الأدب في أغاني الكيبوب – Kpop

يعدّ الكيبوب (الكي بوب – بوب كوريا الجنوبية – k-pop) اليوم من أشهر الأنواع الموسيقية المنتشرة في العالم العربي، إذ يعتبر الشرق الأوسط ومنطقة شمال أفريقيا من أكثر المناطق المستضيفة لهذا النوع الموسيقي، الذي أحدث ثورة في مجال الموسيقى عامة ومجال السمعي البصري والموضة خاصة.

طريق الكيبوب إلى العالمية منذ اجتياحه السوق اليابانية وإلى اليوم، يحتاج مقالا منفصلا ومفصلا، بل إلى سلسلة مقالات للحديث عنه كصناعة كاملة وعن أسباب نجاحها، وسر معجبيها الذين لا يفارقهم الحماس أبدا، بل حتى عن جانبها المظلم والانتقادات الموجهة إليها، مع أن تاريخ هذه الصناعة لا يتجاوز الثلاثين سنة، والتي جاءت كطريقة لإنقاذ كوريا الجنوبية من أزمتها المالية مع بداية التسعينات. لكن في مقالنا هذا سنركز على جانب تأثر هذا الفن الموسيقي بالأدب والتأثير المتبادل بينهما.

– بحث الكي بوب عن “المعنى” وجّهه نحو الأدب.

يعتبر الكي بوب فنا موسيقيا مستحدثا ومميّزا، إذ أنه يعتمد -منذ بداياته- على دمج الموسيقى الكورية بعدة أساليب موسيقية أجنبية -الهيب هوب بدرجة أخص-. بالموازاة، تعتبر الفيديوهات الموسيقية للكيبوب عنصرا مهما، إذ تمتاز بميزانيات عالية (تصل إلى قرابة مليون دولار أحيانا!) وبدرجة كبيرة من التعقيد، فعلى عكس الإنتاج الغربي، لا زال الإنتاج الشرقي يحتفظ بعنصر “المعنى” والرمزية، ويولّيه اهتماما كبيرا، وهذا يحسب من أهم أسباب النجاح الذي يحيط به.

يتجلى في الكيبوب عنصر المعنى في الـ: كونسبت / المفهوم الإخراجي والتصويري، الذي تبني عليه الفرق الكورية إصداراتها، إذ تحرص على اختيارها بدقة (لطيف، مظلم، مضحك،غريب..) وينعكس ذلك على اللباس واختيار الألوان، والكلمات والمشاهد والصور الترويجية والرقصة وغير ذلك.

Résultat de recherche d'images pour "kpop mv shooting budget"
صورة من الفيديو الموسيقي Chase me

ولكن مع توسّع صناعة الكيبوب بظهور الكثير من الفنانين، الأمر الذي خلق جوا من التنافسية -إضافة إلى غزارة الإنتاج المرتبط بالجودة-، أصبح من الصعب على الفِرَق إيجاد أفكار مميّزة لبناء مفاهيم جديدة لإصداراتهم، خاصة وأن المفهوم الذي تأتي به الفرقة يعتبر وسيلة مهمة للترويج من جهة، وكوسيلة للتواصل مع المعجبين من جهة أخرى.

الأمر الذي دفع ببعض الفرق إلى التوجه نحو عالم الأدب والكتب، كوسيلة سواء لـ: استلهام مفاهيم إخراجية وتصويرية جديدة للفيديوهات والأغاني، أو لاقتباس كلمات الأغاني بشكل يخدم مفهومهم، بل ويتعدى ذلك أحيانا إلى تأثر بعض الفنانين أنفسهم بالأدب. سنحاول في هذا المقال أن نعرض بعض النماذج باختصار، الغاية منها التنبيه إلى هذه الظاهرة، لا دراستها أو الإحاطة بها كلها.

– فرقة بي تي أس – BTS، رائدة في هذا الباب.

