مراجعة كتاب “من دس خف سيبويه في الرمل؟” وحوار مع مؤلفه.

بطاقة فنيّة عن الكتاب:

اسم الكتاب: من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟

اسم الكاتب: عبد الرزاق بوكبّة.

اسم الناشر: الطبعة الأولى عن المكتبة الوطنبّة ودار البرزخ.

الطبعة الثانية عن دار فيسيرا.

سنة النشر: الطبعة الأولى 2004 ، الطبعة الثانية 2012

تصنيف أدبي: نصوص.

عن الكتاب:

بشيء من التجاوز للأنا، وشيء من الرّغبة في التأسيس لأسلوب جديد، تلتقي فيه تجربتا الواقع والكتابة، وتتفتّق فيه اللغة من جديد، كتب عبد الرزاق بوكبّة “الشّاب”، هذا الديوان الذي يُعتبر تجربةً استثنائية، مغايرة ومبتدَعَة شكلاً ومحتوى، لصالح الأدب الجزائريّ المعاصر. فمن حيثيات الشكل، فهي “نصوص”، متفاوتة الطول والقصر، نصوص بعناوين، نصوص بدون عناوين، عناوين بدون نصوص، علامات ترقيم غير معهودة كالخط المائل (/) ونقاط الحذف وسط الكلمات والأحرف، رسومات مجرّدة، مرفقة ومرتبطة بنصوص، وأخر مستقلة عنها.. ناهيك عن خلو الكتاب من مقدمة، وفهرس، بل عوضت الأولى بمدخل وتقديمات كانت خاتمة الكتاب في الطبعة الثانية التي اعتمدناها، والثانية عوضت بجملة ساخرة بخط الكاتب:” لماذا الفهرس وما في الكتاب، في الكتاب”.

أما من حيثيات المحتوى، ذلك أنها “نصوص” لا تقبل تصنيفا أدبيّا واحدا فقط، بل تضع إحدى أرجل الفرجار في أرض الكلمات وتدَوّر الرجل الأخرى على أجناس الكتابة: الشعر، القصّ، الحوار.. الخ، وأنها نصوص لا تخضع في نحوها وصرفها إلا لرياح عبد الرزاق، تغيرات، بياض وسواد، تركيب وتفتيت، توحيد وتعدد، حضور وغياب، كتابة وحذف، فصحى ودارجة.. وإن وجد البعض في هذا الكثير من الغموض وانعدام الإفصاح الذي يحجب الفهم، وقد ينفر البعض من استعمال اللغة المحكية، أو يعيب الكاتب تمرده على قواعد اللغة المعمول بها من قرون.. إلا أنّه كان علينا كتابة انطباعنا متسائلين:

من يجرؤ على دسّ خفّ بوكبة في الرّمل؟

تأبى النصوص في باكورته الابداعيّة هذه “من دسّ خف سيبويه في الرمل؟” أن تتجنّس بجنس من الأجناس، إذ الكتابة – عنده- كتيبة ترابض في جغرافيا الجمال ولا تحفل بتخوم سلطة قواعد اللغة والتقليد والمجتمع، كأن بوكبّة يهدم أصنام من سبقه، ولا يلتفت إلا إلى “إبراهيم” في جوّانيّته، ولا يولّي روحه إلا شطر كعبة قلبه، ومن قلبه المعجون بتجربة المعاناة التي تخلق المعنى، يستمد طقوسه وشعائره وقوانينه في البوح والخلق لتشكيل فضاءاته الشعرية.

نصوص “من دسّ خف سيبويه في الرمل؟” ليست شعرا ولا نثرا، ولا إيمانا ولا كفرا، ولا تعريّة ولا توريّة، لا تتّخذ منزلة بين المنزلتين، وليست مذبذبة بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. بل قل: إنّها هؤلاء وهؤلاء، فيها يأتلف المختلف، وتتزاوج في نصوصه أصوات شخوصه: هدأة القرية مع صخب المدينة، رغبات الجسد مع تطلعات الروح، أنين الإنسان وكتمه لآهات الجرح، أمله ورغبته في فتق غشاوة المسكوت عنه والبوح.

الحب والجنس، الجميل والجليل، الألم والأمل، المجتمع والفرد أو الوطن والبدن، كلها ثيمات تشَكِّل سِفر “عبد الرزاق بوكبّة”، السِّفر بوصفه سِفرا لتجارب الإنسان الحقّة، سَفَراً في المعاناة يُسفِر عن ممكنات العيش بشعرية، متخذا لقطات الحياة البسيطة ليؤثثها بمعنى شعري طازج، مترصدا إياها بكاميرا عين الشعر لا عين الصقر.

هذا السِّفر بقدر ما يكشف لنا بوكبّة الإنسان، بقدر ما يدفعنا لأن نكتشف الإنسان فينا. انه ببساطة يمكن أن يستحيل مرآة نهندم فيها أرواحنا، أنه ببساطة يساعدنا في الإجابة على سؤال ابن عربي الأنطولوجي: من الذي في المرآة؟ لذلك فهو كتاب يستحق القراءة بحقّ.. وبتأمّل.

