سيرة حياة أمل دنقل، مراجعة كتاب “الجنوبي” لـ عبلة الرويني.

بطاقة فنية عن الكتاب:

اسم الكتاب: الجنوبي.
اسم الكاتب: عبلة الرويني.
نوع الكتاب: سيرة.
الناشر: دار سعاد الصباح.
الطبعة: الأولى 1992.
عدد الصفحات: 181.

عن الكاتب:

كاتبة وصحفية وناقدة مصرية، ولدت في القاهرة في 14 أبريل 1953، تزوجت الشاعر المصري الراحل أمل دنقل عام 1979 وعاشت معه حتى وفاته في العام 1983.

عن الكتاب:

“الجنوبي”: اسم إحدى أقوى وأهم وأكمل قصائد الشاعر أمل دنقل، جاء كعنوان لكتاب سيرة ذاتية، لم يكتبها أمل عن نفسه، بل كتبتها أقرب المقربين منه، زوجته الأستاذة “عبلة الرويني”، التي ارتأت أن تغلف السيرة ب “الجنوبي”، الوصف الذي رآه أمل واختاره لنفسه.
تحت العنوان “الجنوبي”، تنظر إلينا عينا شاب في ملابس صعيدية، نظرة تختزل من الهم والهمة، هي نظرة اليأس ونظرة أمل.

أمل دنقل في ملابسه الصعيدية، 1978

قسمت عبلة الكتاب إلى ستة عشر فصلاً، بالإضافة إلى ملحق لمجموعة مسوّدات وصور. وبدأت الفصول من شخصية أمل وتناقضاتها إلى تعرفها عليه وتعلقها به، منتهية بحياتهما معاً. فالكتاب إذن يتناول سيرة أمل في الفترة القصيرة التي عرفته وعايشته فيها عبلة الرويني.

الكتاب بقدر ما هو حكاية أحداث سيرة الشاعر، هو أيضاً محاولة لفك شيفرة شخصيته الشاعرية والإنسانية. تغوص عبلة في فوضى تناقضاته لتخرج منها بمفاتيح أمل الشاعر، الذي يهرب من طلب الموت بالقصيدة، بديلاً عن الانتحار. أمل القارئ النهم، الصامت، الضاحك، الصاخب، الشديد، الرقيق، المحب للحياة، والذي يزدريها، المؤمن حد اليقين والرافض لكل يقين.

تقول أن شخصيته بحاجة للكثير من الحب والفهم؛ للوصول لصلب التوازن داخلها، لتلك النقطة التي يبدو عندها ما هو عليه، نقطة الشعر والقصيدة!

تتنقل الكاتبة بطريقة لافتة بين الأحداث، فتحط بنا في أرض قصتهما وسردها تارة، ثم تستطرد في الحديث عن أمل وشخصيته، شعره ومواقفه تارة أخرى، لتعود بنا بعد ذلك من حيث بدأت وتكمل الحكاية، بلغة شعرية، فيها من الاقتباس من أشعار أمل أو شعريته.

تبدأ قصة عبلة مع أمل من رغبتها في محاورة الشاعر اليساري، فتجتهد في البحث عنه وإجراء الحوار الذي أصرت على نشره رغم رفض محرر الجريدة، والتحذيرات من فظاظة وطبع أمل، إلا أنه وافق على لقائها مباشرة، تقول هي مفسرة أن ذلك قد يعود لرسالتها التي بعثت بها له. ثم يحدث انفتاح أمل على عبلة بعد خوفه من التعلق بها. وتدخل في حيثيات تركيبة شخصيته معرجة على مراحل حياته وطفولته.

أمل الذي عاش طفولة تراجيدية مؤلمة، مليئة بالفراقات والموت، اضظر لظروف أن ينقطع عن الدراسة وواصل تعليمه عصامياً. فكان يقرأ بنهم الكتب التي وجدها في مكتبة أبيه (شيخ الأزهر)، هذه القراءة التي انعكست على بدايات أمل المتدينة. نما معه أيضا فيها اهتمامه بالشعر، إذ تروي لنا عبلة حفظه للأبيات الطويلة من الشعر الجاهلي فقط ليصبح شاعراً! الأمر الذي يأخذنا إلى نقطة تميز ذاكرة أمل القوية جدا والتي كانت تمكّنه من استدعاء أسطر قرأها منذ سنوات طويلة.