لا شك أن فرقة بي تي أس اليوم هي أشهر فرقة كورية في العالم. إلى جانب شهرتها الواسعة بأغانيها الضاربة وعلاقتها الخاصة مع نادي معجبيها، تعتبر الفرقة من أكثر الفنانين الكوريين إصدارا للأغاني والفيديوهات الموسيقية التي تحمل تلميحات من كتب أدبية. تُعرف الفرقة بتناولها للمشاكل الاجتماعية والتحديات التي تواجه المراهقين والشباب، بتسليط الضوء على الجانب المظلم في هذه المرحلة الحياتية الصعبة، وذلك عن طريق سلاسل الأغاني/الفيديو كليبات والمفاهيم التي تطلقها الفرقة، والتي تجمع بعضها قصة مثيرة للإهتمام. (أسلوب يجمع بين الذكاء الترويجي والرسالة الفنية)

Résultat de recherche d'images pour "‫دميان هرمان هسه‬‎"
غلاف رواية دميان

في هذا السياق جاءت رائعتها “دم، عرق ودموع – Blood,Sweet and Tears من الألبوم الطويل “أجنحة-Wings”، وهي واحدة من تلك الأغاني التي استلهم مفهومها بشكل مباشر من الكتب، إذ اتّخذت الفرقة من رواية “دميان” وشخصيتها الرئيسية “إيميل سينكلير” عنصر بناء يخدم مفهوم الفيديو الموسيقي للأغنية (والألبوم ككل، الذي يعتبر أول ألبوم ظهرت فيه التلميحات الأدبية للفرقة)، وذلك باستغلال الثنائيات التي جاءت في الرواية: الخير والشر، عالم النور وعالم الوهم، الهامش بين الصبا والنضج، الوعي واللاوعي، الروحانية والقلق. إذ تم استعمال محتوى الرواية لتجسيد رسالة الانسان الذي يصارع تحديات الحياة ليشكل رؤيته الخاصة للعالم ويجد مكانا فيه.

الإشارة لرواية الأديب الألماني هسّه، والذي بدا بشكل صريح بقراءة كيم نام جون (قائد الفرقة) فقرة منها في بداية الفيديو، كانت لها صدى كبير لدى المعجبين، إذ تناقلت الصحف أخبار تزايد مبيعات الكتاب بعد إصدار الأغنية، كما طفت على المنتديات الكثير من المقالات والنظريات التي تتحدث عن علاقة رائعة هرمان هسه بالمفهوم الذي طرحته فرقة بي تي إس.

من فيديو كليب أغنية Blood,Sweet and Tears

استلهام أدبي آخر من فرقة بي تي أس كان في أغنية “يوم ربيعي – Spring day“، حيث كانت الفكرة مستوحاة من القصة القصيرة: السائرون بعيدا عن أوميلاس للأديبة الأمريكية أورسولا لي غوين. تحكي القصة عن المدينة الفاضلة/المثالية أوميلاس، أين يعيش فيها الناس سعداء، ولكن شرط هذه السعادة سر خطير، يعرفه كل سكان المدينة في عمر مبكرة، فكيف يستجيبون لهذا السر؟ وقد عرفوا حقيقة عالمهم الذي تحكمه عدالة غير عادلة، هي عدالة الواقع! (هنا تجنب لحرق أحداث القصة)

Résultat de recherche d'images pour "‫أورسولا لي جوين‬‎"
الكاتبة الأمريكية أورسولا لي غوين

تعبّر القصة عن إشكالية “معرفة ما يساء معرفته”، فتدفع القارئ إلى التساؤل: هل الأفضل للانسان أن يعرف حقيقة الواقع ويبقى لمواجهته، أو يرحل ويمضي قدما حاملا معه عبء الحقيقة. هذه هي القضية التي طرحتها الفرقة، كأنها تقول أن الكل يأتيه ذلك اليوم ليعرف حقيقة هذا العالم وبشاعته، فبدل أن يرحل ويهرب منه، يمكنه دوما العودة ومواجهته. وهو ما فعلته الفرقة في السلسلة التي أطلقتها، مؤكدة لمعجبيها أنهم ليسوا وحدهم أبدا في التحديات التي تواجههم. ربما هذا من الأسباب الكثيرة التي جعلت فرقة بي تي أس تحظى بقاعدة معجبين وفية أخذتها للمكانة التي هي عليها اليوم.

