تشرفنا هذا الأسبوع بمحاورة ضيفنا الثامن، الدكتور “مبروك دريدي” وهو أستاذ الأدب العربي في جامعة سطيف، الجزائر. له العديد من المقالات والأعمال النقدية والروائية المنشورة، عن التراث الشعبي والسرديات. صدرت له رواية ” في حضرة الماء” 2016. حائز على جائزة الشارقة للإبداعي العربي 2016 وجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي 2018، كما أدرجت روايته القادمة وادي الجن في القائمة القصيرة لجائزة الجزائر تقرأ (دورة 2018).
ننوّه أن الدكتور مبروك خصص لنا ساعات من وقته الخاص من أجل الحوار، الذي كان غنيا وأكرمنا فيه بإجابات شفافة، جدية ودقيقة عن الأدب، القصص الشعبي، السرديات، الساحة النقدية، الحداثة والتراث، الجوائز الأدبية وغيرها من الموضوعات.
حوارنا مع الضيف:
لكل منَّا نظرتُه الخاصة عن نفسه، اعتدنا أن نبدأ الحوار، بتصوُّر محاورنا الخاصّ، لذا؛ كيف يحبُّ الدكتور مبروك دريدي أن يعرِّف نفسه بين الانسان والأستاذ المحاضر، المتخصّص النّاقد، والكاتب الرّوائي؟
“مبروك دريدي” ككل الناس، جاء إلى الوجود خلقا كما يؤمن. وتدرج في تعلم كيف يكون إنسانه ومازال يتعلم. جزائري بكل التعدد التاريخي والثقافي الذي هو راسخ في هذا الفضاء الذي صار وطنا في سياق إرادة للبشر الذين سكنوه. مبروك دريدي يسكن في وطن ثقافي اسمه الجزائر له أهلية حضارية دليلها ما نحن عليه من حدود نعرف بها ذاتنا من حيث هي ليست الآخر. أنا واحد من الجزائريين.
– بعيدا عن توجهك الأدبي كمختص وبعيدا عن مؤلفاتك كأكاديمي، ماذا تخبرنا عن علاقتك الشخصية كإنسان مع الكتابة؟ كيف اكتشفت نفسك الكاتبة؟ وكيف تطور وعيك بها؟ فهل كانت هي ما دفعك لاختيار دراسة الأدب كتخصص أم ألقى التخصص بذور الكتابة في تراب مبروكٍ فأزهر أعمالا إبداعية؟
صدقا، لم أكتشفني بعد حتى الآن، ولكن هناك محطات فارقة ومهمة في مسيرة كلّ واحد منّا. عن نفسي كنت شغوفا باللغة وبالفكر وبالمختلف مما تقوله اللغة سواء في حديث الناس أو في كتابات طالعتها منذ صغري. أذكر أنني كنت أندهش كيف يتكلم الكبار بالجمل المنمقات البليغات وأبقى أفكر في أعماقها، وفي مرحلة الدراسة كنت ميالا للخروج عن النصوص المقررات مدرسيا، فكنت أطالع ما يصل إلى يدي، وللأمانة لم أنشأ في بيت علماء ولكنني كنت أصغر بعض إخوتي فأتسلق كتبهم في مراحل تكبرني، وبدأت أحصل خارج البيت على بعض الجواهر لعلّ أهمها رسالة الغفران التي عرفتها في المتوسط ومقدمة ابن خلدون. لا أدّعي أني كنت أفهمها ولكن كنت أحس أنّها نصوص فاتحة لقادم من فهمي. وفي مرحلة الثانوية اكتشفت أنّي مورط في الفكريات والآداب وتعرفتني قارئا ثم كاتبا متمرنا، وبدأت حينها بنصوص قصصية ما زلت أحتفظ بمخطوطاتها.
-لمن كان يقرأ “مبروك دريدي” في بداياته الأولى هذه؟ من هو أكثر الكتّاب الذين تركوا فيه أثرا كبيرا آنذاك؟ ومن أين يستمد روح الكتابة؟ يعني بشكل خاص أكثر، الكاتب الذي ترك في نفس “مبروك دريدي” تلك اللمسة الخاصة، التي مازال يراها ويستشعرها فيه إلى الآن، بالإضافة للمعري وابن خلدون.
