مقال مترجم: إرث إيف كلاين أعظم من أن يختصر في اللون الأزرق

وكما كان الحال، علاقة الحب التي جمعت إيف كلاين باللون الأزرق كانت قد بدأت تحت سماء المتوسط الفرنسي غامقة اللون. “كان مولعا ببريق سماء نيس الزرقاء”، دانيال موكاي، مدير أرشيف كلاين الفني، أخبرني على الهاتف من فرنسا. “أراد أن يخلق أزرقا أقوى من هذا”، لكلاين، اللون— خاصة أكثر التدرجات حيوية من الأزرق، يعبر عن نوع من أنواع الحرية، ترياق لما كان يراه نقيضا لتلك الحرية والتي تفرضه الخطوط.

مكن اللون متأمليه من “الاستحمام في وعي كوني”، يقول كلاين. حتى أنه أحيانا يشير إلى الفيلسوف والناقد الأدبي غاستون باشلار، والذي كتب ذات مرة، “في البدء، لا يوجد هناك شيء، ثم يوجد لاشيء عميق، ثم يوجد عمق أزرق”. بعد اكتشافه لمادة تساعد على الالتصاق في متجر للبيع بالتجزئة، استطاع أن يحافظ على ماهية لونه الأزرق حتى لا يفقد درجته في طريقه ليصبح لوحة فنية، وبذلك سماه لون “لون كلاين الدولي” واصطنع العديد من الأشياء به: أقمشة ومنحوتات مصنوعة من إسفنج البحر المنقوع في الصبغة على سبيل المثال.

بالرغم من أنه أطلق على لوحاته الزرقاء اسم “مونوكرومات”، وأنها فعلا تشكلت من لون واحد، إلا أن التباينات غنية التأثير التي تخلقها هذه الأعمال بعد تأملها وتفحصها لمدة من الزمن هي ما لفت انتباه كلاين، وهذا حسب ما صرحت به دومينيك ليفي، مسؤولة أملاكه شمال أمريكا. أعماله عبارة عن “منفذ للإمكانية غير المحدودة”، كما تضيف، “إنها عن كل الأضواء، وكل الألوان، حسبما وكيفما تضع نفسك.”

يرتبط الأزرق حتميا بكلاين لأنه كان سببا مرجحا في موته المفاجئ إثر سكتة قلبية سنة 1962، عن عمر لا يزيد عن 34 سنة. “كان محظوظا لأنه وجد آنذاك مادة جديدة، عجينة لاصقة لم تحور من الطلاء، لكنها منحته لمعان وبهاء”، موسكاي يقول عن هذه المادة الحافظة، “ماكان يجهله هو أن هذا النوع من المواد الكيميائية يصعب استنشاقه” ويذكر الفنانة الفرنسية نيكي دي سانت فال كمثال لفنان تكبد المرض والمعاناة إثر استخدام البلاستيك.

إلا أن كلاين كان أكثر تعقيدا وجدلا وأحيانا حتى أكثر تناقضا من أي ما حاولت هذه الكتابات والقصص طرحه. الوقوف فقط عند لوحاته الزرقاء هو أن نفوت ما يعتبره الكثيرون أكثر أعماله لا منطقية وسخافة: “الفراغ”، لوحة استعرضت باهة معرض فارغة وفقط سنة 1958. “اعتقد الناس أنها مزحة،” موسكاي يقول، “لكن الفراغ مهم جدا”. كلاين صنع أيضا تجسيدات تجريدية لأسطح كواكب باستخدام النيران، أين أضرم النار في لوحاته، كما أن له استعراضات ل “القياسات البشرية” أو ما يسمى بالأنثروبومتري، أين تستعرض نساء عاريات أنفسهن مغطاة باللون الأزرق ويقمن بطبع أجسادهن على أقمشة بيضاء أمام ملئ من الجماهير. كان أيضا محبا للوردي والذهبي (حيث يعبر هذان اللونان وبشدة عن انتماءه للإيمان الكاثوليكي).