عبلة الرويني وأمل دنقل

كبر الجنوبي وكبر معه الشعر، كبر وهو كثير القراءة، يقرأ أينما كان، ومع من كان، وينام وهو يقرأ والكتاب على على وجهه أو ملقى على الأرض، حتى الكتب المقدسة التي تأثر بها كثيراً.
وتخبرنا الكاتبة وهي تحكي عن طباعه التي صنعت منه أحد أهم الشعراء في مصر أنه لم يكن يتوسط في المواقف أبدا، فإما أبيض وإما أسود، إما يحب بقوة أو يكره بقسوة، كان أمل صريحا ومستفزا وكانت له طقوس مع الشعر، يكتبه على ورقة، على علبة سجائر، كلمات مشفرة لا يقرأها إلا هو، كانت كبرياؤه في الشعر رهيبة وكان غيورا عليه حد القسوة، إذ لم يكن يسمح أن يلقى شعر رديء أو شبه شعر في حضرته. كان منغلقاً على خصوصياته وخجولاً جداً، خاصة إذا تعلق الأمر بشعره؛ لم يكن يحب أن يلقي شعره إطلاقا!

كان يعطي للقصيدة قبل إخراجها حقها من المعنى، والصمت الطويل، والخروج إلى الشارع، والاحتكاك بالعالم والناس، وكان يهتم كثيراً بالبناء الفني والهندسي للقصيدة، لذلك كان يعتبر مرحلة مراجعتها هي الأهم من إخراجها في شكلها الذي تولد عليه.

كانت عبلة تدرك حقيقة عدم استقرار حياة أمل وتأثيرها عليه، وأدركت أن وجودها في حياته كان ربما الأمان الوحيد الذي وجده أخيراً والذي كان يطالب بتأكيده دوماً، أما بالنسبة لها فقد كان عنصر الاستقرار في حياته هو ما كان ينقصها وتبحث عنه.

تزوج الشاعر بالصحفية، وعاشا معا حياة الفقر والاستقرار والحركة والتنقل، حياة الشارع والمشي الطويل، الصمت والحب والشجار، القاهرة والإسكندرية والصعيد، الشغف والكتابة والشعر. لكنها لم تدم طويلاً، فحين زار عصر الفرح أمل، فر منه الأمل.

الشاعر والناقد المصري أحمد عبد المعطي حجازي (ص-110)

“مأساة أمل أنه ظل قادرا على حمل البحر، بينما البحر لم يستطع أن يحمله.. أجمل سمكة نادرة في مياهه”

مأساة السمك النادر! هكذا بدأت عبلة سردها لفصل من العذاب في حياة الشاعر، وكان فصله الأخير في الحياة، ذاك الذي تعامل معه كشاعر حتى حين نهره الطبيب، لكن شعريته تلك منحته الانتصار في النهاية، حتى حين قدم الموت عنده بقدميه لم يسلّم أمل، ولم يمد يده إليه ليذهب معه في هدوء، كان مازال لديه ما يقول، بعض القصائد كانت تطالب بالوجود، ومن يدري، هل تكون الكلمات والشعر من القوة بما يكفي لترسم حياة البشر والفنانين بما يسمح لها هي بالظهور؟ هل عانى أمل ما عاناه لتشق قصائده -التي لابد أن تخرج من قلمه هو- للوجود؟

وفي الأخير تبقى “الجنوبي” سيرة عن أمل الإنسان كما عرفته عبلة الرويني في فترة قصيرة من حياته، سيرة خلت من أحاديث أمل الداخلية وأفكاره وقناعاته التي لم يخرجها للعالم، سيرة كانت حافلة بالدفاع عن أمل وعن تصرفاته وطباعه، كتبت بالحب والوفاء.

أمل دنقل مع لويس عوض، جابر عصفور ومحمد بدوي في غرفة معهد السرطان

إعداد: منال بوخزنة وعمر دريوش

تدقيق لغوي: آية الشاعر

كاتب

الصورة الافتراضية
Omar Driouech
المقالات: 0