حين تصل إلى مرحلة تتداخل فيها النصوص التي قرأتها وفتحت في ذهنك أعماقا مهمة، وثوّرت فكرك وجعلته تفاعليا، في هذه المرحلة التي تسألني فيها الآن تتراكب وتتراكم كتابات عديدة وممتزجة في الفكرة والقول، ولكن يمكن بالعودة إلى مراحل أولى من القراءة والتفتح الذهني أن نذكر بعض الذين كانوا فاتحين بنصّهم في جهازنا القارئ، كان الجيل الأول عربيا ممن يذكرون في هذا، وقد كان للمقرر الدراسي آنذاك فضله، فعرفنا العقاد وأحمد أمين طه حسين والرافعي، ومن الشعراء مفدي زكريا وأحمد شوقي والسياب ونازك الملائكة كما كان للتراث الجاهلي والإسلامي فتوحات في أذهاننا وفعلا بانيا لجهازنا القرائي. وكان لهذه النصوص دور التثوير والاستفزاز العقلي في متابعة التقصي والذهاب بعيدا، كما لا أنكر بالطبع أنّ التراث الفرنسي بخاصة كفكتور هوغو ولافونتان فتحوا اهتماما وبعدا مهما على آداب العالم. وفي قضية التأثر قد يكون النضج هو دليله، فأنا من محبي الطيب صالح في حرفة الرواية، وفي النقد والفكر معجب بالمدرسة السيميائية والدراسات الثقافية.
– بالحديث عن الكتاب، تعتبر اللغة رفيقة الكاتب، وقد تكتسي العلاقة بينهما شيئًا من الغموض، تطبعه فلسفةُ كل كاتبٍ منفردًا، ونظرته وتعاطيه معها في حدود واقعه ومخياله، فما هي فلسفة الدكتور في اللغة؟ وما نظرته لها؟ وكيف يروضها أو يستدعيها؟
كما يقول المتصوفة: تمام الشيء في نقصانه كما تمام القوس في اعوجاجها. أتصوّر أن اللغة تقوم على فلسفة النقص الدائم. بمعنى أنّها الجهاز الذّي يخزن معرفتنا ويحتفظ بمدركاتنا ويحاول قول مكنونات ومتخيلات أكبر من العالم المقبوض في الحسّيّات، لذلك فاللغة بتجليها المحسوس تظل تطارد نفسها في رغبتنا وإرادتنا، وكلما استخدمناها لتقول بعض ما نود تسجيله في زمنيتنا المتدفقة، أو نحاول خرق مجاهيل متخيلنا، فإنّ اللغة تعود بنا لتلد رغبة أكبر وتطلعا أشد وأقوى. إنّ فلسفتي في اللغة هي استهلاكها في اللحظة المزمنة في فكرتي، فإذا فعلت واقتنعت بأنها تمت في نقصها عاودتني فكرة أخرى لأواصل تدفق فكري وسيرورة تفكيري. نحن نفكر في جريان لا يتوقف ولكنه يتراكم في لغتنا حين نسجل بها زمنية وعيناها أو تخيلنا أننا وعيناها، لذلك لا يتم الفكر فلا تتم اللغة ولا ينتهي النصّ، ويسلم الواحد قراءته المعلنة في اللغة إلى مشاركيه فيتكلمون موافقة أو ردا يصحح أو يستدرك على نصّه، ومن جيل إلى آخر ينمو التراكم وينشأ التراث وتستجيب آفاق الفكر واللغة لهذا الكون الذي لا يكف عن الجريان.
– كانت موضوعات رسالتيك للماجستير والدكتوراه عن القصة الشعبية والسردية الشعبية على التوالي. ما هو منظورك عن القصة الشعبية؟ وبعين الناقد الأديب، هل تراها تصلح أن تكون مادة أدبية؟ وكيف ترى أو تحدد إذا ماهيتها، إذا كان فيها وجه أدبي، على الصعيدين السردي والجمالي؟
أود في هذا المقام أن أقول كلمة من فيض معرفتي النقدية واشتغالي بالنصية الشعبية: إن الكثير يظلم الأدب الشعبي وينزله منزلة لا تليق بقدره ولا بأهميته وخطورته. وحتى من الأكاديميين من يركب هذه الموجة الاستعلائية على التراث الشعبي وآدابه. والحقيقة غير ذلك، فالثقافة الشعبية ثقافة عضوية وتدخل في عمق هوية الشعوب وشخصياتها الحضارية، وهذه الثقافة لم تنشأ عن دافع المتعة أو الجمالية المحضة، فهي ثقافة أنتجها السياق الذّي تفكر فيه المبدع الشعبي في قضايا جوهرية، وذلك حين طرح أسئلة الكينونة والتاريخ بالمعنى الحضاري والسسيوأنثروبولجي، ولا يفهم ذلك على أنّ النصّ الشعبي يخلو من جمالية الفكرة وجمالية البناء الفني، وإنّما وبالنظر إلى تداوليته وشيوعه وانتشاره في أوساط الجماهير كان رسالة تبحث عن الوجوه التطبيقية له في السلوك الاجتماعي، ولا ننسى أنه النص الوريث للذاكرة الخرافية والأسطورية للشعوب، فالجزائري في لحظة من تاريخه كان واعيا بأنّ النص الشعبي يلبي حاجته إلى المعرفة والهوية ويجيب سؤال متاعته في سياق مخصوص بمجتمع تداولي. إنه من الخطأ أن نخرج الأدب الشعبي عن سياقه، وكذلك من الخطأ أن نترك عمقه بادعاء أنّ بدائل قامت بقطيعته باسم الحداثة. أتصور كما قلت في دراستي أنّ المبدع الشعبي، في الحكي خاصة، يستحق لقب الفيلسوف والمفكر بما لنصه من قيمة في المعرفة ومن قيمة في تدفق الهوية السردية لشعب يقوم نصه دليلا عليه.