“الفراغ”، بالذات، هي لوحة عبرت عن اهتمام كلاين بالفلسفة الشرقية، والتي ترعرعت آناء رحلته لآسيا، أين تدرب ليصبح سيدا في رياضة الجودو، شغفه الأول. الانشغال بفراغ الذات وإنكارها—التعاليم الأساسية لفلسفة الزن البوذية— يطغى على العديد من أعماله، خاصة سمفونية الهدوء الرتيب (Monotone-Silence Symphony) والتي عزفت سنة 1960، أين عزفت الأوركسترا على نوتة واحدة لمدة عشرين دقيقة تبعتها بعشرين دقيقة صمت.

“يتساءل الناس لما لا نضعها على الإنترنت”، يقول موكاي عن سيمفونية كلاين، “نحن لا نتحدث عن الموسيقى، نحن نتحدث عن الصمت، إنه فعلا مثير للاهتمام، أن تكون مع جماعة لمدة عشرين دقيقة في صمت مدقع، حيث أنه وبعد مرور عشر دقائق، سيصدر لعابك صوت مروره من حلقك، فتجد نفسك تتأمل وتصلي مع المئات من الناس.”

بالنسبة لليفي، أصوات كلاين الرتيبة ترتبط ارتباطا وثيقا بمحتوى مونوكروماته وذلك أن كلاهما يحث المستمع والمتأمل على إيجاد تلك الفروق الدقيقة والاختلافات في نوتة أو تدرج لوني واحد. وتضيف ليفي، “عندما تستمع لعزف كل هذه الآلات، ستنسى أنها موحدة”، حيث أنها ترى في أعمال كلاين تشابهات عديدة مع هوس التأمل السامي (Transcendental Meditation) الذي يلقى رواجا كبيرا في أيامنا هذه والذي هو عبارة عن عشرون دقيقة من التأمل والتفكر في صمت وهدوء. “أرى كيف أنه ذا أهمية اليوم بسبب فنه الذي تجاوز زمنه ونجى في أيامنا هذه” وتضيف ليفي “لا علاقة لهذا بشخصه، وإنما أعماله كانت وجودية، عظيمة وذات طابع تأملي”.

وبالرغم من كل هذا الاهتمام الذي أولاه كلاين لفلسفات نكران الذات الشرقية، ونصرته للفن كوسيلة للتعبير عن النفس، إلا أنه من الصعب التغاضي عن نزعة الغرور التي تميز الطيف الأزرق المرتبط باسمه. فقد ذكر في عديد المرات أن دوره كفنان يكمن في غمر العالم بذلك الوعي والحساسية التي لديه. عندما عبر رائد الفضاء الروسي يوري جاجارين عن زرقاوية الكرة الأرضية عند رؤيتها من الفضاء الخارجي، كلاين صرح بأنه كان قد ملأ العالم أجمع ب “أ.ك.د” أو أزرق كلاين الدولي، كما أن منحوتاته الزرقاء كانت عبارة عن متأملين “كانوا قد سافروا في زرقاوية صوري، وعادوا مشحونين بالوعي والحساسية، تماما مثل الإسفنجات.”

استخدامه لنساء عاريات كعارضات وكأدوات حسية في استعراضات الأنثروبومتري أو “القياسات البشرية” تسبب في موجة انتقادات نسوية، رغم أن واحدة من العارضات كانت قد أكدت على أنها عوملت بشكل محترم وأنها تشرفت بكونها جزء من أعمال كلاين. ويمكن القول بأن العروض لم تكن فقط لتؤخذ كلوحات فنية متحركة أين تصبح فيها العارضات أدوات غير فاعلة، وإنما كعروض يصبح فيها الفنان، العارضات، العمل الفني، والحضور واحد لا يتجزأ. “الأجسام تتجاوز الأجسام،” ليفي تقول، “إن هذا كله عبارة عن تجسيد مجرد”.

