ليسوا أشباهنا في العالم

أنا من ناحية أدرس إنسانا محددا عاش في وقت محدد وشارك في أحداث محددة. ومن ناحية ثانية لا بد لي من أن أتبين فيه الإنسان الخالد. أتأمل نبض الأبدية أي أن أنظاري معلقة على الإنسان وحده دوما.

سفيتلانا أليكسيفيتش

إدواردو غاليانو في أحد كتبه يقول، “لا توجد متعة في كتابة ما تعيشه، إن التحدي يكمن في أن تعيش ما تكتبه”. لا شك يراودك في مدى صحتها؛ فأصعب تحد قد يمر به من أراد أن يكتب هو تحدي كتابة ما لم يعشه ويعايشه، كأن يكتب عن حرب ليس فيها سوى متفرج على أحداثها من وراء شاشة أو من وراء صورة أو من وراء قصة..

في الحرب يوجد مصوران، مصور بالكاميرا ومصور بالقلم، كلاهما يقتات على مآسي ضحايا الحرب، إما بالصورة أو بالقصة. في الحرب تتكلم الضحية بلسانها الصامت، لكن الصورة والقلم هما من يوصلان هذا الصوت للعالم ليسمع ويرى.

المؤرخة البلاروسية الحاصلة على جائزة نوبل للآداب 2015 “سفيتلانا أليكسفيتش” تقول: “لا أكتب عن الحرب، بل عن الإنسان في الحرب. لا أكتب تاريخ الحرب، بل تاريخ العواطف والمشاعر. فأنا مؤرخة النفس والروح..”

لذا عملت على هذا المقال من خلال شهادة لفلسطينيين عانوا من الحرب طويلة الأمـد مـن تطهير عرقي إلى تهجير قصري وقصف عنيف من طرف الكيان الصهيوني الغاشم، دون أن يحـرك فـي الـرأي العـام شـعـرة. هنا أحاول أن أكون همزة وصل بيني وبينهم أولا ومعكم ثانيا. ومهما صورت من مشاهد فلا يمكن لي أن أنقلها بذات الحال والمشاعر التي عيشت بها. هنا مشاهد يختلط فيها الخيال بالواقع، والواقع بالمآسي. مشاهد يمكن لعينك الثاقبة أن تفرق بين الواقعي والخيالي فيها. لكن في الحرب هذا لا يهم فحتى ما هو خيالي لا يمكن لك أن تتصور مدى واقعيته وما يمكن له أن يخلفه من جروح في النفس والروح. فكيف يمكن لهم أن يصفوا أحد أرسخ المشاعر التي راودتهم في الحرب؟ أو الإتيان بموقف راسخ في الذاكرة لا يمكن تجاوزه بسهولة؟

ليبقى الفلسطيني/ة سيد/ة موقفها ونقول لهم دوما “أنتم القصيدة.. فاكتبوا ونحن سنقرأ

مرحبا، أنا سلام.. غزة

أعيش في أرض خلقت للسلام وما رأت يوما سلاما في أول حرب عشتها، كانت لدينا قطة صغيرة كلما سمعت صوت انفجار تبدأ بالركض يميناً ويساراً وتتخيط بالجدران.. وفي كل حرب أتذكرها وأفكر كيف أنها كانت أصدقنا تعبيراً.

في الحرب تموت كل الأماني وتبقى أمنية واحدة: “أن تموت برفقة عائلتك أثناء النوم! لتجنب الحسرة – يقولون لي لا تقلقي ما دمت تسمعين أصوات الانفجارات والطائرات فهذا يعني أنك لم تموتي بعد، وأفكر هازئة، يا لها من نعمة! ألا يعني هذا أن غيري من مات هذه المرة؟ يسألني بخوف: ما هذا الصوت ؟ أمينة شرح كاذب بالون ضخم الفجر للتو، وجعلنا من كل انفجار احتفالا هو يعرف أنني كاذبة وأنا يلاحقني ذنب احتفالي.

مرحبا، أنا يزن.. حيفا

أخي الصغير ينطقه زن، في الدري ، ليس مهما كيف ينطق أحوك السمك، المهم أن يناديك وتسمع صوته من بين أصوات الصواريخ والقصف، وربما من تحت الأنقاض أيضا أرى بعين العلم والكاميرا، يمكنك أن تعتيرتي صحفي حرب يحاول أن يكون صوت من لا صوت له في وظيفتي صادفت الموت كثيرا لكنه لم يقصتي إليه بعد، صادفته في عين أم وليد برصاصة في نصف رأسها وابتسامة رضا تعلو شفتيها، لحية أبو علي الملطخة بالدماء والحناء في كف الصغيرة ايمان، في الحرب لا تستطيع اللحاق لمعرفة كل قصص الموتي لذا أكتب قصصهم بنفسي واعطيهم أسماء مناسبة وأترك نهايتهم مفتوحة لحياة ما بعد الموت.

