حوار فريق النقطة الزرقاء مع الأستاذ ”إسماعيل مهنانة“

إسماعيل مهنانة، كاتبٌ، مترجم، وباحث جزائريّ في الفلسفة والنّقد السّياسيّ، أستاذ الفلسفة الغربيّة في جامعة قسنطينة، ومؤسّس الرّابطة العربيّة الأكاديميّة للفلسفة، نشرت له عدّة مقالات وأعمال ودراسات أهمّها: ”العرب ومسألة الاِختلاف“ عام 2014، ”كتابات على جدار الأزمة“ عام 2016، ”إدوارد سعيد الهجنة، السرد، والثّقافة“ و”الوجود والحداثة“ عام 2012، وأشرف على ”موسوعة الفلسفة العربيّة المعاصرة“.
جدير بالذكر أيضا، أن البروفيسور مهنانة دخل عالم الأدب بعمله الروائي ”هالوسين“، حيث أدرجت الرواية ضمن القائمة القصيرة لجائزة الجزائر تقرأ للإبداع الروائي ( دورة 2018 ).

لقراءة مراجعة كتابه ”إدوارد سعيد الهجنة، السرد، و الثّقافة“: هنا.

نص الحوار:


الأستاذ إسماعيل مهنانة، بين التدريس الجامعي والسرد الروائي والاشتغال الفلسفي كيف يعرّف نفسه، وأين يجدها أكثر مقدرة على العطاء والبوح والانتاج؟

أمارس النشاطات معا بمحبة وحسب المزاج والرغبة، أحيانا أحب أن أتفرّغ للكتابة فقط، أحيانا للقراءة فقط. التعليم أمارسه بلا جهد وبمتعة. وكما تعلمون أحيانا أغلق الفايسبوك وكل أدوات التواصل لأشهر طويلة، من أجل التفرغ للكتابة. الكتابة تحتاج للعزلة كنصيحة أوجهها للشباب، هي شكل من التصالح مع المحيط، ونوع من النقاهة والعلاج، إذا لم تشعر بنوع من الراحة والنقاهة بعد الكتابة فهذا يعني أنك تمارسها بشكل مصطنع أو أنك لم تدخل عوالمها بعد.

– إذا كانت الفلسفة ممارسة “يقظة” في وجه “الاعتقاد” ومعولا ينصب على كسر ألواح الدوغمائيات، والتدريس الجامعي ممارسة معرفية تخضع نسبيا لسلطة المؤسسة. كيف يتعاطى البروفيسور إسماعيل مهنانة بوصفه فيلسوفا وأستاذا جامعيا مع هذه المعادلة الجدلية الصعبة؟ وما موقع الفلسفة في الفضاء العمومي الجزائري اليوم؟ وما العوائق التي تقف أمام تدريسها؟

 في الكتابة الفلسفية أعوّض عن إكراهات المؤسسة والجامعة، أتحرّر منها. وهذه مشكلة تعاني منها الفلسفة من نشأتها ومن داخل مفهومها. في العصر اليوناني قبل سقراط لم تكن الفلسفة تدرّس في مدارس، كانت فكرا حرا يتم تلقينه من مفكر إلى مريد أو تلميذ وفيّ على أساس علاقة الصداقة، لهذا قال “ديريدا” أنَّ الفلسفة هي سياسة الصداقة. لكن في لحظة سقراط وأفلاطون عرف الفكر اليوناني تحوّلا في ماهيته حيث نزل من الجبل إلى المدينة وأصبح يدرّس في المدارس. امتزجت (البيديا) أي التربية بـ(الاليثيا) أي الحقيقة. يمكن القول أنني في الكتابة أعمد إلى تخليص الحقيقة من سياسة التربية، وفي الجامعة أدرّب العقول على التمرّن على قول الحقيقة.

– بالحديث عن الفلسفة المعاصرة، رغم تراجع الممارسات الدينية فإنه يلاحظ عودة المسألة الدينية بوصفها إحدى أكبر القضايا جدلا وراهنية، في هذا السياق كيف يقرأ إسماعيل مهنانة عودة المسألة الدينية كمسألة فلسفية مركزية في فلسفة ما بعد الحداثة كما عند “هابرمارس” و”جاك ديريدا”، وهل تمّ التعامل عربيا وجزائريا معها بالوعي النقدي الكامل؟

