضطرابات السلوك أو اضطرابات الشخصية و تشوّه الذات، والمضطربون يشكلون الصدمة لضحايا العنف ما يجعل بعضهم يعيد ممارسته ضد الآخر في دائرة عقيمة لن يخرج منها المتضرر إلا نادرا.
فمثلا دلّت الكثير من المعاينات النفسية أن النساء اللواتي تعانين من تدني صورة الذ ومشاكل الجسدنة كسقوط الشعر والمشاكل الجلدية وارتفاع الهرمون الذكوري، والإصابة بسرطان الثدي شُوهن على المستوى النفسي الأنثوي بسبب العلاقة غير الآمنة التي طورتها أمهاتهن معهن في الطفولة من خلال ممارسة العنف والصراع أثناء تربيتهن.
في عام 1997 ضمن برامج تعزيز الصحة حددت منظمة الصحة العالمية العنف باعتباره مشكلة صحية عامة، والوقاية منه كأولوية عالمية، حيث أشارت إلى عجز المتضررين من الوصول إلى العلاج بأسعار معقولة مقارنة بالحاجة الضرورية في علاج ضحايا صدمات العنف، حيث يؤدي عدم العلاج إلى تفاقم الأعراض وبالتالي مواصلة الاستيعاب الداخلي للمحنة وتدهور صحة الفرد العقلية. إن الأشخاص المتأثرين بالصدمات القائمة على عنف العرق في كثير من الأحيان لا يسعون لطلب العلاج، وهذا لا يرجع إلى وصمة العار وحسب بل إلى قلقهم من أن المعالج لن يتفهم وجهة نظرهم حيال الأقليات المحرومة من حقوقها.
وهنا حثت المنظمة الدول الأعضاء فيها على اتخاذ قرارات إستراتيجية وتجنيد سياسات الصحة النفسية في التكفل العاجل بالمتضررين خوفا من انتقال عدوى العنف.
تلقى الخطاب الكثير من الغرابة والاستهجان مستغربين كيف يمكن أن ينتقل العنف و يُورث!
هل تشعر الأجنة بالعنف ؟
تدرس الحكومة الفيدرالية الأمريكية تشريعا يلزم الأطباء بإبلاغ النساء اللاتي يطلبن الإجهاض بناء على دراسات في الطب النفسي تؤكد على أن عملية الإجهاض ستسبب ألمًا للطفل الذي لم يولد بعد، لهذا يجب أن يتلقى الجنين الذي عمره أسابيع عقاقير تخفيف الآلام قبل الإجهاض، كما يمكن تغريم الأطباء الذين لا يمتثلون لغرامة قدرها 100000 دولار (57700 جنيه إسترليني ؛ 84000 يورو) كما يمكن أن يفقدوا ترخيصهم المهني في ممارسة مهنة الطب.
إن مناقشة ألم الجنين مع النساء اللواتي يطلبن الإجهاض سياسة سليمة تستند إلى أدلة جيدة على أن الأجنة يمكن أن تعاني من الألم، ما دفع بالضرورة الباحثين لمناقشة فكرة تعنيف الجنين سواء بالإجهاض أو بمعاش الأم لأحداث مؤلمة .
فصلت الكثير من الأوراق البحثية الحديثة في إشكالية شعور الأجنة بالألم، حيث وُجد أن النهايات العصبية الحرة (أزرار الإنذار) تبدأ في التطور عند الأجنة بداية من الأسبوع السابع من الحمل، ثم تنضج الدوائر العصبية ما بين الأسبوع 12 إلى الأسبوع 26، وأنّ أي تحفيز ضار يُوجه للأم أو الجنين في حد ذاته يُعتبر عنفا، وكل عنف هو سلوك مؤلم قابل للتطور.
كيف تنتقل صدمة العنف عبر الأجيال ؟
إن العنف كسلوك يُعلم مثلما تعلم مختلف السلوكيات الأخرى سواء من خلال العلاقة الوالدية و أساليب التربية الخاطئة ونظم التعليم غير الصحيحة والموروث الثقافي وشعب المخيال الاجتماعي وهو ما يسمى بالانتقال المباشر لصدمة العنف، حيث يفسر هذا النموذج غالبا الأشخاص كونهم ضحايا للعنف بشكل رئيسي داخل الأسرة أو داخل دوائر المجتمع أو على المستوى المؤسسي أو نتيجة للحرب، و تبرز فئة الأطفال كالفئة الأكثر تضرّرا لأنها تعطل وتشوه عملية نموهم بالشكل السليم على مختلف النواحي، ما يسبب لاحقا اضطرابات نفسية خطيرة تحولهم إلى جانحين ومجرمين مدى الحياة.
