إلى كل البالغين الذين أثقلوا كاهل طفولتنا

كان ولا يزال الضرب في المدارس أمرًا شائعًا ومقبولاً مجتمعيّا _أضربك لكي تتعلم، أو أضربك لمصلحتك_ هكذا يتّم ربط مفهوم الضرب عند الأطفال بالتربية والمصلحة، إذا كنت تلميذا نجيبا ومؤدبًا لن تتعرض للضرب، وطالما تعرضت للضرب فلأنك فعلت ما يستحق.

تختلف أسباب وأساليب الضرب من شخص لآخر لكنّه دائما ما كان الخيار الأول للتّربية، سواء كان من والدك لأنّك أسأت، أو من طرف المعلم لأنّك لم تحضر دروسك بشكل جيّد، أو من طرف الغريب في الشارع لأنّك قليل أدب أو لأنّه يعرف والدك فيريد أن يساهم في تربيتك عرفانا له.


كنتُ تلميذًا شاطرًا _أو هذا ما ظننته_ حتّى أخبرتني أمي حين كنت أتباهى أمامها بسجلي الدّراسي أنني لم أكن دائمًا هكذا وأنّني عانيت في سنتيّ الأوليين في المدرسة، وأنّ صبر معلمي الذي كان ولايزال شاعراً معروفًا في الجزائر هو سبب تفوقي فيما بعد، أذكر أنّ معلمي كان عصبيّا نوعًا ما، لكنّه كان أيضًا معلمًا جيّدا، وكان يهتم لأمرنا حقًّا، ويحرص على تعليمنا بشكل جيّد، لذلك كسب احترام أمي وأبي، وتقديري الدّائم له.

في المدرسة لم أتعرّض للضّرب كثيرا، وأستطيع أن أحصي المرّات القليلة التي ضربني فيها معلمي لأنّني فعلت ما أستحق أن أضرب لأجله، وكنت أستطيع أن أرى الحسرة في وجه معلمي لأنّي دفعته لذلك، كان هذا م يؤلمني أكثر من ألم الضرب في حدّ ذاته.

الأطفال لا ينسون

انتقلت للمرحلة الإعداديّة، وتغيّر عالمي وغادرت من مكان قدّم لي الأمان نحو مؤسسة قوامها الإساءة النّفسيّة والجسديّة، وعلى قدر جمالها الظاهر، على قدر بشاعة تصرّفات البشر بداخلها، ففيها تعرضت لصفعتي الأولى، وتعلمت سريعًا أنّني قد أتعرض للضّرب بسبب أو بدونه، كرهت الدّراسة، وتدنّى مستواي بشكل كبير نتيجة لذلك.

إنّ الصفع، أسوء أنواع الإهانة التي قد يتلقاها الطفل، فألم الضّرب بالمسطرة على اليد لا يضاهي ألم الصّفعة، ووقعها على النّفس، معها تشعرُ أنّ عالمك انهار أمامك، فهي لا تنتهك حرمة جسدك فحسب، بل تخترق كبرياءك، وتُسقط جزءًا من احترامك لذاتك. الأمرُّ من ذلك، أنّني حين صُفعت، لم أُقدم على فعل شيء لأستحق هاته اللّطمة المفاجِئة على الوجه، تلك الصفعة التي سقط معها مفهومي لثنائية الإساءة والعقاب، ودفعني هذا لأشعر بالخزي والخذلان تجاه نفسي حينها، ولا أزال أحمل بداخلي غلاًّ لا أستطيع تجاوزه.

كبرتُ قليلاً وتعلمت أن لا أتحمل الضرب مرّة أخرى على أشياء لم أفعلها، ووقفت مراراً في وجه أساتذتي الذين حاولوا ضربي بدون سبب، تعرضت للطرد من القسم مرّات كثيرة لأنّي رفضت مدّ يدي للأستاذ، حين تكرّر الأمر كثيرًا، اقتنع المشرفون التربويون أنّ المشكلة فيّ وأنّي قليل تربية، وأصبحت لديّ سمعة لا أستحقّها بأنّي طفل مشاغب، واقتنعت أنا معهم بذلك، فتحوّلت من تلميذ هادئ، للمشاغب الذي كانوا مصرّين على رؤيته.