هذا بالضبط هو الخط الفاصل بين الفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة، الدين: في الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيجل كان الدين يدخل في بنية الفلسفة كعنصر أنطولوجي، تسمى البنية الأنطو-ثيولوجية، حيث تقوم الأنطولوجيا الحديثة على مفهوم الوعي بوصفه مددا إلهيا. أما في الفلسفة المعاصرة فقد تحول الدين إلى موضوع للفلسفة، بدأ ذلك مع ماركس ونيتشه وفرويد.
سأفصّل ذلك أكثر: يمثل هيجل الخط الفاصل بين الفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة، لأن فلسفته هي اكتمال الميتافيزيقا الغربية ونهايتها، بعده مباشرة تفطن الفلاسفة إلى الأصل المادي لكل المفاهيم الميتافيزيقية، حيث كشف ماركس أن كل المفاهيم الميتافيزيقية والاعتقادات الدينية يمكن تفسيرها بالوضع الاقتصادي الذي ينتج الثقافة والوعي. كما كشف نيتشه أنّ الدين والأخلاق هما إرادة انسانيّة للسيطرة، ثم كشف فرويد عن أصل التدين في اللاوعي، أي كتشكل تاريخي. ومن هنا جاءت الفكرة المعاصرة لدراسة التدين كأصل للمعتقدات الدينية وليس العكس، أي أن الدين أصبح ظاهرة أنثروبولوجية تحتاج تفسيرا، ولم يعد إطارا معرفيا لتفسير الظواهر كما كان في القرون الوسطى.
وهذه هي مشكلة الفكر العربي حاليا: فهو لم يمر على هذه المراحل في العلاقة بالدين والمقدس، بل استورد مباشرة هذه المناهج المعاصرة في مقاربة الدين من خارجه.

هل يؤمن إسماعيل مهنانة بصراع ثنائيات التراث/الحداثة، الغرب/الشرق، الأصالة/المعاصرة. أم أن المسألة أكثر تعقيدا من هذا؟ وهل يمكن الحديث عن حداثة إسلامية، تستلهم مقولات الفلسفة المعاصرة وآلياتها في تفكيك الظواهر والنصوص وتبدع قراءة جديدة للتجربة الدينية كما نجدها لدى لفيف من اللاهوتيين المسيحيين، نظير جان لوك ماريون- على سبيل المثال لا الحصر- الذي يستلهم “فيتغنشتاين” و”هايدغر” في إعادة تأويل المسيحية؟  

الحداثة أو المعاصرة تم فرضها على العالم العربي والإسلامي بقوة الاستعمار كما نعرف، الإسلام نام سبعة قرون على فكرة واحدة: هي الجهاد والحرب الصليبية ضد أوروبا الشرقية وإسبانيا، ثم استيقظ على قوة استعمارية غربية كانت تنمو في غفلة منه، ووجد نفسه تحت سطوتها. ولم يصدّق المسلمون أن أمة ينصرها الله تتعرض للاحتلال بذلك الشكل. ورغم جهود بعض الدول الإسلامية في اللحاق بركب الحضارة الغربيّة، إلا أنّها واجهت مقاومة من الداخل مثلما حدث مع إصلاحات علي باشا في مصر وأتاتورك في تركيا.
أما الأصالة فهي مجرد ادعاء سياسيّ وحزبيّ، لم يعد له أي مقابل موضوعي في عصرنا. عن أي أصالة يتحدثون! سنتكلم عن أمثلة؛ حين نقدّم بعض منتوجاتنا الأصيلة مثل اللباس والأواني والأكل لا يمكننا تقديمها إلا في إطار السياحة التي هي مؤسسة اقتصادية حديثة لا تنتمي لثقافتنا، أي أننا بدعوى الأصالة سنقدم ثقافتنا للسائح الغربيّ كفولكلور. وهكذا نحن ندعم رؤيته لنا بوصفنا كائنات فولكلورية غريبة وعجيبة وبوصفنا منتجات سياحية. هذه هي نهاية دعوة الأصالة.
سأعود لسؤالك حول إمكانية دراسة اللاهوت والدين الإسلامي من داخل الفلسفة على طريقة جون لوك ماريون وألان غريش. هؤلاء اللاهوتيون الفلاسفة تخلصوا من فكرة الإله الموجود في السماء، بفضل الإصلاح البروتستانتي، وصار ما يهم هو وجود الله في الشعور والضمير، أي كإيمان وليس كمعتقد. بمعنى أن الله داخل الوعي الفرديّ والضمير هو تلك الفكرة المانحة للرجاء والأمل، وليس قوة ميتافيزيقية. وهنا يلتقي الملحد والمؤمن. كلاهما يعيش على فكرة حميمية تمنحه القوة على الاستمرار في الحياة، لأن انكسار تلك الفكرة يؤدي إلى اللامعنى أو الإنتحار والعدمية كما هو في فلسفات معاصرة كثيرة: ألبير كامو، سيوران، ألبير كاركوي.