– من منظورك أيضا، أستاذ، كدارس للظاهرة من منظور “أطروحات في الأدب الحديث”، وكقارئ وروائي، كيف ترى تأثير القَصَص الشعبي في الرواية والأدب الحديث، على صعيدي الإبداع والتأثر؟ وهل تأثر الكاتب بالتراث القصصي الشعبوي، يجعله كاتبا خارج اللحظة الراهنة؟
تقصدون الشعبيّ، كلمة شعبويّ لا تصدق هنا.
-هل يمكن أن تفصل لنا الفرق أستاذ أولا؟
الشعبي كلمة توصّف انتماء وهوية وتحيل على ثقافة تداولية في المشترك السسيولوجي والتاريخي لجماعة ثقافية حازت بالفعل كفاءتها في كينونة واضحة ومؤهلة للتجاور مع الآخرين. أما مصطلح شعبوي فهو يستخدم في الأدبيات السياسية والفكرية ليحيل على الممارسات الارتجالية والمتحررة من قيد المؤسسة والضوابط السياسية التقليدية والملتزمة بالإيديولوجيا المدرسية للدولة والحزب.
فيما وصلت إليه الدراسات الأنثروبولوجية البحوث في الثقافات يتقرر أنه ما من فرد إلا وهو تصغير لثقافة ما، فالإنتماء إلى ثقافة جبر في اكتساب الكينونة الثقافية، فاللغة وأنساق الاجتماع كما في العلاقات وتنظيم المؤسسات وتسيير الحق والواجب، واللباس والطعام والعمارة وغيرها كلها تبني ما يعرف بالثقافة، فلا نتصور عقلا يفكر ولا شخصا يعيش خارج هذه الجاذبية الثقافية، فالمتكلم باللغة والمنتج بها هو صانع نص يشيّده ويؤثثه في لحظة قصد دلالية، وهو بذلك يصب ثقافة ينتمي إليها في حدود ما يعتقده على مدى تشكل شخصيته وفكره. والأديب كذلك فهو فاعل يفكر ويسجل داخل مجموع حدود يؤطر ثقافيا ما يود ويقصد قوله، فالنص رسالة ثقافية ابتداء وانتهاء بقارئ مؤوّل. ولاحظوا حين ينال واحد جائزة نوبل مثل “مو يان” الصيني فيصرّح بأنّه لم يزد عن تحويل نصوص شعبية إلى لغة منتخبة، ولاحظوا كيف ابتدع “ماركيز” الواقعية السحرية من اشتغاله على تراث أمريكا اللاتينية وبلده كولومبيا وحتى عربيا قدّم كبار الكتاب فيض ثقافة شعبية جعلت القارئ معنيا بنصهم ومتجولا في صناعته الدلالية ومقاصده الحضارية كمحفوظ والطيب صالح ووطار وبن هدوقة… هل تتصورون أنّ جسر الإبداع يمر عبر خيانة التراث؟ أبدا، هي دعوة للقطيعة باسم الحداثة الزائفة، ذلك أنّ النمو والتراكم يقتضي استخدام التراث الذاكري واليومي والتكلم بدلالة الناس.