تساءلت منال بوخزنة أيضا: 

وُجدت اللغة لتعبِّر عنَّا، هي مرآة أحوالنا، تُصوِّرنا، تعرِضُنا ونطِّلع فيها على صُورنا، فنشهدنا، ونشهد ما بنا، اللغة تعكس دواخلنا، وعينا ولاوعينا. هكذا قدَّمها بوكبَّة في ” من دسَّ خفَّ سيبويه في الرَّمل”، حين علَّمنا أنَّنا بذلك لا نخضعُ لها، بل تخضعُ لنا، الفراغات الصَّامتة بين الكلمات، الجمل الصَّاخبة،غير المكتملة، المكتملة على نحو غير متوقَّع، والمكتملة على النَّحو المتوقَّع، التركيبات المبهمة، كلُّ ذلك يعكسنا، في تجلِّياتنا المختلفة، فنحن إن قعَّدنا قواعدَ لما يعبِّرُ عنَّا، هل يعبِّرُ عنَّا بعد ذلك؟! وهل يدسّ ذلك خفّ سيبويه في الّرمل؟

تركت سلمى بوقرعة انطباعها قائلة:

القارئ لكتاب “من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟” سيحسّ أنّ ما يقرأه غريب جدا عن عالم الأدب المعروف، وكأنّ مجرد الاِطّلاع على أولى صفحاته مكافئ لدخول جحر الأرنب الذي يقود إلى عالم “أليس في بلاد العجائب”. سيشعر أن الحروف اكتسبت ميزة أخرى وصارت ألوانًا أيضًا، وسيجد نفسه واقفًا أمام لوحة للفن التشكيليّ، لوحة مليئة بالأحاسيس العميقة التي يغلبها الألم والسخرية المريرة، بعبارات غريبة ذات دلالات مزدوجة، تضطرك لِأَن تَقرأ النّصوص بتأنّ أكثر من مرة لتَرتَشف معانيها بالتدريج، سترى أنّ الكاتب تمرَّد على قوانين الكتابة لأن دواخله غير اعتياديّة ولا تستحق نصوصًا عاديّة.

بالسّفر من صفحةٍ إلى صفحة، سيجد القارئ أنه تورّط في كتاب غريب حقًا، مليء الرّسومات/الخربشات والعناوين الغريبة، وكأنه كتابٌ سحريّ انتقل إلينا من بعد زمنيّ آخر

سيقرأ أعماق الكاتب في شكل أحاجيّ لن يكون من السّهل عليه حلها، وسيصل في النهاية إلى ذلك الفهرس الذي سيعتبره تحفة فنية.

في رأيي الشخصيّ، أجد أنّ العيب الوحيد الذي قد يراه الأغلب عاديّاً لتضارب الأذواق هو إدراج اللغة ” الدارجة”. لكنّني أرى أنه يستحق أن يكون كتابا يكتشفه علماء الآثار من المستقبل البعيد، ليعتبروه لغزًا بشريّا يستحق التخليد في متاحفهم العالميّة لما يحمله من جمال وصدق وفوضى منظمة وهو بهذا الحجم الصغير. وكأنه يخبرنا أن مضمون الكتاب هو ما يعطيه وزنه الحقيقي لا عدد صفحاته.

وكتبت بشرى بوخالفي:

“من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟”، كتاب لخصّ هواجس بوكبّة في حواليّ مئة نصّ قصير، منها ما جاء بنَفَس سردِيّ ومنها ما كان بنَفَس شِعريّ، بُنِيَت على صراعٍ حادٍّ مع اللّغة ما منح كاتبه قاموسًا خاصًا به وهويّة تميزه كمبتدع عن غيره من بقيّة الكتّاب. الكتاب عبارة عن كتابة متجدّدة من حيث الشكل والقاموس واللغة والحالة والرؤية وهو مشروع لحياة جديدة، لحياة أخرى لا تغلفها عباءة الشعر الرومانسيّ الانهزاميّ التي طالما غلّفت الشعراء، هو حياة جديدة لكاتب كان قاب قوسين أو أدنى من الموت، الموت في التيه والحرمان، فنجده يغرقهما في التأمّل والكتابة، فأبدع في كتابة نصوص لم تخضع لوصفات مسبقة ولا يمكن تصنيفها ضمن أيّ نوع من أنواع الكتابة، فهي أعلنت ميلاد أدب جديد لا يعترف بقواعد النحو كثيرا، بل أسّس لنفسه نحواً جديدًا ، هو نحو المعنى وعمقه، نحو اللحظة والأنا الراهنة.

وقالت نجيبة عامر أيضا:

“من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟” سوف تضَعُ كلَّ القواعد جانباً وتحاول التأسيس لتجارب جديدة ومغايرة، رغبة “تكسيرٍ” كبيرة لكل ما هو مألوف و”بناء” لنوع من الكتابة الجديدة والفريدة من نوعها.

من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟ مجموعة من القصص القصيرة والتجارب البسيطة التي يعطيها الكاتب لمسة لغويةّ فريدة كقطيعة مع النّصوص السابقة وقراءة النّصوص يعطيك إحساسا بعنفوان الكاتب يرفض أن يقيد الكتابة لتنطلق حرةً ملامسةً لهشاشة القلب.

حوارنا مع الضيف:

عبد الرزاق بوكبة يقرأ من نصوص ” من دس خف سيبويه في الرمل؟”، أثناء تكريمه في مدينة سلا المغربية من طرف جمعية “أبي رقراق”.

