الدَّواءُ الدَّاءُ، قصة قصيرة.

يا لها من ليلة غريبة، مختطَفة من ماضيها البعيد، هل تعود الليالي لمَّا ننقِّبُ عنها فينا؟ أم أنَّ سيلَها الجارفَ يأخذنا إليها؟
خلف إحدى جدران المنزل القديم، وقفتْ تحت ساعة الحائط التي لا تفتأ تُتَكتِكُ كلَّما قرّر أحدُ أفرادِ العائلة الساكنة بالدار أن يهرب من فوضى ذاكرته، لتتمثل كلُّ الفوضى في تكَّة واحدة منها تعقبُها شبيهتُها. هناك وقفتْ لعدّة ثوانٍ، شاردةً، قبل أن تنطِق محاولة بجهد الخروج عن شرودها.

نظرت إليها ابنتُها، فسحبها شرودُ عينيها، ليجعلها تحومُ حول حرم ذكرياتها -التي اجتذبتها- ولا تدخلُها، حامت حول الحدودِ التي شهدتها، فعادت هي الأخرى بذاكرتها لصباح الأمس حين استيقظت بعد ليلة سفر طويل، سافرت فيها بين أشواقِها وحزنٍ مفاجئٍ أنهى صبرها على البعد، فحملت جسدَها المتوعّك، خدَّها المنتفخ وحرارَتها المرتفعة واستقلّت مركبتها لتقطع مسافات الأرض، قالت في نفسها لعلّها بذلك تقطع مسافاتِ الرّوح، وربّما، ربّما يتغيّر شيء ما!

أفاقتْ صباحا على هدوءٍ تامٍّ، وسكينةٍ خاصّةٍ، تحظى بها مرّة كل عدّة أسابيعَ متباعدة، حين تُلقي بأحمال نفسها خارج باب الدّار مع حقيبة السّفر، ثم تدخل. توجهت بعد قليل للمطبخ، وكانت والدتُها تؤدي طقوسَها اليوميّة من إعدادِ طعامِ الغداء لأفراد المنزل، وطعام نفسها وروحها من التأمّل اليومي. خُيِّل إليها أنّ والدتَها تدبر سنوات حياتها هنا في هذا المكان، ووجدت نفسها بعد حين تشبهها كثيراً، فصار المطبخ بالنسبة لها رمزَ التّأمّل والتّفكّر والتّدبير!

استقبلتها الوالدةُ بتحية صباحية خاصة، تمثّلت في مقطوعة مكررة من الإصرار والإلحاح عليها لتناول الفطور، ممثّلة كالعادة بمزاياه، وبحاجتها إليه وضرورتِه في بناء جسمها الذي يحتاج الصّحيحَ منه. فأخذت البنت مكانَها المعتادَ، وراحت تستعدّ لتناول أطراف الحديث بعد الفراغ من تناول أطراف الحلوى، غير أن الحديث هذه المرّة كان مُرًّا!

كانت تحمل بصلةً متّجهة بها من طرف المطبخ للطّرف الآخر؛ لتضيفها لمجموع حبّات البصل التي تستعدّ كي تُطحن في الخلاط الكهربائي، توقفت وهي تنظر إليها وتتساءل:

هل يمكن لورم في الدماغ أن يوقف عمل الكبد؟
ما القصّة؟
لا شكّ أنّك تتذكّرين تلك المرأة التي كنتُ جالسة معها في عرس خالك، لقد قدِمت وسلّمت عليها.
-لا أذكر..
-لابدّ أنّك تفعلين، تلك المرأة التي كنت أضحك معها، لقد ضحكنا كثيراً يومها، كما كنّا نفعل دوماً..
-ماذا أصابها؟!
-ألم شديد في الرّأس جعلهم ينقلونها إلى المستشفى، ثم نُقِلت للعاصمة للخضوع لعملية جراحية، قيل لها هناك أنّ حبةً نمت برأسها وكبرت إلى المدى الذي يجعل من حالتها الآن مستعجلة، ولكنهم لا يملكون مكاناً على الجدول لذا على أهلها التّصرف سريعاً، وبالفعل قد أخذها زوجها إلى تونس وأجرت العملية هناك في عيادة خاصّة.