– قلت في مقال “أنثروبولوجيا الهوية”: “…بهذا الفهم ليست الهوية إلا تحييناً للإنسان في وظيفة الحياة المشروطة بنوعه أولا، وثقافته المحيّزة في تراثه ثانيا…“
من منظورك كأكاديمي، كيف ترى بنية المتخيل في الحكايا الشعبية؟ وما دورها في التأسيس للوعي أو الفكر الشعبيّ، إذ كيف تنعكس على مفاهيم العقل الجمعي بخصوص اعتبارات الهوية والدين؟ فهل للثقافة الشعبية القدرة على إنتاج الواقع المثالي ذهنياً أو هل يمكن أن تكون أداة للاحتجاج ضد الواقع؟
مرة أخرى علينا أن نتذكر أنّ صناعة واقع على مقاس المثال أمر مستحيل بالمطلق في الحياة البشرية. الثقافة الشعبية في زمنيتها توجد في شكل تراث يقبع في ذاكرة تمثّل جزءا من هوية سردية (مصطلح الهوية السردية لـ “بول ريكور” ويعني به التسلسل المنظوم في تراكم شعب امتلك ثقافة وآثارا في منجزه العلمي والفني واستغرق تاريخه الذي صار موقعه في التواجد مع الآخرين من البشر). والجزء الآخر من الثقافة الشعبية هو الجزء الحيّ الممتد في واقع الوارث للهوية، فلا يمكن لشعب أن يطمئن إلى كينونته وهوية تبني على الأقل حدوده في الأسئلة الكبرى (سؤال الأصول، سؤال المصير…). شعب لا يمكنه أن يستغرق في الفعل الحضاري، ذلك أنّ قصدية الكينونة الحضارية مستفهمة دائما بصيغة ثقافية فيما يشترك فيه الأفراد ضمن مؤسسة تصنع أو يمكنها أن تصنع شخصية قادرة على التجاور والصراع، وهذه حقيقة الشعوب في بنيوية نظامها، فهل يمكن لأحد أن يدلنا على شعب ليست له دولة؟ بالطبع لا، وهذا دليل على أنّ المؤسسة (الدولة بكل أجهزتها) هي حاصل بناء ثقافي في تاريخية المشترك الناظم، والدين واللغة والعادات والتراث… هي مقومات هذه الثقافة البانية، فإن دخلت في تقويض بعضها بعضا وصدام المقومات بالخروج من انسجامها التاريخي حين ذاك تكون الهوية قد بدأت في الصدأ. المثقف يقع عليه أن ينقد بما يرمم لا أن يقوّض ويهدم محاور ناظمة للناس بطرح بدائل مستعارة ومقطوعة تاريخيا، كما يمكن إعادة إنتاج خطاب المقومات لا إعادة المقومات ذاتها. فمسألة الدين تقع في هذه الأرض المعرفية، والملاحظ أنّ البعض لا يفرق بين الدين والخطاب الديني ولذلك يقع في العنف والعنف المضاد. يمكن أن يصبح الدين بالمعايشة أقوى من الدين بالممارسة.
– الأستاذ كمتخصص لديه عديد الأعمال النقدية، هل يحدِّثنا عن رأيه ونظرته لدور النقد الأدبي، لصالح الأدب والقارئ ومعًا؟ وهل هو حقا في أزمة؟ – ما سرُّ عزوف القراء عن الأعمال النقدية؟ وما مدى تداعيات هذا العزوف على الواقع الأدبي الملموس؟ وهل هناك عزوف معاكس، هو عزوف النقاد عن قراءة الأعمال الشبابية؟
أتصور أنّ النقد الأدبي في أزمة، وهي أزمة النصّ الأدبي ذاته، وكلا الطرفين؛ النص والنقد مأزومان لأزمة القراءة، فالناقد الآن تحوّل إلى فاعل محترف مهني بمعنى أنّه لم يعد فاعلا ثقافيا بالمعنى الاجتماعي، ونستطيع قول الأمر نفسه عن الأديب؛ فهو كذلك صار مهنيا يكتب لجمهور معيّن يتحيّن في أثناء القراءة بمجموعة تعريف محددة (الأستاذ والطالب وبعض من مهتمين) وهذا يعني أنّ الأدب والنقد في هويتهما قد صارا فعلا مدرسيا، وبالعودة إلى حقيقة الأمر يكون هذا الحال نتيجة تضييق لواسع، والسبب هو حالة الجفاف التي أصابت مجتمع القراءة، وحالة الانكماش التّي تناقص معها عدد مهم من الفاعلين بالنّص، فما هو مشهود اليوم حالة خصومة تصل حدّ الصدام بين الناقد والأديب وذلك مرده إلى وجودهما في قاعة كبيرة تردّ صداهما، فما نكتبه في النقد الآن صار تحت طلب المقال العلمي الصارم، وإذا كان هذا مفيدا في التكوين النقدي للجامعيين فهو ليس كذلك للأدب والأدباء، حين يعود مجتمع القراءة إلى عافيته سنكون أمام وضع مصحح؛ يكون فيه الناقد مرشدا للقراء ودالا لهم بالإشارات التنظيرية والمعرفية، وسيكف الأديب عن سماع الناقد لأنّه سيهتم بجمهوره أكثر.