غلاف كتاب “الوجود والحداثة”، الصادر عن “منشورات الإختلاف”، 2012.

– المطلع على كتاباتكم يلاحظ اهتمامكم بفلسفة هيدغر، لماذا هيدغر؟ وكيف يمكن أن تمنحنا فلسفته الوجودية حلولاً لمشاكلنا في العالم العربي علماً أن محيطنا الثقافي يختلف كماً وكيفاً عن فلسفة هيدغر والمحيط الثقافي الألماني والأوروبي عموماً؟ 

 فلسفة هيدغر فلسفة إنسانية موجهة لكل البشرية، رغم اشتغالها على تفكيك الميتافيزيقا الغربية. ما يهمني في فلسفته هو أنّ مفهوم الغرب ينطبق علينا أيضا كعرب أو مسلمين ننتمي لحضارة البحر المتوسط. وهنا نعود لفكرة الشرق والغرب. أعتقد أن الشرق هو حضارات آسيا والهند والصين، أما نحن فننتمي للتراث الإغريقي التوحيدي المتوسطي، أي إلى الغرب حضاريا. وفكرة اعتبار المسلمين شرقا اخترعها الاستشراق في القرن التاسع عشر، لأهداف استعمارية، وصدّقها المسلمون خاصة رواد الإصلاح مثل محمد عبدو والأفغاني. (لاحظ أنّ الأمير عبد القادر استعمل ثنائية البادية/ الحضر بدل الشرق الغرب، لأنه لم يتأثر بهؤلاء).
أعود إلى هيدغر، في مرحلة معينة من مساري اخترته كموضوع للدراسات الأكاديمية، لأنني اكتشفت معه قدرة الفكر على الهدم ومراجعة نفسه في كل مرة، وقدرته على طرح الأسئلة الوجيهة على التراث والوجود والحداثة والتقنية، انطلاقا من فكرة أساسية واحدة، هي سؤال الكينونة. فكر هيدغر يمنحك موقعا استراتيجيا تطل منه على كل مشكلات العصر من نقطة واحدة دون أن تغير نقطة ارتكازك، أي سؤال الكينونة. أشبه بمركز عسكري متقدم في رأس جبل، ترى من خلاله كل التحركات. كما يعلمك أنّ تَعلّم التفكير لا يتم إلا بممارسة التفكير، وكذلك الكتابة لا نتعلمها إلا بالممارسة اليومية، وليس بالقراءة النظرية حولها.


– بالحديث عن واقع الكتابة، وبوصفك مؤسسا “للرابطة الأكاديمية العربية للفلسفة” مع “علي عبود المحمداوي” التي كانت من ثمارها ظهور عديد المؤلفات والدراسات الفلسفية التي أشرفت عليها، وبإشرافك أيضا على منشورات القرن 21 سابقا.
أين وصلت جهودكم؟ ومن خلال هذا، كيف ترى واقع المقروئية ونشر وتوزيع الكتاب عربيا وجزائريا، ولماذا تغيب تقاليد الدخول الأدبي عن الجزائر؟

 الرابطة كانت مرحلة مهمة في مساري الأكاديمي، لأننا قدّمنا لكل طلبة الفلسفة في العالم العربي موسوعات وكتب جامعية كثيرة، وهو جهد يدخل في عملي كأستاذ. الآن، توقفت عن ذلك بسبب ضيق الوقت لانشغالي بأعمال أخرى، دار النشر كذلك انسحبت منها لنفس السبب. مشكلة النشر الكبرى هي التوزيع، وكذلك جشع أصحاب المكتبات وكونهم تجارا من خارج الثقافة. كما لا أؤمن بفكرة الدخول الأدبي أصلا، لأنّ القراءة ممارسة يومية وليست مناسبات.

بالحديث عن المثقف بوصفه ناقدا لمختلف السلط المجتمعية ودوره في الفضاء العمومي، نلحظ أن المثقف العربي عموما والجزائري خصوصا انزوى في الأطراف وترك مركز التأثير للانتهازيين من السياسيين ورجال الدين وأشباه المثقفين، والذين احتكروا الرأسمال الرمزي للقول، فكيف يقرأ “إسماعيل مهنانة” هذا الواقع وهل يؤمن بمفهوم “تناهي المثقف”؟ إلى أي مدى تحضر جدلية المثقف والسياسي في الفضاء الثقافي الجزائري؟