العمليّة نجحت وقد عادت بعدها لبيتها، وتحسّنت. يقولون أنّها استعادت نشاطَها الطبيعي، تسير بينهم وتضحك، وبعد ثلاثةِ أسابيعَ من العملية اصفرّ لونُها تماماً. وحين عادت إلى تونس مرة أخرى من أجل المراقبة الطبية قيل لها أنّ كبدها أصيب بالكامل جرّاء الدواء الذي أخذته، وأعادوها من حيث أتت! هي الآن ترقد في المستشفى هنا، وأخبرتني شقيقتُها أنها في غيبوبة. 
-هل كانت تتناول مضادات الصّرع بعد العملية؟
-لا أدري. ولكنَّهم قالوا لها أن العمليةَ ناجحةٌ، وأنها شُفيت ولا خوف عليها، وهي بعد عودتها بدأت تتحسّن كما أخبرتك. حتَّى أنَّها بدأت تحضِّر مع أختها لعُرس ابنتها، لا أفهم كيف تغيَّر لونها فجأة.. أعرف اثنين في البلدة أجريا عملية مشابهة منذ عشرين سنة، ومرَّ كل شيء بخير.

كانت وهي تتحدث في حالة من الاستغرابِ والقلقِ والخوفِ، تتلو الأحداث وتحاول الرّبط بينها، وأخبرت ابنتها أنّها تخشى أنّ المرأةَ قد أصيبت بورم خبيث أفسد كبدَها، ولكن الأطباء أخفوا الأمر، حاولت الأخرى أن تُذهب عنها مخاوفها، فقالت لها أن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك، وطلبت منها أن تصحبها لزيارتِها.

في المستشفى كانت الوالدة تسير مع شقيقتِها وأمِّها. الثّلاثُ كنّ يتحركن بخطىً سريعةٍ ثقيلةٍ تدفعهنّ مشاعر غريبة -هن خَبُرنَ مثلها من قبل- ولكنها ظلَّت خاصة دومًا في كلِّ مرَّة؛ فهذا الرواق كم شهِد سيرهنّ فيه، يحملهن الخوف على عزيز تحتضنه إحدى غرفِ المكان البارد!
كانت الفتاة تتقدمهنّ بحثا عن الغرفة حتى وصلن، بحثَت عن طبيب لتطلب منه ملفَّ المريضة فلم تجد أحدًا. دخلت الغرفة، فرأت والدتَها تنحني عند رأس المريضة وتقبّله، رأتها تنحني وتنحني معها هالةٌ من المشاعر، هذه المرأة قادرة على تجسيد المشاعر في هيئة قريبة من المادية، هكذا قالت في نفسها وهي تراقبها. نقلت عينيها إلى جسد المريضة، كانت ممدّدة تخترقها الأنابيبُ من كل مكان يمكن أن تخترقها منه، وكان صدرها يرتفع ويهبط مُصدرا ضجيجاً قويًا، وكان جسمُها مصفرًّا بالكامل ومغطًّى بالعرق، لا تذكُرُ أنّها رأتها من قبل. بالقرب منها كانت تقف شقيقتُها التي راحت تحدثهم عنها. فسألتها:

-هل بدأ ظهورُ الأعراضِ الغريبةِ عليها مؤخراً أم منذ مدة؟
-منذ سنتين، فقدت حاسة الشم، لكنّها عَزَت الأمرَ للوراثة، معلّلة بأننا جميعا في عائلتنا لا نتمتّع بحاسة شمّ قوية. لكنّها مؤخرًا أمست تعاني ألماً حاداً في الرأس، إلى أن وقعت في نوبة صرع أخذناها على إثرها للفحص!


ألقت الفتاة نظرة على رأسها حين لمحت أثرَ جرحِ العملية عند مقدمة رأسها فسألت:

هل لاحظتِ تغيّرا في طباعها وشخصيّتها مؤخّرا؟
-أصبحت عصبية وتنزعج بسرعة.

التفتت من حولها لتنتبه لتعلّق أعين النّساءِ الثلاثِ بها، فوزّعت نظراتها بين المريضة وشقيقتها، قائلة أنّ الورم يبدو حميداً.
هذا ما قاله الأطبّاء.
-ولكن كبدها لم يتحمل مضادات الصّرع! لقد أصابها التهاب كبدي حادٌّ!

اقتربت من الممدّدة على السّرير وقربت ضوء الهاتف من عينيها، وفتحت إحداهما موجهة حزمَهُ الضوئية نحوها، وفي لحظاتٍ سريعة، توتّرت الفتاة وارتبكت، وانتفضت المريضةُ كأنها تحاول أن تقول شيئًا.