– يبدو النص الأدبي العربي المعاصر رهين جدلية التراث والحداثة، بالرغم من كونه غير منخرط في التراث، ولا منتج للحداثة، بم تبررون هذه الأزمة البنيوية التي يعانيها النص العربي المعاصر؟
في تصوري أنّ أخطر ما يهدد الفكر عموما، والأدب ضمنه، هو المصادرة على المطلوب. بمعنى الاصطفاف مع أو ضد التراث، ومن كثرة ما تكرر هذا وروج له صار من مسلمات المثقف والمفكر العربي، وكأنّ الأمر شرط لأن ينتسب الكاتب قبل شروعه في نصه إلى التراث أو ضده. وهذا وضع خطير وتقويضي، ليس ضروريا أن نلعن التراث أو الحداثة، بل الضروري أن نحيّن لحظة فكرنا بما يستجيب لمطالبنا الحضارية الراهنة، ماذا يجني المفكر أو الأديب من لعنه للتراث؟؟؟ وما يعني أن يدّعي أحد أنّ الحداثة استعارة هي الحلّ السحري لمعضلاتنا؟؟ ثمّ أنّ هذا التلاعن والتنابز ليس إلا خواطر خطابية بمعنى أنّها ليست حلولا فعلية. أتصور أن إثبات جدوى فكر أو مشروع ما، يتحقق في المنجز وفي صناعة الحلول وليس في الإشهارية والإعلام الذّي يحرّف الرأي ويعمق الفجوة بدل أن ينسّق الجهد ويآلف بين الأفكار لمصلحة انطلاقة حضارية ممكنة.
–كيف ترى أجواء الساحة الأدبية اليوم في الجزائر؟ هل يمكن الحديث عن تيارات أو مدارس أو اتجاهات أدبية بالمعنى الحقيقي؟ وكيف تستشرف مستقبل الأدب الجزائري، خاصة مع الكتابات الشبابية التي تشهدها الساحة الأدبية مؤخرا؟
الأدب في الجزائر موجود وينطق بصوت مسموع، ولكن أن نتحدث عن مدرسة أو تيار بارز فهذا في تصوري مازال بعيدا وإن كانت بذرته موجودة مع الكتابة الجديدة. وفي هذا يمكننا الفهم والإدراك بأن الأدب ليس ظاهرة مكتفية بذاتها أو معزولة عمّا يستغرقها، على العكس تماما فالأدب هو مجموع المدونة النصية التي ينتجها الفاعلون فكرا وتكلما، وهو حدث ضمن نصية ثقافية وسسيولوجية وفكرية شاملة، فالكاتب والقارئ يتراسلان ضمن سياق يجمعهما حياة وممارسة في الاجتماع، ولذلك كان الأدب وسيبقى أثرا شاهدا على زمنية ثقافية متموضعة فكرا ومجتمعا. نحن في الجزائر ككل المجتمعات نعيش لحظة الأدب ونصّه ضمن مخصوص تاريخيتنا، ومعلوم أننا في عمق تفاعلات ومخاضات في لحظتنا الراهنة يتلمس فيها الكتاب آفاق الممكن والمنسجم مع جديدي العالم ومواكبة التطور الحاصل في الأجيال الناشئة. لا يمكننا الحكم على التجربة إلا حين نضجها، فهي الآن في أثناء إنجاز ذاتها وبالطبع لا يتم ذلك إلا عبر النص في القول وفي الفهم لدى المتواصلين به.
– “في حضرة الماء”، أولى أعمالك الروائية، التي كنت قد نلت عليها المركز الثالث في جائزة الشارقة للإبداع الأدبي، كيف تقيّمها كتجربة أولى، من منظورك كناقد، ومن منظورك كروائي ناشر؟ وكيف انعكست على وعيك السردي بعدها؟
نعم، في البداية أود أن أوضح أمرا يعرفه النقاد والدارسون وهو الأدب في معياري الكم والكيف. عن نفسي أرى الرواية نصّا نوعيا ويشترط كيفية مختلفة عن كل الأجناس الأدبية الأخرى، وفي هذا أومن تماما أنّ الرواية تسريد لغوي يحققه التكلم بالنصّ، ولذلك أراه في تقديري يحتاج إلى تجربة حياتية فكرية عميقة وفسيحة الحركة الزمنية والمكانية، وهو ما يسلمنا إلى القول بأنّ الرواية صنعة وحرفة تحتاج إلى تراكمها في مرحلة قبل نصية وحين تكتمل في المعلم الدلالي لشبكة البناء السردي تنضج لغة لتقولها، وهذا خلاف الشعر الذي يعتمد على دفقة شعورية وعاطفة لحظية تثور الخطاب الناطق بإحساس لجواب القول. الرواية نص معرفي نقدي يشكله مشروع يفكر داخل ذهن الروائي بأسئلة كبرى تتجاوز الفرد وتذهب في جميع تفاصيل المجتمع وهذا معلوم عند نقادها مثل إيان وات وبيير شارتيه وحتى باحثين قبلهما… من هذا الفهم الذي أؤمن به كتبت نصي الأول في حضرة الماء استجابة لسنوات فكّر فيها مشروع داخل ذهني، ولم أنتج بعدها إلا بعد ظهور مشروع آخر، وانتهيت إلى نص أخير مؤخرا. أحببت القول أنّني لا أؤمن بالرواية الموسمية أو ما أسميه الرواية القصيدة، لا أكتب النص الروائي اختلاقا بل أكتبه كمشروع يشترط وقتا ونضجا لأنني أريده أن يبقى. “في حضرة الماء” أجبت محاولا عن أسئلة صورها بُعد التاريخ ومسؤولية التحايل لدى ورثة هذا التاريخ. بعدها كتبت (مخطوط) يسائل الآنا من زاوية أخرى. ووادي الجن نصّ ثالث، أنا مقل وأكتب الرواية حين تطلب هي لا أنا.