يمكن لأي شخص أن يلاحظ كيف أن شغف كلاين برياضة الجودو، إخلاصه لإيمانه المسيحي واهتمامه بالفلسفات الشرقية كانت من الأسباب التي جعلته يستخدم أجساما حقيقية في أعماله. “رياضة الجودو ساعدتني على فهم البعد التصويري في اللوحة واكتشاف جسم الإنسان في بعد روحاني” كلاين قال ذات مرة، إلا أنه وفي تلك الفترة الوجيزة جدا من حياته العملية، كان قد بدأ بالحياد عن تجسيد العالم المادي ككل والتوجه نحو استخدام أزرقه فاقع اللون بزواياه المنحية للتعبير عن التلاشي في الآفاق البعيدة.

عندما سافر كلاين إلى أمريكا سنة 1962، قدم لوحة “اللامادي” للفنان إد كاينهولز، والذي تحدث عن تلك اللوحة وعن الفنان الفرنسي لاحقا أين كتب، “اللامادي عمل صعب جدا، ففي آخر مظاهرها تتجلى أكثر وجوه الفن نقاوة إذ لا وجود لشيء مادي فيها”. كلاين يجمع بعدها بعضا من الأموال من مشتري لوحات “اللامادي” مقابل وصل استلام، كلاين، وفقا لكاينهولز، “يتخلى بعدها عن تلك الأموال برميها من على قارب في المحيط. يقوم المشتري بعدها بالتخلص من وصل الاستلام حتى يتسنى للفنان والمالك الاستمتاع بالتجربة الفنية فقط دون غيرها.”

يغادر كلاين الحياة في نفس السنة، إلا أن نكرانه لكل ما هو مادي، ومغادرته المبكرة للعالم المادي، ستتجسدان لاحقا في صورته “قفزة نحو الفراغ” أو Leap into the Void، صورة معدلة أخذت من طرف هاري شانك سنة 1960، أين تصور الفنان قافز من على حافة بناء شاهق نحو الفضاء الفارغ. وزعت الصورة في نواحي باريس كغلاف لإحدى الصحف المزيفة.

مهما كان تصورك لكلاين —روحاني أو متاجر بأعماله، ملهم أم مخادع— فقد كان فعليا فنان شغوف وجريء أين ساعد على تضييق الحدود التي كانت تفصل بين الحياة والفن. وكما أشار أحد الفنانين، لقد حافظ كلاين على باريس ضمن خريطة الفن العالمية أين كانت جل الأنظار تتوجه شيئا فشيئا نحو نيويورك.

ومع أن المتاحف وجامعو الأعمال الفنية الصينيون كانوا قد أبدوا اهتماما كبيرا لأعمال كلاين، إلا أن اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن بتلك الجدية، تصرح ليفي. “إنه لم يفهم بعد تماما، خاصة حجم ضخامة ثورته الفنية، لقد استخدم وبرع في الصوت والاستعراضات حتى قبل العديد من الفنانين الأمريكيين”. وتذكر الفنان دافيد هامونز كمثال على الفنانين المعاصرين المتأثرين بكلاين وأعماله.

ومن السخرية أنه لربما ارتبط إرث كلاين الفني بإحدى لوحاته المادية، في حين أن اهتمامه الأوحد كان متوجها نحو المساحات الكونية، أو زرقاوية السماء الأرضية العميقة والمبهرة. “إنه ليس فنانا”، موكاي يقول، “بل إنه شخص ذو تصور مختلف تماما عن الحياة، تحتاج الكثير من الوقت لتقتنع أو حتى لتوافق، لما لا، ربما هو فعلا على صواب. ربما نحن فعليا لا نقضي حياتنا اليومية العابرة كما كان يجب علينا”..

رابط المقالة الأصلية: هنا ،
اسم كاتب المقال: Tess Thackara

تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي

كاتب

الصورة الافتراضية
BENZERGA Rokia
المقالات: 0

اترك ردّاً