مرحبا، أنا ملك.. يافا

عمري حربين وثلاثة شهور على الكرسي، لساني بصق وفي احيانا كثيرة يرتعش الرعشة في الحرب لا تعنى الخوف بل انتظار الموت لا يرعبنا الموت بل انتظاره ما بفعل بنا الأفاعيل: تنتظر الموت تنتظر وقف القصف تنتظر الحرية تنتظر هدنة؛ حياتنا صارت كلها فعل انتظار.. كنا ننتظر عرس أخي بفارغ الصبر: لكن الموت كان ينتظره من بين عيني قناص لعين زغردت نساء الحي العرسنا الذي رف إلى عروسة في السماء. نحن نزغرد في جنائزنا كما في أفراحنا حتى نثبت للعدو أننا لا نهاب الموت وان شهدائنا قدموا أرواحهم حتى نعيش نحن.

مرحبا، أنا عائشة.. بئر السبع

ينادونني يا عائش. أحاول أن أعيش تيمنا باسمي ولأجل عائلتي التي تكبـر فـي قلـب الحـرب الحرب قاسية. وأقسى ما فيها أن يغلب خوف أحبائك على خوفك، لا ضير أن تشعر أنت بالخوف لكن خوف من أمامك يكون أصعب على قلبك.

في الحرب كل شيء متاح للفقد. ولم يكن خوفي على نفسي، بل عدم استعدادي لفقد أحبتي، عائلتي من أمامي في أحد الغارات على منطقتنا اضطررنا للخروج وترك كل شيء وراءنا، فكرت في مكتبتي، أشفقت عليها لو قصف بيتنا وتحولت إلى رماد فقمت بتأمينها كما قمت بتأمين أبنائي. ربما تتعجب فالوقت ليس مناسبا لذلك لكنك تنسى أن الحرب علمتنا أن نشكل روابط حتى مع أشيائنا الغالية على قلوبنا.

آدم حفيدي لابنتي أتـم عامه الأول في اليوم الخامس والعشرين من الشهر الخامس طفل يحبـو بدهشة الملائكة ليكتشف عالمه ككل الأطفال ولكن أي عالم؟ حدث أن سمع دوي القصف، وجدناه يضع يديه على رأسه ويصدر همهمات تدل على خوفه حتى صار كل دوي يجعله يرقب شبابيك البيت منتظرا. في الحرب لا ننسى الكلمات التي تقال لنا، كقول ابنتي الخائفة على ابنتها في إحدى الغارات على المخيم “ابنتي يا رب. أنا خائفة على ابنتي من بعدي وحزينة على نفسي لو تموت أمام عيني”.

مرحبا، أنا باسل.. حي الشيخ جراح

ألم يخطر على بالك الشهيد باسل الأعرج؟ المثقف المشتبك، الفلسطيني لا ينسى ولا ينسى أيضا يموت وهو يعض على طرف أغنية يكملها في السماء بتعبير لغسان كنفاني. صديقي سامي استشهد قبل يومين في عملية فدائية، مات وهو مازال بعض على طرف أغنيته التي أكملها في السماء. لا تسل عن سلامته، روحه بين راحته، بدلته همومه كفنا من وسادته في كل شارع من حينا لنا أغنية وقصة، ليس من السهل علينا التخلي عنها للمستوطن المحتل، هم يعتقدون أننا نخافهم ونخاف أسلحتهم ونحن نؤمـن أنـنـا أقـوى منهم وأن نصرنا يقترب وصمودنا سيبقى شوكة في حلوقهم.

مرحبا، أنا أحمد.. غزة

آسماني أبي حتى قبل أن يتزوج بأمي. انتظرني والدي لسنوات طويلة، حلم والدي كان بسيطا أن يصبح لديه ولد. ولد يحمل اسمه – هكذا يقولون عندنا، يصرون لأن الأبناء هم من يحملون أسماء آبائهم- وكان يشعر بالفخر كلما ناداه أحدهم بأبي أحمد. كنا نجلس لتناول طعام الغداء قبل أن تهتز الأرض فجأة من حولنا وتصبح رماداً وتتناثر إلى أشلاء، الطعام والصحون والتلفاز وأبي أيضا تناثر إلى أشلاء.. قالوا لي أنهم وجدوا ساعة يده في معصمه وهي ما زالت تدق وتدق، كان ولا يزال واقعا مرعباً، وأدرك الآن أني سأحمل اسم والدي وسأفتقده كثيراً وأتذكر دائما أن ساعة معصمه لازالت تدق.