– من حيث المبدأ، كيف يعرف لنا عبد الرزاق بوكبة نفسه؟ ونحن نعرفه انسانا ومثقفا وشاعرا وأديبا وصحفيا وإعلاميا. وكيف وجد أو يرى نفسه وسط هذا التنوع؟

أنا إنسان وجد نفسه مبكّرا غارقا في أحلام كثيرة داخل قرية صغيرة لم تعرف الكهرباء إلا في التسعينيات. من بين هذه الأحلام أن أسافر إلى أماكن بعيدة وأعرف وجوها جديدة. فإذا كانت هناك كلمة يمكنها أن تختصرني فهي كلمة “الحالم”. وقد أدركت مبكراً أنّ الحلم إذا لم يستند إلى أرضيّة واقعيّة بات وهماً، فكابدت من أجل تحقيق أحلامي.

– تلك القرية الجميلة التِّي تحضر بشكل جمالي وإبداعي في كتاباتك!

نعم، قرية أولاد جحيش في الحدود المشتركة بين ولايتيّ برج بوعريريج والبويرة. فيها سمعت ونطقت وكتبت أول كلمة. وللكلمة الأولى في منطق الكاتب عمق خاص. فأنا إذ اَستحضر قريتي في نصوصي، فإنَّما أُجدّد الولاء للكلمة الأولى. كلما حافظنا على هذا الولاء، كلما كنّا أبناء حقيقيين للأرض. هل تدرون أنني لم أحلم يوما بأن أكون منتَمِياً للسماء؟ لطالما ارتبطت السماء في ذهني بالموت. إذ كانوا يقولون لي إنّك ستصعد إلى السماء حين تموت. فباتت السماء تعني لي نهاية الحلم. بينما تعني لي الأرض مهدَه. تعجبني رمزية السجود لله على الأرض فرغم أنه في السماء إلا أن وجهة السجود له إلى الأرض. كبرت وحقّقت حلم السفر وحلم التّعرف على وجوهٍ جديدةٍ وحلم الكتابة، فصار حلمي الأكبر أن أعود إلى أرضي الأولى وأبحث عن طفولتي فيها. ما أجمل الكتابة يا أصدقائي! تبرمجنا دائِماً على البدايات. أي تجعلنا قريبين من الدّهشة والشغف والأسئلة الوجوديّة.

– تعرف بشعارك ” أنا لا أكتب كي أصير نجما، بل أكتب كي لا أصير حجرا”. وقد قلت مرة عن كتابك “أجنحة لمزاج الذئب الأبيض” إنه أنقذك من الانتحار أو لنقل من التحجر. كيف ترى الكتابة من منظور أنها الدافع إلى العيش أو عرقلة الموت؟

سنكبر يوماً بعد أن نعيش لحظاتٍ إنسانية عميقة مختلفة ومتداخلة. وسوف ننسى معظمها. غير أن الكتابة ستجعلها حيّة. الكِتابة هي المُضاد الحيوي للموت. وإن ممارستها من منطلق أن نقتل موتنا تجعلها شطراً من هويتنا. أما ممارستها من منطلق أن نشتهر، فستجعلها شطرا من أدواتنا، وكل أداة تتلف أو تُستَبدَل، لذلك قلت إنني لا أكتب لأصير نجما. النّجم ليس من الأرض التي أنا منها. بالتالي لا يشكل لي حلما. فأنا لا أهتم به إلا من زاوية العلم. علم الفضاء والهيئة. وأصرف من الجهد لأضيء وأُضَاء من داخلي أكثر من حدوث ذلك خارجيا. هل أروي لكم محكية في هذا الإطار؟

– نعم، تفضّل.

خاض صديقان حميمان سَفراً بعيداً في الصحراء. وبينما هما يسيران في المتاهة والتيه، ضرب أحدهما الآخر. في مسعى سيرك داخل التيه يصبح شريكك في السّير قريباً نفسيّا وذهنيّا إليك، لأنه يشاركك في المصير، فاندهش المضروب من ضربة الضارب الرفيق، وأراد أن يقوم بردة فعل، فوقع على الأرض، على الرمل، وكتب “ضربني صديقي”. بعد مسافة من السّير، ابتلعت بالوعة الرمل الضَّارب، فمدَّ المضروب يده إليه وأنقذه، فقال الضّارب في نفسه: إن الفتى أنقذني وقد ضربته، انفعل وتأثَّر، فأراد أن يخلِّد اللحظة، لم يكتب على الرمل مثل سابقه وإنَّما كتب على الحجر “أنقذني صديقي”. بعد دقائق جاءت الريح فمحت الكتابة على الرمل لكنَّها لم تستطع أن تمسح الكتابة المنقوشة على الحجر.

هذا هو الأثر السحريّ للكتابة، الخلود.

– سبق وأخبرتنا أنك من قرية أولاد جحيش من شرق الجزائر، ونحن سمعنا أن وراء مولدك قصة لطيفة عن نبوءة قالت إنك ستصبح كاتبا ويقرأ الناس لك. فهل كان إيمانك بها هو الدافع لتصل إلى ما أنت عليه؟ وهل واجهتك صعوبات في تقديم ما قدمته لحد الآن؟

تزوج أبي وأمي في ستّينيّات القرن العشرين، وكان زواجهما معترضاً عليه من طرف عائلتيهما. لكنَّ أبي وحبَّه لأمي جعلا الزواج يستمر عشر سنوات. فاستغلَّت عائلته كونهما لم ينجبا طفلاً، مع رمزيَّة المرأة العاقر في ذلك السياق وأرادوا تطليقهما، فوضعهما أبي أمام الأمر الواقع وهو أن هنالك وليًّا صالحاً في مدينة سيدي عيسى التابعة للمسيلة حاليا يسمى “بلّعموري”، سيدي بلّعموري. كان القوم في قريتنا والقرى المجاورة لها لا يقضون أمرا دون الرجوع إليه، من قبيل: شراء بغل أو حصان أو جرّار أو العلاج عند طبيب أو عند عشَّاب أو السفر إلى فرنسا أو الى أي مكان آخر، فقال أبي لهم إنه لن يطلقها إلا إذا أمره بلعموري بذلك، وذهبوا إلى زاوية بلعموري الذي قال لهم لا تطلقوهما فسيولد لهما طفل قريبا سموه رزيق، سيكبر وسيصبح كاتباً ينتج كتباً يقرؤها الناس.