من فيديو كليب أغنية Spring Day، يظهر اسم المدينة الفاضلة

هناك الكثير من الأعمال الأدبية في أعمال فرقة بي تي أس التي تم توظيفها بشكل تلميحات ذكيّة، وحتى لا نطيل نكتفي بذكر أن: كافكا على الشاطئ، الحارس في حقل الشوفان، داخل متجر السحر، الأمير الصغير، عشرون ألف فرسخا تحت الماء، 1984… كل هذه الأعمال الأدبية استعملت بشكل أو بآخر كمفاهيم لألبومات وأغاني الفرقة.

غايين، الخطيئة الأولى والفردوس المفقود.

Image associée
غلاف كتاب الفردوس المفقود

تأخذ الفنانة غايين – Ga In  في أغنيتها المثيرة الفردوس المفقود – Lost paradise من ألبومها حواء، نسقا جديدا، يعبر عن تأويلية خاصة لقصة الخطيئة الأولى التي كانت نتيجتها الخروج من الفردوس، مستلهمة أغنيتها وفكرتها بتفكيك الملحمة الشعرية التي تحمل نفس العنوان: الفردوس المفقود للكاتب الإنجليزي جون ملتون، التي تحكي قصة هبوط آدم من الجنة، والتي تعالج مواضيع لاهوتية معقدة مثل المصير والثالوث.

يبدأ الفيديو الذي تلعب فيه الفنانة دور حواء، بظهور كلمات متتالية تشير إلى القصة، ثم تأتي الصدمة بظهور كلمة تعاكس القراءة التقليدية للقصة، إذ قامت غايين بعملية تفكيك لهذه “السردية الكبرى” بتعبير الفيلسوف الفرنسي: جين فرونسوا ليوتار، لقصة الهبوط من الجنة وإعادة كتابتها بشكل يخدم مفهومها، باستعمال رمزيات الرواية الكبرى: الإغواء، الجنة، الثعبان بطريقة خاصة.

السرديات الكبرى كما يقول ليوتار هي: ذلك النمط من الخطابات التي تتمركز حول افتراضاتها المسبقة ولا تسمح بالتعددية والاختلاف حتى مع تنوع السياقات الاجتماعية والثقافية، فضلاً عن أنها تنكر إمكانية قيام أي نوع من أنواع المعرفة أو الحقيقة خارجها وتقاوم أي محاولة للتغيير أو النقد أو المراجعة. تقف تلك الخطابات أو السرديات الكبرى خارج الزمن ولا تسمح بالشك في مصداقيتها وتصر على أنها تحمل في داخلها تصورات شمولية للمجتمع والثقافة والتاريخ والكون. ودائما ما تكون السرديات الكبرى ذات طبيعة سلطوية واقصائية تمارس التهميش ضد كل أنواع الخطابات الأخرى الممكنة.

غايين في فيديو كليب الأغنية

بناء على ذلك، جاء الفيديو من قراءة مختلفة وفق سياق ثقافي جديد، ليركز على تيمة الإرادة الحرة وأن الجنة هي المكان الذي يكون فيه الانسان حرا حسب الفنانة، فتغوي غايين المعجبين بالبحث عن جنتهم، برقصة متعرجة تحاكي فيها حركات الثعبان، مستلهمة بذلك رمزيات الفردوس المفقود لإيصال رسالة الإغواء التي فحواها: استعمل إرادتك الحرة للوصول إلى الجنة التي تبغي، لا التي يفرضها عليك المجتمع. كما تقول في الأغنية كلمات ذات دلالة مباشرة عن ذلك: “هم يتحدثون عن الخيال، هم يختلقون قصة، ليتحكموا في وفيك”.

فرقة فيكس: ثنائية الخير والشر، والميثولوجيا الاغريقية.