– “وادي الجن” عنوان روايتك القادمة، و “في حضرة الماء” كان عنوان روايتك السَّابقة، هل ثمّة علاقة بين العنوانين تكمن خلف رمزيات الجن/الحضرة، الواد/الماء؟ وهل ثمة تقارب بين موضوعي الروايتين أو الظروف التي تنقل القارئ إليها؟
في النقد ما يعرف بالتناص الداخلي، وهو حين يتقاطع الكاتب مع نصوصه السابقة. وهذا مؤكد لدى كلّ الكتاب فليس هناك من يستطيع ادعاء عدم تقاطع نصوصه. ولكن لا يعني ذلك تداخلا وتآكلا بين النصوص وإلا كانت نصا واحدا بوجوه مختلفة الظاهر فقط كما هو عند بعض الكتاب. عن نفسي أقرّ بهذا التقاطع وارتباط نصوص في نص جامع هو أناي القابعة في ذاكرة الكتابة. ومع ذلك يختلف نص عن نص لاختلاف مشروع السؤال الذي سبب كلّ واحد منهما، بالإضافة إلى امتياز اللحظة الزمنية التي أكتب فيها، فبين في حضرة الماء ووادي الجن قرابة العشرة سنوات وهي مسافة حدث فيها تراكم صيروري في ذاتي المتفكرة والكاتبة ثقافيا واجتماعيا، ولكن هناك ناظم مهما تراكمت تجربتنا فله صفة الديمومة وهو أس يقع في صميم النحن الثقافية التي ننتمي إليها. لعل من الثوابت المضمرة عندي صوفية قابعة في شخصيتي تعمل على ترتيب ما أتلقاه وأحصلّه وأتعرّفه، أنا أعي هذا الناظم ولا أكتب بطريقة أصادم فيها هذه الذات الرفيقة بل أستفزها في حوار الأنا والنحن (الجماعة الثقافية) وأصوغ من الحوار سردية لذلك.
– حصل الروائي مبروك دريدي على جائزة الشارقة للإبداع العربي وجائزة الصالح الطيب للإبداع الكتابي هذا العام، وترشحت روايته الجديدة للقائمة القصيرة لجائزة الجزائر تقرأ، وكان ضمن مسيرته الأكاديمية مشاركا في عديد الملتقيات الوطنية والدولية.
فهلا يحدثنا الكاتب بحكم تجربته عن مصداقية هذه الملتقيات الأدبية أولا؟
فيما يخص الملتقيات الأدبية والأكاديمية فأرى أنها تتراوح بين ملتقيات ناضجة وموضوعية وهي تلك التي تضع هدفها في نجاح تنشده وتريد لأثرها أن يكون له الفاعلية، أما بعض الملتقيات فهي شبيهة بجلسات عائلية ليس إلا.
-وثانيا، عن تجربته مع المسابقات الإبداعية؟ ومدى أهميتها في مسيرة الأديب والمتخصص؟ فهل تصنع الجوائز الكاتب؟ وهل يمكننا الحكم على مكانة الأديب من قيمة الجوائز التي حصل عليها؟ ثم ما رأي الكاتب في القول الذي يرى بأن السعي وراء نيل الألقاب والتكريمات ينتقص من قيمته ومن حريته الإبداعية؟
حصلت على جائزة الشارقة للإبداع الإصدار الأول وهي تشترط سن دون الأربعين وكان ذلك في 2016. وللأمانة كان نصي جاهزا ولم أنجزه للجائزة. وهذا العام جائزة الطيب صالح 2018 في دورتها الثامنة وقد أجزت في فرع الدراسة النقدية.. للأمانة أقول بأنّ هاتين الجائزتين صادقتان جدّا وفيهما موضوعية ومهنية كبيرة وصرامة حادة وتختار أسماء المحكمين بعناية ولم أر فيهما ما يريب. وبالطبع لا يمكنني الحديث عن جوائز لم أشارك فيها بل بعضها لا أفكر في المشاركة فيها بالنظر لعوامل عديدة يأتي على رأسها القيد الإيديولوجي وإملاءاته.