لم تكن في القرية وقتها مدرسة فرأت أسرتي أنه من التناقض أن أكون كاتباً في المستقبل من غير أن أدرس. فلما أُنجزت المدرسة الأولى في قريتي، كان عمري ثماني سنوات وهي سن لا تسمح بأن ألتحق بالسنة الأولى، فكانت تأخذني يوميّا إلى بوابّة المدرسة طامعة في أن يلحقوني بها، لكنّ الإدارة رفضت، بعد شهرين من الإصرار، جاء أحد المفتّشين من عاصمة الولاية، من برج بوعريريج واختبرني بعد أن أخبره المدير برغبة أسرتي في أن ألتحق بالدراسة، بأن طرح عليَّ جملة من الأسئلة، فكنت أجيب بلغة عربية فصيحة لأنني تعلمت ذلك من خلال المذياع، وأمر بإلحاقي. وهنا أصبحت أسطورة عبد الرزاق الكاتب منطقيَّة في نظر أسرتي.

لم أُصبح كاتباً لأحقق نبوءة الشيخ، ولكن لأَحقِّقَ رغبةَ رزيق في أن يكون رزيق.

قلَّما أتذكر هذا، عكس أمي التي بكت هي وأبي عندما أصدرت كتابي الأوَّل عام 2004 عن المكتبة الوطنيَّة ودار البرزخ “من دسَّ خف سيبويه في الرمل”، إذ قالا ما أصدق الشيخ! لقد قال لنا هذا قبل سنوات. أمّا أنا فلا أذكر ذلك لأنَّ علاقتي بالكتابة ليست علاقة غيبيَّة أو درويشيَّة وإنَّما هي علاقة وجوديَّة.

الطبعة الأولى للكتاب عن المكتبة الوطنية والبرزخ عام 2004.

– إلى أي حد يجد بوكبة الخرافات والقصص الشعبية مادة أدبية قادرة على إيصال رسائل إنسانية إلى القارئ؟

معظم أطفال أوروبا والفضاء الغربيّ تَشكَّل مِخيَالهم في الحقيقة من قصص “هاري بوتر” القائمة على الخرافة وعلى السحر والسحرة، لكنهم كبروا في المقابل داخل مخيالٍ علميّ لا يثمر عقلا خرافيّا وإنّما يثمر عقلا علميا، لذلك أنا أتعاطى مع الخرافة ومع الحكاية الشعبيّة وما جاورها من هذا المنطلق الطفوليّ والإنسانيّ والروحانيّ.

يمكن للأدب أن يستوعب نصاً خرافيًّا لكن الحضارة يبنيها العقل العلمي والمعرفي. إذا استطعنا أن نوفق بين هذين المعطيين أضحت للأدب الخرافيّ ثمار إنسانيّة عميقة.

– مع أن بدايتك كانت في سن مبكرة مع “من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟” إلا أن الكتاب جاء غريبا. إذ أسّس لأسلوبك الغامض الذي تلتقي فيه تجربتا الواقع والكتابة. فما كان مصدر إلهامك لتخرج هكذا عملا؟ وكيف كانت نفسيتك وأنت مستغرق في فلسفته الخاصّة؟

أنا انتقلت إلى الجزائر العاصمة في نهاية جوان 2002، من قرية أولاد جحيش وجامعة سطيف إلى الجزائر العاصمة. وكنت مفخّخًا بقرويّتي بأبعادها المختلفة داخل فضاءٍ عاصميّ يختلف ليله عن نهاره، وأقمت داخل هذا الليل العاصميّ ستة أشهرٍ تقريباً، داخل العراء وداخل التيه وداخل الجوع  وداخل الحاجة إلى يد تُربّت على كتفي، إلى عقل يجيب عن أسئلتي، إلى روح تدثّرني داخل ذلك البرد وداخل تلك الحيرة. وهو الوضع الذي جعلني أنتبه إلى أن علاقتي باللّغة كانت علاقة رومنسية فوق اللزوم، فقمت بإحراق كل ما كتبته قبل تلك المرحلة لأؤسس لقطيعة جماليّة ولغويّة وفلسفيّة وفكريّة ووجوديّة مع مرحلتي السابقة استعداداً لأن أدخل مرحلة جديدة تقوم على الشّك لا على اليقين، على السؤال لا التلقين، على البحث لا الاستكانة. لقد كنت في السّابق أُمسِّد على التراب فأصبحت حينها مطالبا، أمام هذا الثراء في التجربة، بأن أمارس فعل الحفر. وكتاب “من دس خف سيبويه في الرمل؟” كان ثمرة لهذا الحفر داخل اللغة بما هي مخيال ونظرة للوجود كما يقول الفيلسوف الألماني هيدغر ” اللغة بيت الكينونة”، فدخلت في صراع مع اللغة التي كنت أتعامل معها بصفتها حبيبة وعشيقة  وأنثى جميلة، فأصبحت أراها كائنا يحاول أن يجعلني أقول أشيائي من خلال أعين ناس ماتوا، وأصبحت أؤمن بأن النّحو الذي يَجِب أن أحترمه هو نحو الواقع، بلاغة اللّحظة التي أعيش هي التي تَعنِيني، لا نَحو سيبويه ، إذ اكتشفت أنني أعرف من التراث أشياء لا تفيدني في لحظتي المعاصرة، كأن أعرف عن امرئ القيس حتى عدد البعرات التي أفرزتها ناقته لكنني لا أعرف شيئا،  مثلا عن مخترع الهاتف أو الكمبيوتر، فكتبت هذه التجربة لأتطهّر من ماض رومنسيّ وأؤسس لمستقبل تقوم علاقتي بالكتابة فيه على احترام بلاغتي الخاصة، بلاغة عبد الرزاق بوكبة  الذي يرى ويسمع ويحس ويحلم.