عند الحديث عن الكونسبتس/المفاهيم الجديدة لإصدارات الكيبوب، تتصدر فرقة فيكس – Vixx أوائل القائمة، بل وينعتهم الكثير بأنهم الملوك. فمنذ ترسيم الفرقة وانطلاقها في 2012 وهي تبهر المعجبين والمتابعين بأفكارها المميزة، التي هي في مجملها إبداع محض وفي الكثير منها استلهام من الكتب والأساطير الآسيوية والإغريقية وغيرها، الأمر الذي أنتج عشرات النظريات والتحليلات للمفاهيم التي تأتي بها الفرقة في كل مرة.

غلاف الرواية

تعتبر مثلا أغنية هايد – Hyde التي ترسّمت بها الفرقة بمفهومها المظلم، تسليطا للضوء -عن طريق قصة حُب هوس- على الجانب المظلم من الشخصية الإنسانية، والتركيز على الصراعات الداخلية التي يعيشها الانسان، مستلهمة في ذلك من العمل الأدبي الفخم: قضية الدكتور جيكل والسيد هايد الغريبة، للكاتب الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، الرواية التي تتحدث عن الصراع بين الخير والشر داخل الإنسان بدقة علمية ووصفية رهيبة، جعلتها تحظى باهتمام كبير من علماء النفس.

تتجلى في الأغنية فكرة الرواية “التناقض” من خلال كلمات الأغنية بشكل رئيسي باستعمال الصوت المتناقض الذي لا يمكن للمتكلم التحكم فيه: “لا تهجرني (اهجرني)، أحبك (لا، أكرهك)”، كما تتجلى فكرة المعاناة الداخلية عن طريق لحن الأغنية بشكل عام ورقصة الأغنية (الكوريوغرافي) بشكل خاص اولتي تقلد فيها أعضاء الفرقة برسونا (شخصية) شخصيتا الرواية.

Image associée
من رقصة الأغنية – “لا أستطيع التحكم في نفسي”

توالت بعد هايد أغاني عن الحب والغيرة والهوس، بمفاهيم اعتمدت على الميثولوجيا الاغريقية، وهي الثلاثية التي جاءت إصداراتها تحمل أسماء آلهة الاغريق: زيلوس ( إله الغيرة والتنافس)، هادس ( إله العالم السفلي) ، كريتوس (إله الحرب). كما حضرت ملحمة هوميروس عند فيكس بتصويرهم لمشهد في أغنيتهم “فانتازي” مبني أساسا على قصة أحد شعراء الملحمة وموسيقييها، وهو: أورفيوس، إذ تم اقتباس قصته مع زوجته التي ماتت من لثغة ثعبان فذهب للعالم السفلي من أجل إعادتها حاملا فقط موهبته الغنائية. على هذه الشاكلة تتوضح موهبة الفرقة في اختراع مفاهيم معقدة بالاقتباس من الكتب والسرديات.

الأدب شمولي وفي كل مكان.

كما نعرف، يتعدى دور الأدب دوما ما نتصوره، ولا حدود لمداه، فهو يتعدى أغلفة الكتب ويتجسد في الأفلام والمسرح والأغاني وحتى مفاهيم الكيبوب كما رأينا في النماذج القليلة السابقة، وهناك الكثير من الفنانين والفيديوهات الموسيقية الكورية الأخرى التي استلهمت واقتبست من الأدب، ولا يسعنا في هذا المقام ذكرها كلها، ونختم المقال بذكر أمثلة أخرى حتى يتّضح للقارئ مدى توغل الأدب بكل أصنافه وشموليته في الكيبوب الحديث واستخدامه كوسيلة إلهام ودعائم تقف عليها الكثير من إصداراته، من ذلك نذكر:

  • آي يو- IU في أغنية زيزي من شجرتي شجرة البرتقال الجملية.
  • استلهام فرقة شايني – Shinee من شارلوك هولمز في أغنيتهم شارلوك.
  • فرقة سي أن بلو – CN BLUE في أغنيتهم سيندريلا.

وغير ذلك الكثير.

مصادر: 1،2،3،4،5

تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي

كاتب

الصورة الافتراضية
Omar Driouech
المقالات: 0