–أجبت سابقا بأنك من محبي الروائي السوداني صاحب رائعة موسم الهجرة إلى الشمال، وقد نلت جائزة “الطيب صالح” حول عمل نقدي بشأن السرديات الشعبية، وهذا يعتبر لا شك، أمر ذو خصوصية كبيرة لك، بماذا شعرت وأنت تتلقى خبر فوزك بالجائزة من بين عشرات الأعمال النقدية العربية؟
العمل الذي فزت به في الطيب صالح هو: المكان في النص السردي العربي؛ البنية والدلالة. واشتغلت فيه على حوالي ثلاثة عشر مصدرا بين قديم وحديث (روايات). وبحثت في سؤال المكان وكيف يوظفه النص بناء ودلالة وتأولت علاقة ذلك بالإطار الثقافي الذي يحدّ الفاعل بالكتابة.
عن تلقي الخبر. بالطبع كنت سعيدا جدا لأن الجائزة مهمة وفيها نقاد كبار وهذه شهادة تفتح لي آفاق رحبة، والعمل سيصدر عن الجائزة وعن الجزائر تقرأ هذا الموسم. بالإضافة إلى أنّ الجائزة تقدم ضيافة باذخة وتلاقيك بشخصيات وأصدقاء كبار وكذلك تمنحك مبلغ مال محترم.
– بالحديث عن الحرية، ولأن الأديب ثائر بالضرورة فما مدى حدود هذه الثورية وما مدى حرية الكاتب، إذا أخذنا بالحسبان المستجدات العربية بشكل عام، وكذا متطلبات النشر ورواج أنواع أدبية على حساب أخرى في سوق القراء؟
الحرية. أمر عظيم في كينونة الإنسان وطريق غاية في الضرورة على طريق الفرد سواء كان عالما أو فنانا أو شخصا عاديا. ولكن دعينا نتفق أنّ الحرية عند العربي باتت معضلة ومشكلة؛ فنحن نلاحظ انّه لا اتفاق على مفهومها فالبعض يراها النطاق خارج جميع الجاذبيات الثقافية والاجتماعية والفكرية، والبعض يراها التزاما صارما بتعاليم معينة. في النهاية لم يجب الفكر العربي بوضوح في راهنه عن ماهية الحرية وهذا يعطلّ بل ويمنع ممارستها والمشي في طريقها الواضحة، حالة العمى هذه جعلت الحرية تنتج في بؤرة التأويل بشكل عنيف، فالبعض يراها مسلوبة ويقاتل في سبيل استرجاعها والبعض يراها قد طغت ويدعو إلى محاربتها. هل مع هذا الوضع يمكننا الحديث عن نتائج الحرية؟ نحن لم نتكلم كفاية وبوضوح عن مرجعية مفهومية لها. عن نفسي أرى أنّ حرية الكتابة في سياقنا الفكري والسسيولوجي عند منسوب مرضي ومقبول، ولاحظ أنّ لغة الطابو تنكمش وهذا ليس منجزا إيديولوجيا بل هو نتيجة لارتفاع منسوب الوعي الفكري في السنوات الأخيرة لدى الجمهور، فالناس باتوا يطمئنون للجدل بين المختلفين عكس التعتيم الذي كان أسلوبا تقليديا في جيل سابق. لكن على النخب أن ينخرطوا أكثر في هذا المطلب الثقافي الجماهيري ويحققوا قوة حجتهم في المشروع الفكري وليس في المصادرات والتخويف واستخدام السلطة من حدّها الرمزي إلى حدها الأداتي. نحن بخير ما لم يفسد “دعاة الحرية” الحرية، وما لم يغلق الدوغمائيون قنوات الحوار. وأرى أن هذه مهمة النخب الناضجة والقادرة على الفعل التشييدي والصياني لمشروع التفكير معا، لا التفكير ضد.