كان أجدادي السابقون يرون كوابيس في مناماتهم تقوم على غزو قبائل أخرى لقبيلتهم بالخيول، بينما كابوسي الآن في 2018 أني أرى أطباقا طائرة تغزو كوكبي، هذا الانزياح في المكان: القبيلة – الكوكب، وفي الوسيلة: الخيول – الأطباق الطائرة، لابدَّ أن ينعكس على اللغة وإلا ما معنى قولنا إنّها كائن حي؟

من هنا أنا لست متمردا كما أُوصف وإنّما أنا منسجم مع لحظتي. ولا خير في الكتابة والفنّ عموما إذا لم يوصلانا إلى مقام الإحساس بالانسجام مع ذواتنا.

كتاب للناقد والأكاديمي ” محمد عروس” عن تجربة” من دس خف سيبويه في الرمل؟” منشورات دار الأصمعية.

– في أعمال صديقنا الحالم نجدُ من الشِّعر المكتوب باللّغتين المعيارية والمحكية، السَّردِ، القصة القصيرة والقصّة القصيرة جدّا، الرِّحلة، السّيرة الذاتية والنصوص المسرحيَّة، فما السِّر وراء هذا التنوُّع؟ وهل تميل للون محدَّدٍ أكثر؟

شقيقتي منال، لاشكّ في أنَّك عشتِ قبل فترةٍ وجيزةٍ مثل كُلِّ الجزائريَّات تجربةَ عيد الأضحى، أوكي؟ الأضحية عندما نُعلِّقُها بعد تجهيزها تصبحُ متاحةً لنا في أشكالٍ مختلفة.

كلّ عضو فيها هو مشروع طبق يمكن أن يأخذ تنويعات كثيرة إذا كنت طاهية مفتوحة على التجريب. والحديث قياس على النّص.

إنّ العرب أمة شعر انسجاما مع مناخاتهم الفلسفية والجغرافية والاجتماعية، بينما الرواية هي بنت المدينة، لذلك لم تنتشر الفنون السرديّة عند العرب كثيرا إلا بعد أن دخلوا مدنا جاهزة مثل دمشق، ومدنا أسسوها مثل بغداد، كتاب/ كتب “ألف ليلة وليلة” نموذجا، النثر هو ثمرة لروح الفضاءات المتلاحمة. بينما الشعر هو ثمرة لروح الفضاءات العارية.

مؤخرا أصبحت الرواية هي أكثر الأجناس الأدبيّة قراءة وكتابة في الفضاء العربي، صح؟  وأنا بصفتي صوتا ثقافيا ينتصر بالضرورة لخطاب المدينة سعيد بهذا التَّحوُّل، لأن الأمر يُقرأ، في نظري، من زاوية أنَّ هناكَ تهيُّؤًا لدى الأجيال العربيّة الجديدة للدخول إلى ثقافة المدينة، لذلك تبنّت الرواية كجنس، لأنّ ثقافة المدينة تعني الانفتاح والرواية تعني الانفتاح أيضا، فهي متعددة الأصوات بينما الشعر أحادي الصوت وهذا معطى بدوي (البداوة هنا بما خيار عيش لا بما هي سلوك وتفكير متخلّفان).

على مستوى تجربتي الشَّخصيَّة أكتب هذا الجنس أو ذاك خضوعاً لطبيعة اللحظة، فأختار لها الجنس الذي يستوعبها، هي أقرب لمثال شخص ثري لديه في مرأبه شاحنة، لديه سيارة، لديه دراجة هوائية، لديه دراجة نارية وحافلة، فهو يركب هذه أو تلك حسب المسافة المستعملة، أو الحاجة، أو الرغبة الشَّخصيَّة، فالدّراجة هنا تعني الومضة الشعرية، قصَّة قصيرة جدًّا، لأنها غير قابلة للشراكة، أما الحافلة، فتعني الرواية لأنها متعددة الأصوات.. شريطة ألا يخضع الأمر للارتجال وللتجريب غير الواعي، إذ لابد أن يتوفر وعي حاد، لدى الكاتب متعدد الأجناس بطبيعة الكتابة، بصفتها فعلا لا انفعالا وبصفتها تفكيكا لا تفككا.