 لا ننسى أن مفهوم المثقف، العضوي والثائر، لا يزال دخيلا على ثقافتنا وموضة يسارية أكثر منه “حامل أصيل” لصوت العدالة والحقيقة، وذلك لأسباب تاريخية. المثقّف العربي عادة ما يسقط أمام اختبارات البنية التقليدية والتسلطية لمجتمعه. مثل الانتصار لمنطق القبيلة والطائفة والعشيرة على حساب قيم إنسانية مثل العدالة والحقيقة. أي أنَّه كائن هش وضعيف، لهذا يسهل شراؤه وبيعه في مجتمع لديه أصلا حساسية مفرطة من الثقافة.
المجتمع في عمومه مخدّر بالدين والتلاعبات السياسية بالدين من طرف السلطة والمعارضة معا، لهذا يجد المثقف نفسه أضعف حلقة تحت صراع الثيران هذا. ولهذا يلجأ إلى الاحتماء بالقبيلة أو السلطة أو الهجرة إلى الغرب حيث الحرية والأمن.

يضاف إلى ذلك أن تعريف المثقف لا يزال فضفاضا، ولا نتّفق على الدائرة الجامعة المانعة لمفهومه، هل هو الكاتب أم المناضل السياسيّ أم الطبيب والمحامي والقاضي. هنا نجد أنفسنا أمام أصناف متعددة من الجماعات الضاغطة، وعادة ما تتطاحن فيما بينها، وهذا التطاحن يصبّ مباشرة في خدمة السلطة القائمة ورجال الدين.

– نلاحظ أن ثمة تقصيرا فادحا في الاهتمام بالنخب الجزائرية على مستوى الرسائل الجامعية التي تقدم، فباستثناء محمد أركون أو مالك بن نبي نادراً ما نجد دراسات ورسائل جامعية تهتم بأسماء أخرى، جديرٌ الاهتمام بها، لماذا هذا الاجحاف؟ من المسؤول عن ذلك؟

لأن الطلبة والأساتذة المشرفين ينزعون نحو مفكرين ذوي سلطة معرفية عالمية، اعتقادا منهم أنهم بذلك يدخلون باب العالمية. كما أن التوجه بالبحث نحو شخصيات (يعتبر) خطأ أكاديميا في اعتقادي. أظن أن الأفضل (هو) التوجه نحو الظواهر الفكرية والثقافية، أفضل من الأشخاص. مثلا حين توجه إدوارد سعيد نحو ظاهرة الاستشراق ككل، أحدث خللا كبيرا في البنية التصورية الغربية. لو اتجه نحو مستشرق واحد كما فعل قبله عبد الرحمن بدوي والخطيبي لما أحدث تلك الثورة.

أنا عادة أوجه الطلبة والباحثين نحو التصوّرات الكبرى والظواهر المعرفية أكثر من التركيز على الشخصيات، لأن ذلك لن يجعل من الباحث إلا تلميذا أبديا لذلك المفكر، فتجد كل محاضراته ومشاركاته وبحوثه اللاحقة حول ذلك الفيلسوف.

– تناولت في كتاباتك مسألة الاختلاف وفضائلها الحضارية، أولا كيف يشرح مهنانة الموضوع لغير المتخصصين، وبرأيك لماذا فشلت تجارب الاختلاف في العالم العربي؟ 

غلاف كتاب “العرب ومسألة الإختلاف”، الصادر عن منشورات الإختلاف، 2014.

التحدي الأساسي للفكر والمجتمع الآن: هو كيف ينتقل من التصوّر الأحادي والفكر الواحد والثقافة الشمولية إلى تصورات وثقافات ومنظورات متعددة؟ كيف يتخلص الفرد من شعوره المَرضي بأنَّه وصيّ على الحقيقة والهوية والأخلاق؟ وأنّه بدل أن يهدر طاقته في المنافحة عن العقيدة ونفي الاختلاف عن الآخرين، عليه أن يستثمر ذلك في بناء تصوراته الخاصة بواسطة المعرفة والبحث والشك، وليس بالتسليم والتصديق الأعمى. كيف يميّز الفرد بين الاعتقاد والمعرفة؟ لأن الخلط بينهما هو ما يقتل ثقافة الاختلاف.

أعتقد أن كل شيء نسبيّ ولا توجد أي يقينيات مطلقة إلا في رأس من تلقاها بالوراثة والتربية، وجعل منها أصناما يطوف حولها جهله المقدس. أما التحدي الأساسي هو كيف نجعل الاختلاف ممارسة حياتية وليس شعارا ينافق به الوعاظ ويتاجر به السياسيون. مثلما يحدث حاليا في ملتقيات ومؤتمرات عالمية لحوار الأديان بين رجال دين من ديانات كلها تكفر الآخر وتعتبره محرفا أو مسروقا؛ أو حوار حضارات يعلم الجميع أنه لم تعد هناك إلا حضارة واحدة: هي الحضارة الغربية، والباقي ثقافات تتماهى أو تتصادم معها بقدر ما تستطيع.