التفتت لتجد الجميعَ ينظر إليها كما لو أنها تحمل شيئًا مهمًا: أثمّة أمل؟
قالت باقتضاب: نعم، ربّما..

خرجت البنتُ من الغرفة مع والدتِها وخالتِها وجدَّتِها، ومشين بهدوء في الرواق، اقتربت النّساء الثلاثُ من الفتاة في وُجوم وتساؤل، فقالت:

 –فشلٌ كبديٌّ تامٌّ، تحتاج إلى زراعة كبد!

ثم استطردت: ولكن من يدري قد تنجو من هذا!

تمكنت أخيرًا من الخروج عن شرودها، ونطقت:

-هلاَّ تصطحبينني للحمام؟

قامت الفتاة معها، وسارتا إلى هناك في هدوء.

عند الحوض، راحت الوالدة تغسل وجهها، فقالت ابنتها مداعِبَةً:

-أصرتِ تخافين الذهاب للحمّام ليلاً؟

غير أنَّ الصّوت عاد إليها وقد تقمَّص تلك الهالة من المشاعر التي رأتها عليها بالأمس وهي تقبِّل جبين المرأة، التقطت أذناها طبقةَ صوتها الخاصة، فأدركت أنه انتحل طبقة المُواجِد، وأنّ ما هو آتٍ سيكون حديثًا يعلَقُ بذاكرتها طويلاً، ستتذكّر كيف وجهت والدتُها نظرتها في الفراغ، وقالت:

-لا لم أخفْ، ولكنني تأثرت. أنتِ لا تعرفين حليمة، لقد سلَّمتِ عليها في العرس ولكن من المحتمل أنكِ نسيتها، لا تقيسي على ما رأيتها عليه بالأمس، لقد أكلها المرضُ. حليمة كانت بارعة الجمال، كُنَّا نذهب معا للمدرسة، نمر في كل دورة على واحدة من الرفيقات، حتى يكتمل عددنا. لم نكن نعرف عن الدنيا شيئًا، نمشي معًا ونضحك من أعماق قلوبنا. وحيثُما كانت تحلُّ حليمة، كان يحلُّ الضحك والمرح.

لم تتغير، مازالت كما هي حتى بعد عقود، ما أجمل مجالس حليمة! أتعلمين؟ كنا في المدرسة نلحظُ غيابها بين الفترة والأخرى، كان والدُها يريد إيقافها عن الدراسة -لا تقيسي على الآن، في ذلك الوقت، كان الكثير من الآباء لا يتقبّلون هذه الفكرة- كان يحبِسُها عن المدرسة، ثم بعد محاولاتها وشفاعات المعلمين تعود، كانت ذكية ومتفوقة، وتحب التعلم، ولكنه أوقفها في نهاية المطاف نهائيًّا وزوَّجها بالطبع. حتى بعد ذلك، حليمة بقيت هي حليمة، أتعلمين؟ أظن أن ثمة سرًّا ما، وحقيقةً مخفيةً، إنّني أشكّ أن الورم كان خبيثًا وأن الأطباء في تونس أخفوا الحقيقة، أو أنهم ارتكبوا خطأً ما! وإلا كيف يتحوَّل الدواءُ لداءٍ؟ كيف تعيش بالمرض وتموت من الدواء؟ لقد رأيت حالتها، لا أظن أن من وصل لتلك المرحلة يمكنه أن يعود، أرأيتِ حين انتفضت؟ لقد كانت تسمعك، أرادت أن تقول شيئاً، كان مازال بها بقيّةٌ من وعي، ولكنّني لا أظن أن الأمر سيطول! من أين لها بكبد آخر؟! ومن أين لها بعملية سريعة؟! لا أظنّ أن جسدَها يمكنه أن يتحمل الحالة التي صار عليها وينجو.. لست حزينة لأنها ستمضي، نحن جميعًا سنمضي ونعبرُ إلى هناك، لكنّني حزينة على من ستخلِّفهم وراءَها!

في مساء اليوم التالي، عادت لموقفها تحت السّاعة الجدارية، ونظرت إلى ابنتها نظرةً حائرةً، ثم انفرجت شفتاها عن الحقيقة:

ماتت حليمة.

تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة.

مراجعة: آية الشاعر

كاتب

الصورة الافتراضية
منال بوخزنة
طالبة طب، مهتمة بالعلوم والتصوف.
المقالات: 5