– يجد القارئ لشعرك صديقي أن الكلمات تتراقص حول المعنى، في ذات حقله الدلالي، ولا تفصح عنه صراحةً، نجد في هذه النقطة تشابها مع الهايكو الياباني الذي استلهم منه بعض الشعراء العرب، فهل تأثرت به؟

لم يعد الهايكو قالبا يابانيا خاصّا بإنسان ومكان محددين، بل بات لحظة إنسانيّة وجماليّة تمكّن الإنسان من التفاعل العفوي مع العناصر الصغيرة للطبيعة.

قطرة

نتفة ثلج

لمعان حباحب

حركة دعسوقة، وهو بهذا موقف سياسي وفلسفي من تعسفات العالم المعاصر.

كيف؟

لقد حاصرتنا القبيلة في الثقافة العربية، فبات السيف والخيل والبيداء وحذاء الشيخ عناصر شعريّة أولى من عناصر الكوكب. وقد أسست هذه النظرة لهيمنة شيخ القبيلة وحليفه التاريخيّ “الفقيه” على تفاصيل حياتنا، وسمّمتها، حتى أنه يمر فصل من الفصول من غير أن ننتبه إليه! إنّ الحاكم العربي يخطب في رعاياه ساعتين ليقول لهم إنّه هو القمر، بينما يخطب نظيره الغربي ليجعل مواطنيه يحلمون بالصعود إلى القمر. (هل لاحظتم الفرق الدّلالي بين كلمتي “الرعايا” و”المواطنين”).

– كيف تقيّم واقع الشعر في الجزائر مقارنة بالأجناس الأدبية الأخرى، خاصة مع الانفتاح الذي نشهده على المدينة؟ وهل يعني ذلك أن للشعر حدودا كأن يكون حكر ثقافة بدويّة فقط؟ وهل تم التأسيس لشعر خاص بالمدينة والتمدن؟ ونحن نعلم أن العرب مع تحضرهم استخدموا الشعر لأغراض أخرى وظهر مثلا الشعر الفلسفي والصوفي والمتون… إلخ؟

هنا علينا الانتباه إلى معطى متعلّق بالحالة الجزائريّة هو الازدواج اللغويّ، عربي فرنسي. إذ من التعسّف أن نلغي كل ما كتبه الجزائريون بالفرنسيّة من مدونة الأدب الجزائري. شخصيا أرى أن الآباء الحقيقيين للشعر الجزائري من منظور جمالي وكوني هم الشعراء الذين كتبوا بالفرنسية، مالك حدّاد نموذجا. فرواد القصيدة الجزائرية المعرّبة كلهم، باستثناء تجربة مبارك جلواح، كتبوا الشعر الملتزم بالقضايا الدّينيّة والوطنيّة وكانوا صدى للتّجارب المشرقيّة، فكرّسوا التبعيّة في هذا الباب إلى غاية بداية الثمانينات، مع استثناءات سبعينية قليلة، حيث ظهر جيل أكثر تحررا في الخطاب والبناء وأسّس لهوية جزائريّة في الشعر، ثم تكرّس هذا في التسعينات، إلى غاية اليوم، حيث نستطيع القول إنّنا نملك نخبة من الشعراء يتعاطون الشعر بمفهومه الكونيّ على قلّتهم.

غير أنَّه يجب الانتباه في هذا الباب إلى معطى فلسفيٍّ مهم، ذلك أن الشاعر الحقيقي ليس مفصولا عن الفلسفة، عن السؤال، عن المعرفة، فالشعر الذي لا ينطلق من السؤال الفلسفيّ والمعرفيّ والجماليّ شعر خاوٍ بالضرورة، مُجرَّدُ بوحٍ، الشعر ليس بوحا، الشِّعرُ بناءٌ، بناءُ عالمٍ جديدٍ، تسميةُ الأشياء من جديدٍ، اعتراضٌ على ما هو مكرَّس، عندما ننطلق من هذا الباب، يجب أن نطرح مسألةً فلسفيَّةً غايةً في الأهميَّة، وهي أنَّ الجزائريَّ لم يفقد علاقته بالشِّعر فقط وإنما فقد علاقته بشعريَّةِ الأشياءِ أيضا.

إنّ الأهمّ من الدِّفاعِ عن الشِّعرِ في نظري، الدِّفاعُ عن شعريَّةِ الأشياء. لا شعريَّة في المقهى الجزائريِّ، (وقعت قطيعة في هذا الباب، إذ كان المقهى فضاء حميما وجامعا وفنيا وزارعا للوعي) لا شعريَّة في المطعم الجزائريِّ، لا شعريَّة في المسجد الجزائريِّ، لا شعريَّة في العمارة الجزائريَّة، لا شعريَّة في الحافلة الجزائريَّة، لا شعريَّة في الحديقة الجزائريَّة، لا شعريَّة في الفيسبوك الجزائريِّ، لا شعريَّة في العرس الجزائريِّ، لا شعريَّة في “الدراقاج” الجزائريِّ، لا شعريَّة في الصّالات الجزائريَّة. وهذا ما أسَّس لبداوة جديدة أصبحت مهيمنة على الفضاء الجزائري قَرويًّا كان أم مَدنيًّا، المدينة تنام على السَّاعة الثَّامنة مثلما تفعل الدَّجاجة في القرية، لا نملك ثقافة “السَّفر؟” لا نملك ثقافة “السهر”، لا نملك ثقافة “السَّمر”، لا نملك ثقافة “البحر” فلو ترى  عدد الجزائريين اللذين يخيمون، خارج فترة الهجمة/الزحف في الصيف، في الـ 1500 كيلومتر التي عندنا، قلائل.