– أتاحت الشبكة الافتراضية ومواقع التواصل الاجتماعي اليوم للشباب منطق ممارسات جديدة كسرت التراتبية الهرمية التقليدية بين الشيخ/المريد، الخاصة/العامة، المثقف/العامي.
هل واكب المثقف الجزائري هذا الواقع الجديد واستطاع إثراء هذا الفضاء، أم أنه حوّله لفضاء للخطابات الشعبويّة والأيديولوجية والصراعات الدونكيشوتية، بحيث تصدق في حقه قولة “أمبرتو إيكو” “إن وسائل التواصل أتاحت لجحافل الأغبياء أن يتحدثوا وكأنهم علماء”؟ 

الوسائل الجديدة قسمت المثقف إلى قسمين: هناك من تفطّن إلى قوتها ومنطقها الشعبويّ وراح يستثمر فيها بدون تردد، وبدون حنين للنخبوية القديمة، وهذا سر ظهور نجوم جديدة لم يكونوا معروفين في العصر الورقي الأخير. وهناك من لا يزل يحاكم العصر الإلكتروني ومنطقه بأحكام الكاتب الكلاسيكي، أسوة بأمبرتو إيكو (ما تنتظر من إيكو الذي يملك مكتبة شخصيّة بملايين الكتب، صرف عليها كل ثروته، ثم يأتي رواد السيليكون فالي ليضربوا مساره في صفر). كل هذا طبيعي، وحدث في التاريخ عدة مرات، بعد اختراع الطباعة الآلية هناك أيضا من قاومها، وبقي يكتب وينسخ بيديه. وبعد اختراع الآلة الراقنة مثلا، كان نيتشه يكتب عليها واشترى راقنة فخمة، بينما هيدغر الذي أتى بعده وعاش في عصر التكنولوجيا النازية، واصل الكتابة بالقلم، لقد كتب مائة ألف صفحة بيديه القرويتين. وهذا حال من يرفض الآن الوسائط الجديدة رغم أنه مدمن عليها.

يكثر اليوم عبر شبكات التواصل الاجتماعي الحديث عن مفاهيم من قبيل “التنوير” “العقلانية” “الحرية”، فما هو التنوير وما هي أخلاقيات المستنير؟ وهل التنوير والعقلانية متعلقة بنقد الممارسات الدينية فقط أم أنه ينسحب على جميع الممارسات الثقافية والسياسية، بما في ذلك العلمانية؟

التنوير كما عرّفه كانط: هو خروج العقل من الوصاية الفكرية، وخروج الفرد من القصور العقلي الذي يضعه تحت تلك الوصاية، وهي وصاية يمارسها رجال السلطة عن طريق رجال الدين. فالتنوير إذا يقوم على منح كل فرد أدوات معرفية لكي يبني تصوراته حول الانسان والله والوجود بنفسه، بدل توكيل رجل الدين أو المدرسة بذلك. إنه يقوم على الفردية في التصور والتفكير والحياة ونبذ الخمول المعرفي. ولا يمكن فصل مشروع التنوير عن قيم الديموقراطية والعلمانية والمواطنة، لأنها كلها تقوم على رفع الوصاية الروحية والمعرفية عن الفرد والمواطن داخل الدولة الحديثة التي تقوم على قيم القانون المدني، أي قيم الممنوع والمسموح وليس قيم الحلال والحرام.

غلاف كتاب “كتابات على جدار الأزمة”، عن منشورات القرن 21، عام 2016.

نعرف أن اسماعيل مهنانة يشتغل على مسارات ثلاث على الأقل في المرحلة الراهنة، ألا وهي الكتابة السردية ومجال السياسة والفكر الديني. فما هي المشاريع التي يشتغل عليها راهنا والتي قد تثمر مؤلفات تخرج لدائرة الضوء والنشر على المدى القريب أو البعيد؟

حاليا أقترب من إنهاء كتاب يضم تأملات حول الفكر في الشرط ما بعد الكولنيالي، يضم دراسات حول إدوارد سعيد وطارق رمضان وبرنار لويس. وأتابع مشروعا آخر، لم يكتمل بعد، حول أدوات كتابة السيرة النبوية في الاستشراق وفي الفكر العربي.


مراجعة وتخريج: عمر دريوش

كاتب

الصورة الافتراضية
عمر دريوش
مدون ومترجم، محب للفلسفة والتصوف.
المقالات: 4