كما أشادت دراسات كثيرة أن الأطفال الذين هم أنفسهم لم يكونوا ضحايا ارتكاب العنف، ولكنهم شهدوا عليه يمكن أن يصبحوا دون وعي منهم بعد ذلك عنيفين، أو من المرجح أن يضرب هؤلاء الأطفال شركاءهم عندما يصبحون بالغين مقارنة بنظرائهم الذين نشؤوا في منازل غير عنيفة.
لهذا فإن كل أذى نشعر به في حياتنا لا يموت ولا ينتهي، يقبع داخلك كغول كامن يشوهك و يرعبك بين حين وآخر وربما يسري في حمضك النووي أيضا!
هل الحمض النووي يتذكر آلامنا؟
استغرب الباحثون في مجال الطب النفسي أن الأجيال التي تلت الحرب العالمية الثانية أظهرت أعراضا تضم محتوى يتقاطع مع صدمة الجد، كمحتوى الأحلام ونمط التعامل في الانفعالات وكانوا أكثر استعدادا للإصابة بنوبات الهلع والكرب، ما جعلهم يضعون “نموذج ثاني” لانتقال صدمات العنف خاصة بعد دراسات علم النفس الجيني في الذاكرة الخلوية.
مفترضين أن الصدمات بحد ذاتها مدرجة أيضًا في الكروموسومات ضمن نفس خط العائلة وهي المعلومة التي يصعب تصديقها.
إن المستويات العالية من إفراز الأندرينالين والكورتيزول خلال فترة حياتية طويلة أثر العنف المزمن قد شكلت تشوه في النظم الكيميائية والبيولوجية والعصبية وأعطت دلالات نفسية وجسدية، لكنه لم يتم فك تشفيرها أو تعريتها أو بدراسة ذلك على الإنسان ككائن بيولوجي سوف يعيد إنتاج جيناته بعد أن تم تعنيفه فتشويهه على مختلف الأصعدة، وليس بالضرورة أن الأجيال اللاحقة من ذلك الشخص الذي عانى من صدمة التعنيف الأصلية تصاب بنفس الأعراض، لكنها ستكون أكثر عرضة من الآخرين للقلق والتوتر والاكتئاب .
هناك الكثير من الأوراق البحثية التي تفترض نشاطا مختلفا للحمض النووي، يُعرف باسم الميثيل DNA methylation، حيث يتفاعل الجينوم مع البيئة عن طريق تنشيط الجينات أو تعطيلها، تعتبر الميثيل آلية فوق جينية حيث أنه ليس التسلسل الجيني نفسه الذي يتم تغييره بل هو قابلية القراءة أو نشاط المعلومات المشفرة.
ملخص هذا النموذج يشير إلى أن الأفراد الذين يخضعون لاستجابة سلبية لضغوط صدمات العنف، يمكنهم في الواقع نقل هذا إلى الأجيال اللاحقة من خلال عمليات الحمض النووي.
هل يمكننا التشافي من صدمات العنف ؟
نجح العلاج النفسي في إنقاذ أجيال كثيرة من الألم، وساعد المتضررين من العنف على بدأ حياة سليمة بعد أن شوهت الأحداث استقراهم النفسي.
يمتلك المختصون في المجال النفسي برامج مختلفة في تعزيز صحة الضحايا، وتطوير قدرتهم في الشفاء عبر طرق و تقنيات علاجية كثيرة ضمن مقاربات نفسية معرفية وسلوكية وتحليلية تساعد الإنسان على الشفاء من الألم.
الألم هو حلقة مشوهة وصحية في سلسلة نمونا كبشر، حيث تبدو مشوهة إذا توقفنا عندها معتقدين بعجزنا أو بلوم أهلنا على عدم توفير الحماية الكافية لنا، وتغدو صحية إذا آمنا بأن لكل الآباء مستوى وعي معين، و أنهم بذلوا كل ما كان في وسع وعيهم وأن من المسؤولية الذاتية أن نسعى في البحث عن الشفاء وتوقيف سلسلة العنف، ما يحدث نقلة في تطور وعينا ودفعنا نحو تجويد حياتنا وحياة أطفالنا من بعدنا، وهو ما يسمى بالنماء ما بعد الصدمة.