مرحبا، أنا محمد وهذا مالك وتلك الصغيرة منى.. مخيم جباليا غزة

ثلاثتنا جمعتنـا أخـوة الحرب وأخـوة نقص أعضائنا، أنـا ينقصني أصبعي الشهادة والانتصار الذين لا يزالان مرفوعين في وجه المحتل، مالك تنقصه رجل يسري كان يسدد بها الكرات بقوة على مرمى جدار أرضنا الخالد، بينما مني صارت تحرسنا بعين واحدة وتلوح لنا من بعيد بكف واحدة.

مرحبا، أنا عالية وهذه الصغيرة ميساء.. عكا

تبلغ ميساء من العمر سبعة سنين، كل ما تذكره أن أمها أخذتنا إلى بيت جدها داخل المدينة تنشد الأمان بعد تواصل القصف في منطقتهم. تعرف أننا في الحرب نتعم أحيانا بقليل من الأمان الخاطف الذي لا يطول بل يخبئ لنا مفاجآت من بعده. في الليلة الثانية حين كانت نائمة في حضن والدتها ضرب زلزال رهيب، ووجدت نفسها وسط غبار وأحجار، بقيت في حضن أمها تحت الركام تسمع أنفاسها الرقيقة وصوتها المبحوح الذي يردد الدعوات علها تصل السماء. صحت الصغيرة في المستشفى على أصوات جلبة المشافي. كلما سئلت ميساء عن قصتها تنطق بصوت تانه: “لا أعرف حتى الآن شيئاً عن أهلي، أخذني والدي إلى بيتنا القديم المهدم وأتى أناس والتقطوا لنا صوراً، وقالوا أشياء لم أفهمها، حتى والدي لا أستطيع فهمه، لا زال يبكي كلما سألته عن أمي وإخوتي.

مرحبا، أنا مريم.. الرملة

يقولون لي أنني أملك صوتا جميلا هل يمكن أن أغني لكم؟ لو كل الأغاني الـ غنوها لحروبون … غنوها للحب … لو كل الشهدا الـ بعتوهن تيموتوا … بقيوا زرعوا الأرض . لو كل الأطفال الـحملوا رايات النصر … لعبوا رسموا الفي … لو كل هاللي نحنا دفنونا بالعتمة … نسأل وينا الشمس … شو كانت حلوة بلادي.. شو كانت حلوة بلادي”.

يداي ترتعشان عند كل قصة وشهادة أحاول كتابتها ولازال لدي العديد من الشهادات والحكايات التي مازالت قابلة لأن تروى وتسمع ويصل صوتها لكل العالم، غير أن مقالي محدد بعدد الكلمات. قمت بإرساله لكافة الجرائد والمجلات التي أعمل معها بين الحين والآخر ونشرت فيها مقالاتي وتقاريري من قبل، كما قمت بالاستعانة بصديق لترجمة المقال وإرساله إلى أحد الصحف العالمية. صحيفة The Freedom. ولا أزال في انتظار أن يرى المقال النور فالحياة فعل انتظار.

في فلسطين يقتلون بالرصاص بينما في هذه المدينة يقتلوننا بالقرارات والقوانين التي يجدون لها دوما مبررات كما يجد الكيان الصهيوني مبرزا لقتل الفلسطينيين، في العالم الذي نعيش فيه أصبحت كلمات كـ الحرية، والوطن، وحقوق الإنسان، وتقرير المصير وحرية التعبير، مجرد شعارات باليـة يهتف بها الرأي العام دون أن يعطيها ويوفيها حقها. يخيـل إلـي أنـه لـو عـاش أحدنا فقط هولندي لأناه حقه على طبق من ذهب من طرف هيئة الأمم المتحدة بحجة حل المشاكل النفسية للقطط الهولندية.

بعد استلامي رسائل الرفض هذه، تتردد في ذهني مقطع شعري لمريد البرغوثي يقول فيه: “هناك حياة بعد الموت ولا مشكلة لدي لكني أسأل: يا ألله! أهناك حياة قبل الموت؟” أتساؤل مع مريد في هذا العالم يا الله أهناك حياة قبل الموت؟ أعرف أن الفلسطينيين ليسوا أشباهنا في هذا العالم حتى أسقط هذه المقولة علينا نحن رجال الصحافة لكن النزعة الأدبية تحتم علي ذلك. في الأخير عزيزي القارئ ألا زلت تؤمن بحرية التعبير وأن من حق الشعوب أن تقرر مصيرها بيدها؟

أرجوك لا تهز رأسك وتصمت!

على الهامش

لم ير هذا المقال النور سوى على مواقع التواصل الاجتماعي بالكثير من التحايل على اللوغاريتم نظرا للتضييق الممارس من طرف هذه المواقع، كما تم نشره على بعض المنصات الإلكترونية التي لازالت تؤمن بحرية التعبير وتترك لنا فسحة للحياة. غ.ك 27/06/2021

كاتب

الصورة الافتراضية
Laib Kaisse
المقالات: 0

تعليق واحد

اترك ردّاً