-في مسيرتك التعليميّة، درّست مواد من قبيل “تيّارات فكريّة”، “نظريّة الرّواية”، “التّراث الشّعبي”، “السّرديات”، نرى هنا أن ثمّة نقطة تجمعهم وتهمّنا، إذ من جهةٍ، جلُّ ما يصلنا تحت مسمّى “قصص شعبي”، و”سرديات”، وصلنا بالعامية، ولا أحد يعترض على ذلك، ومن جهةٍ أخرى نجد عديد الأصوات المناهِضة لاِستعمال العاميّة في أدب اليوم، السّؤال، لأي تيار ينتمي “مبروك”، ولم هذه المفارقة؟
طالما آمنت بأنّ فواصل الجمركة بين الخطابات بدعوى التخصص لا أساس لها. أتصور أنّ الفصل بين تخصصات ضمن الدرس اللغوي والأدبي وحتى جيرانه كالفلسفات والفكريات وحتى العلوم التجريبية هو أمر شبيه بخطوط الطول والعرض التي نرسمها على مجسم كوكب الأرض لغرض منهجي بينما هي في الواقع غير موجودة. منهجيا أن نفصل بين مجالات في العلم والمعرفة لنتخصص وننجح مهنيا بمردود ينتج خدمة لذلك المجال فهذا مقبول. لكن أن ندعي تخصصا تكون نتائجه تجريفا لمعارفنا بالمجالات الأخرى فهذا خطيئة كبرى. في هذا يتساوى الأدب كله في النص، فكل بنية استوفت شرط التشييد في الشكل وحققت نتائج الدلالة في توصيل ما تريد فهي نص. والشعبي لا يقل فصاحة ولا كفاءة عن النصوص الأخرى في حمل الدلالة والفنية في شكله الخطابي بل في بعض النصوص يفوق الأدب الشعبي ما يعرف بالأدب الرسمي جمالا وفصاحة، ولاحظوا أن مصطلح الفصاحة ليس مقصورا على لغة دون أخرى إنما هو توصيف لأية لغة بلغت نتيجتها في التوصل والإفهام والجمالية. من هذا لا يفضل نص نصا آخر بنوع لغته ولا بمظهره اللساني بل الأفضلية تكون في تمام الدلالة والفنية وهكذا لا يصبح لتعيين اللغة أي فاعلية. وشخصيا يمكنني أن أقدم عشرات الأمثلة عن شعراء شعبيين لا يضاهيهم شعراء الفئة النخبوية العرافة باللغة المدرسية. يجب أن نخرج عن التصنيف والاصطفاف والتقاطب سواء في مجال العلوم أو داخل الفن الواحد، وها نحن في موجة الدراسات الأنثروبولوجية والثقافية التي تنفجر معها كل دعاوى التخصص بمفهومه الصارم.
–ولأن مسألة العامية هي مسألة هوية بالأساس، فقد سمعنا مؤخرا عديد الأصوات التي تطالب بالتركيز في تدريس أبنائنا أدبا وطنيا جزائريا. هل نستطيع اليوم أن نقول أنَّ هناك أدبا جزائريا خالصا بقديمه وجديده، بعاميته وفصحاه؟
بالطبع هناك أدب جزائري اكتمل في نصه وشهد على هوية قائله ومتلقيه ومتداوله. وبجرأة يمكننا القول أن اجتزاء هذا الأدب وانتخاب نصوصه وأدبائه هو ما أفسد رؤيتنا إليه، فلاحظوا أن بعض الأدباء مكرسون إلى حدّ الوثن، والبعض مغمور لا يراد له أن يعرف. أنا هنا أقصد مراحل تاريخية سابقة. ثمّ هذا العويل والتباكي المتوهم بشأن أن دراسة وتدريس الأدب الشعبي ضرب للهوية وتفكيك لها؟؟ هذا من قبيل المغالطة فتجارب الشعوب التي استثمرت الأجهزة التربوية والتعليمية والبحثية في التعريف بالتراث الشعبي وأدبه واستغلال كوامنه التي تختزن هوية قاعدية صالحة لاستنبات تطوّراتها لدى الأجيال المتلاحقة. هي تجارب أثبتت بالنتائج العملية أن التراث الشعبي وآدابه فاعل مهم وعامل يمكن استثمار أعماقه في بناء فرد وجماعة تعرف كيف تأتلف وتعرف كيف تختلف في حدود ثقافتها. أتصور أننا مازلنا على مسافة لا تظهر لنا القيمة الحضارية والفنية لتراثنا، وذلك يجعل المنفرين منه يتأولون مشكلات ومعضلات ليست حقيقية. عن نفسي أدعو إلى برمجة التراث الشعبي والأدبي له في عديد القطاعات ومنها التعليم، فهو ليس سلعة متحفية أو معرض سياحي كما يتوهم البعض بل هو مادة حية يمكن التواصل معها مرجعيا وتطوريا.
تدقيق: زين العابدين لطرش
تدقيق وتخريج: عمر دريوش