في اللّغة الجزائرية المستعملة، من العنف أكثر ممّا فيها من الشِّعر، وهذه أزمة جماليّة وأخلاقيّة وهوياتيّة واجتماعيّة، علينا أن نتعاطى معها بجديَّة مثلما نتعاطى بجديَّة مع “داعش” على مستوى الجّيش، فمثلما هناك أمن قوميّ عسكريّ، هناك أمن قوميّ لغويّ، لا أتحدث هنا عن اللّغة من منطلق هويّاتي، فرنسيّ، عربيّ، أتحدث من المنطلق الإنسانيّ. فأنت لديك أزمة “دراقاج/ مغازلة” في المجتمع الجزائري، لا يجب أن تتعاطى معها هكذا بسهولة، لأن الأمر مؤشِّر على “جرعة عنف” موجودة في القاموس، إنك باشرت مصالحة أمنية مع الإرهابيين ولم تمتصّ العنف الذي تولّد عن المرحلة من اللغة، امتصصت العنف من الجبال، حيث هبط المسلحون منها، ولكن لم تمتصّ العنف من اللغة، بحيث لم تنتبه إلى أنك بصدد شارع جزائريّ أصبح يعبر عن الجمال بالعنف. وهذه الجرعة-la dose من العنف الموجودة في القاموس، تنعكس في شكل سلوكيات، فاللغة كما أسلفنا “بيت الكينونة”.

– تحدثت في كتابك “يدان لثلاث بنات، ويليه بوصلة التيه”، عن انتقالك من الوعي الشعري إلى الوعي السردي. هل تحدثنا عن تجربة انتقالك من الشعر إلى السرد.

بدأنا نسمع مؤخّرا عن زحفٍ للشّعراء نحو كتابة الرواية، بحيث أصبحنا نملك نخبة شعريَّةً معتبرة، انتقلت إلى كتابة السَّرد. من حيث المبدأ، ليس هناك حَجْرٌ على حق أحد في أن ينتقل من جنس إلى جنس، ذلك أن فعل الكتابة يقوم على الحريَّة، ومن التعسُّف أن تصادر حقَّ شاعر في أن يكتب رواية، هو مطالب بأن يكتب رواية جيِّدةً وكفى، لكنني من خلال تجربتي وعلاقاتي مع معظم الذِّين فعلوا هذا، اكتشفت أنَّهم لم يذهبوا من القصيدة إلى الرّواية بناءً على تجربةٍ عميقةٍ إنسانية حدثت في حياتهم، على شرخٍ معيَّن، على جرحٍ معيَّن، على ثراء معيَّن، هم ذهبوا إلى كتابة الرواية خضوعا لسلطتها كجنس أدبيٍّ في سوق الكتابة والقراءة والترجمة والنّقد، بمعنى أنَّهم كتبوا الرِّواية من غير أن يكتسبوا تجربة ولغةً روائيَّةً (الأمر غير قابل للتّعميم)، مما جعل نصوصهم الرِّوائيَّة مجرَّد مسوخ لغويّة، مجرَّد بوحٍ، مجرَّد هذيان، مجرَّد رقعة من اللغة لا تتوفر فيها شروط الكتابة الرِّوائيَّة من أحداث وشخوص وبناء ومعمار ودراما، لأن ذلك يقتضي نضجا خاصًّا في الحياة، هنا علينا أن ننتبه إلى معطى أن الشِّعر لحظة “كهفيَّة”، لحظة ذاتيّة، الشِّعر يعلِّمك أن تشتغل على الذَّات، بينما الرِّواية تعلِّمك الاشتغال على تعدّد الأصوات، هي فضاءٌ ديمقراطيّ، إذ يمكن لرواية أن يكون فيها مئة صوت. ولتكتب هذه الأصوات يجب أن تعرف نظراءها في الواقع، فإذا كنت لا تعرف هذا في الواقع وذهبت للرواية، كتبت شيئا ممسوخا، هذه المقدِّمة (أخي عمر) للإجابة عن سؤالك.

ذكرت قبل قليل أنني انتقلت إلى الجزائر العاصمة في صائفة 2002 ووجدت نفسي في مواجهة العراء. لم يكن لي سقف وقد كانت لي أسقف، ولم يكن لي رفيقٌ وقد كان لي رفقاء، ولم تكن لي أمٌّ وقد كانت لي أمٌّ، أب.. الخ، بمعنى أني كنت أملك، قبل العاصمة، أرضيَّة حميميَّة اجتماعيَّة واقتصاديَّة، أتَّكئ عليها في فعل العيش، ففقدت هذه الأرضيَّة في بداياتي العاصمية، إذ أصبحت أعيش مع الصَّعاليك ومع المجانين والمتشرِّدين وما نسمّيهنّ بالعاهرات. بمعنى أنَّني أصبحت صوتًا ضمن أصواتٍ، وهذه هي الرواية، بينما كنت صوتًا واحدًا في الشِّعر.

هذا الواقع الجديد جعل القصيدة تضيق عن استيعابه، فدعتني هي نفسها إلى الانتقال إلى الرواية حتى يستوعب هذا الجنس هذا الثراء الذي أصبحت أعيشه، أحسُّه، أصبحت ألمسه، وأصبحت أراه، وأصبحت أعانيه، أصبحت أحلم بأن أفهم، وأعمل على ذلك.