انتقلت للثانوية فتوقف الضّرب، وتوقفت معه مشاغبتي، وعدت تدريجيّا للشخص الهادئ الذي كنته دائمًا، لكن لم يتوقف إحساسي بالكره لأيّ مظهر من مظاهر الظلم في هذا العالم، وتعاطفي الدّائم مع ضحاياه، رغم ذلك لا أزال أذكر كل الضربات التي تلقيتها، وكل من تسبب لي بها، ولا أستطيع تجاوزها، وفي كل مرّة أرى أخي الصغير، أتذكّر الحقد والغل الذي كان يعلو وجه أساتذتي أثناء توجيه ضرباتهم، ولا أستطيع تخيل كمِّ الوحشيّة التي تكمن بداخل شخص ما قد تدفعه لضرب كائنٍ بريء.

ومع انعدام إدراكنا للعنف كحالة استثنائيّة، يصبح هو الحل الأوّل لمشاكلنا، وتتوقف معه دهشتنا منه، وتصبح كل أنواع العنف مباحة. حين يضرب الشيخ طفلاً، أو رجل زوجته، أو أخته في الشارع، وتتدخل للحيلولة دون ذلك فأنت لا تمنع العنف، بل تحاول إيقاف عملية اصلاح وتربية. مع تكرر هذا الأمر فقدْ فقدَ المجتمع بوصلته، وامّحى الخط الفاصل بين المباح وغير المباح، وأصبح من الممكن حتّى تبرير جريمة القتل بأنّها عملية تربية خرجت عن السيطرة قليلاً.

أحاول دائمًا أن أوازن بين إيماني الدّاخلي بأنّه لا طائل من محاولة تغيير أي شيء، وأنّ الأمر كان وسيكون هكذا دائمًا، وبين الجرأة في أن أكون ذلك الآمل، الآمل بتحسّن الأمور. ولطالما وجدتني متورطا في شجارات مع أشخاص لا أعرفهم فقط لأنّني لا أستطيع التغاضي عن العنف. ولم يعجز البشر في أي مرّة من هذه المرّات عن إدهاشي بقدرتهم العجيبة على إيجاد واستصاغة مبررات لأشدّ التّصرفات قذارة.

في إحدى هذه المرّات رأيت شخصين يحاولان اختطاف مراهق عن طريق حشره في صندوق السيّارة، وحين تدخلت للحيلولة دون ذلك، لم أفكّر في الأمر كثيرا كان كل شيء جلياً بالنسبة لي، وبعد شد وجذب، استخدما الأسطوانة المعهودة “كنت أريد تربيته لقد قام بشتمي كيف يتجرأ هذا الكلب عليّ، أنا أُمضي كل يومي في المستشفى في وحدة العناية المركّزة ليأتي هذا الفَرخ ويقوم بإهانتي”، هذا كان مبرّره، لأنّه طبيب يحق له أن يحشر النّاس في صندوق سيارته.

ما أدهشني فعلاً آنذاك هو ردّ فعل النّاس حين قال أنّه أراد أن يعلمه درساً، وأنّه كان سيأخذه لوالده الذي زعم أنّه يعرفه ليخبره بما فعل ابنه.

تخيّل أن تتوقف سيارة أمام منزلك، ثمّ يترجّل أحدهم منها ليخرج ابنك من صندوق سيارته كيف ستكون ردّة فعلك؟ لقد تقبل النّاس عذره وانقلبوا عليّ، فلقد أسأت فهم الموضوع فهذا ليس اختطافًا، هذه تربية! لم يتنهِ الأمر عند هذا الحد، ففي مركز الشرطة لاحقًا، حاول رجال الشرطة الضغط عليّ لأغير شهادتي، وعلى عائلة الطّفل في التنازل عن القضيّة، وهذا ما علمت أنّهم قاموا به لاحقًا تحت ضغط العرف والتقاليد.

من قرّر أنّ الضرب هو أداة للتّربية؟ وهل تعرّض الذين قاموا بضربنا بكل تلك القسوة لضرب مماثل؟ لطالما أحبّ أصحاب أشد النّفوس بشاعة بالتباهي بتعرضهم للضرب القاسي في طفولتهم، وأنّهم كبروا ليصبحوا رجالاً أسوياء. وفي كل هاته المرات، أتمالك نفسي عن إخبارهم بالحقيقة، حقيقة أنّهم غير أسوياء بالمرة، وأنّهم مجموعة من العاهات النفسيّة المشوِهة لهذا المجتمع. أشعر بالحيرة بين لومهم عمّا يقومون به، أو التّعاطف معهم لأجل ما مروا به، وكم الإساءة التي تعرضوا لها، دون أن يدركوا ويعووا تلك الإساءة.

تدقيق لغوي: ميّادة بوسيف.

كاتب

الصورة الافتراضية
Elaguab Oussama Bachir
المقالات: 0

اترك ردّاً