أنا خرِّيج قرية. وفي هذه القرية وفي قرىً جزائريَّةٍ كثيرةٍ، المرأة لمَّا تكون عاقرا هي نفسها تطلب من زوجها أن يتزوَّج وربَّما تخطب له، ولما ينجب تتولى تربيتهم بنفسها. كذلك فعلت القصيدة معي فيما يتعلَّقُ بالرِّواية، خطبت لي الرِّواية وزوَّجتني بها وأصبحتا تعيشان معي في البيت نفسه، فغذَّت القصيدة روايتي، وغذَّت الرِّواية رؤيتي، وغذَّت رؤيتي نصوصي، وغذَّت نصوصي وجودي، هذا الَّذي تلمسونه بينكم.

– جميل السي عبد الرزاق، لما تتحدث عن شعرية القرية تذكرنا برسول حمزاتوف الشاعر الداغستاني القروي الكبير.

دوّخني حين قرأت كتابه “داغستان بلدي”. هو ارتبط بقريته “تسادا” وأنا بقريتي “أولاد جحيش”، هذا معطى إنساني مشترك، لكننا نختلف في منصة الانطلاق في التعبير عن هذا الارتباط.

أكتب حتى لا أشبه إلا نفسي.

– يقول الكثيرون إن النشر صار موضة هذه الأيام، وإن الكتابة الشبابية لم تعد بتلك الجودة التي كانت عليها، فما رأي بوكبّة في هذا الموضوع وهو الذي بدأ الكتابة شابا؟

جيلي يختلف عن جيل اليوم، وهو معطى طبيعيّ وصحّي.  جيلي كان وسيطا بين عقليتين، استعمل بصاقه لغلق الرسالة الورقيّة واستعمل “المودباص-كلمة السّر” في الإيميل والفيسبوك، أما جيل اليوم، فقد فتح عينيه مباشرة على “كلمة السّر” وثقافته إلكترونيّة وليست ورقيّة وهي معطيات تجعل لغته ومخياله مختلفين وعلينا أن نؤمن بحقه في ذلك ولا نحكم على مستواه من خلال معايير تجاوزها التحول.

في كل مرحلة تظهر أصوات كثيرة ثم لا يبقى منها إلا أصحاب الأنفاس الطويلة، ويزعجني أن ينزعج المثقفون الكلاسيكيون من دخول أصوات أدبيّة جديدة وكثيرة، ولا ينزعجون من وجود آلاف المهندسين المعماريين المغشوشين، آلاف الأئمة وآلاف الأطباء المغشوشين، آلاف الفلاحين المغشوشين وآلاف رجال الأعمال المغشوشين، علما أن الغشّ في هذه الميادين يؤدي إلى الموت المباشر. فحين يكون عندك مهندس معماري مغشوش سيسقط على رأسك السّقف وتموت، يزعجني أن نترك الانزعاج من أنواع الغش هذه، وننزعج على ظهور أصوات أدبيّة جديدة كانت قادرة على أن تصبح “صرافة زطلة – مروّجة مخدرات” أو قاتلة في الشوارع لو لم تأت إلى الكتابة.

– بصفتك مدير دار نشر دار “الجزائر تقرأ”، التي تولي اهتماما بالكتّاب الشباب، هلا حدثنا بوكبة الكاتب أولا ثم بوكبة المدير عن واقع النشر في الجزائر وهو الذي كانت له قصص معه؟ وهل كانت تلك القصص الدافع الأول وراء تأسيس دار النشر التي تسهل المهمة اليوم على الشباب؟ ثم ما تقييمه للنشر اليوم بين الكمية والجودة؟ وكيف يرى بوكبة مستقبل النشر في الجزائر.

تشبه دور النّشر عندنا، ما عدا نماذج معدودة، قِفَاف المتسوّلين لا تمتلئ إلا بدعم المحسنين. بينما دار النشر في الأصل هي مشروعٌ تجاريّ يعتمد على القرّاء لا على دعم الحكومة، ففي ذلك الدّعم قيد للحريّة، فلمّا أوقفت الحكومة دعمها توقّف النّشر، فالنّشر عندنا ليس فعلاً بل هو انفعال، والانفعال لا يصنع وعيًا، نحن نعاني فراغا خطيرا في هذا الباب. ‘الجزائر تقرأ’ كسرت الحكم الجاهز بأن الجيل الجديد لا يقرأ وصنعت قرّاءها وهي تعتمد عليهم في تمويل مشاريعها، وعلى مساهمة الكتّاب في مرحلة سابقة.

– عليهم فقط؟

على من يستغرب ذلك من المواطنين أن يقف ربع ساعة أمام جناحنا في معرض الكتاب، وعلى من يستغرب ذلك من الهيئات الحكومية المخولة قانونا أن يرسل لجنة تحقيق. هناك تحول في الشارع الجزائري بقيت النخب المثقفة تتعاطى معه وفق أحكام جاهزة منها أن فعل المقروئية اندثر، فاكتفت بالشكوى عوضا عن المبادرة.

يذكر أنه وبعد الحوار، خاض أعضاء النادي نقاشا مع الضيف الذي أكرمنا بوقته وإجاباته مما جعل النقاش يمتد لأكثر من ساعتين.


إعداد وتنسيق: عمر دريوش.
إعداد: مصطفى بوخالفة.
تفريغ نصّي وتدقيق: منال بوخزنة وبشرى بوخالفي.

كاتب

الصورة الافتراضية
عمر دريوش
مدون ومترجم، محب للفلسفة والتصوف.
المقالات: 4