الهرمنيوطيقا: إتيمولوجيا المفهوم ودلالاته

الأصل والاشتقاق الإتيمولوجي للهرمنيوطيقا

مصطلح الهرمنيوطيقا مصطلح دخيل على اللغة العربية، واللفظة مأخوذة من الأصل اليوناني Hermenuein ; Hermeneus ، والذي يحمل عدة معانٍ من قَبيل: التفسير والتعبير، الإعلام، الترجمة. اللفظ مشتق من Hermes، و”هرمس” هو رسول الآلهة في الأسطورة اليونانية، ولكنه أيضا الإله المعادل والمتحول عن إله المصريين القدماء الإله ” تحوت” Theth، غير أن هنالك فرقا في الأصول والوظيفة بين الإلهين في الميثولوجيا اليونانية والمصرية القديمة تجدر الإشارة إليها، ليس من باب الترف المعرفي، بل من باب أنّ متابعة أصل المفهومين سيتيح لنا الوقوف على معنى الهرمنيوطيقا واستجلاء مبادئها الأساسية والجوهرية.

   يظهر “تحوت” في الميثولوجيا المصرية غالبا في صورة إنسان برأس طائر أبي منجل محاطا بقرص الشمس وفي يده اليمنى علامة الحياة، واليسرى رمز السيادة. أو قد يمسك بالمحبرة والهلال البيضاوي، كما يظهر أيضا في صورة قرد ممسكا بأدوات الكتابة، وأبو منجل “Ibis ” طائرٌ منه ثلاث أنواع: نوع قدسه المصريون القدماء وهو الرمز الهيروغليفي لكلمة يضيء، ونوع آخر يجسد الإله “تحوت” وهو النوعُ الثاني الجميل ذو الجسم الأبيض والرأس والذيل الأسودين. وبهذا التشكيل يكتسب الإله “تحوت” معنى الكلمة التي تضيء من جهة، ومعنى تراوحها بين السواد والبياض، بين الخفاء والتجلي، بين مجهولِ البدء والمصير الذي يدل عليه سواد الرأس والذيل ووضوحِ الجسم بينهما في بياضه من جهة ثانية. وقد يقابل لونا السواد والبياض المجتمعان في أبي منجل، رحلةَ المتوفي في مصر القديمة ما بين الغروب والشروق من جديد، تلك الرحلة التي يكون “تحوت” الإله الحاكم فيها. كما يتوازى ثنائي الألوان مع ثنائي اليدين الإنسانيتين الحاملتين من جهة لفعل الكتابة المبدع بكل ما تحويه من أسرار ترمز إليها المحبرة السوداء، ومن جهة أخرى لتحقق الكتابة ظهورا وسيادة يرمز إليها الهلال الأبيض.(1) إن المعنى الذي يكتنفه رمز ” تحوت” كثيف وغني، هو الإله الذي يعطي ويفصح عن المعنى ويترجمه ويكشف الغامض، وهذا الدور يتقاطع كثيرا مع الوظيفة التي تضطلع بها الهرمنيوطيقا.

   أما الإله “هرمس” الذي تُصوّره الأساطير بخوذة سحرية (طاقية هاديس) تجعله خفيا عن الأعين وتمكنه من الظهور والاختفاء وقتما شاء، وبخفَّين مجنّحين يحملانه ويقطعان به المسافات البعيدة. ينتقل من عوالم الآلهة إلى عوالم البشر، ومن الوعي إلى اللاوعي، ومن اليقظة إلى المنام، كما أنّه مرشد الأرواح في رحلتها إلى العالم السفلي. لقد كان رسولَ آلهة الأولمب رشيق الخطو، وكان بحكم وظيفته التي تتموقع بين الآلهة والبشر على علم ومعرفة بلغة الآلهة، ويستوعب ما يجول في خاطرها، ومن ثم يقوم بترجمة مقاصدها إلى البشر، وهذا ما نُطالعه في إلياذة الأوديسة أن “هرمس” اضطلع فيها بدور ناقل الرسائل من كبير الآلهة “زيوس” إلى كل من عداه، إما من جنس الآلهة أو البشر الأرضيين، وهو إذ يقوم بهذا كان عليه العبور من عالم الآلهة الخالدة إلى عالم البشر الفانين، أي من عالم تفكير الآلهة إلى عالم تفكير البشر. هذا الأمر الذي جعله إله العتبات الرابض على تخوم كل شيء.

   هذه الصفات التي يمتلكها “هرمس” تتقاطع كثيرا مع وظائف الهرمنيوطيقا، إذ “مهما تكن شكوكُنا حول صحة الصّلة الاتيمولوجية بين الهرمنيوطيقا و”هرمس”، فإنّ الصّلة بين خصائص الهرمنيوطيقا وخصائص الإله “هرمس” هي صواب مؤكد ويقين لا شك فيه. فالهرمنيوطيقا “هرمسية” قلبا وقالبا، من حيث أنّها فنُّ الفهم وتأويلُ النّصوص“.(1)

مفهوم الهرمنيوطيقا ودلالاتها

إنّ الحديث عن الهرمنيوطيقا يلفت الذّهن بديهيا إلى “هرمس” بوصفه الجذر الاشتقاقي للمفردة  Hermeneuein الذي تنحت الهرمنيوطيقا منه اسما لها، هرمس الذي يعد بمثابة الوسيط بين الآلهة والبشر، حيث أنّه “يقوم بعملية إفهامٍ عن طريق تجسير المعنى ونقله من لغة الآلهة إلى لغة البشر. يبلّغ المقصدَ الإلهي بلغة بشرية؛ إذ اللغة هي العنصر الأساسي في الهرمنيوطيقا كذلك، أي يعمل على إلباس الكلام الإلهي حلة بشرية متجاوزا الفاصل الأنطولوجي بين وجودين مختلفين (1) ،فالهرمنيوطيقا تضطلع بإيضاح و إظهار ما خفي من النص، مثلما يقوم هرمس بالكشف عما هو متخفٍّ ومحجوبٌ، وذلك بإظهار الكلام الإلهي إلى البشر.

إن الهرمنيوطيقا -أي نظرية التأويل- كما يعرفها “بول ريكور“: “هي المبحث الخاص بدراسة عمليات الفهم، خاصة فيما يتعلق بتأويل النصوص”.(2) وهذا المصطلح يأخذ عدة معانٍ كما يشير إلى ذلك بول ريكور: “كلمة “Hermeneutik” تعطى في الألمانية كافتراضٍ لتحديد مادة تعليمية تمنح الوضع العلمي الدقيق لمفهوم التأويل كاستعمالٍ هرمنيوطيقي محض ومهمة واسعة للدلالة (Bedeutung)، أما في الفرنسية فيتعلق الأمر بالثنائية (فهِم/ أَوَّلَ) ويحيل دون صعوبة إلى الثنائية (Anselegen/ Verstehere)، أما مصطلح (Deutung)، فهناك صعوبةٌ في ترجمته لارتباطه بتأويل الحلم الفرويدي “Traudeutung” وبهذا فإن الهرمنيوطيقا مادة ألمانية“.(3) وفي اللغة العربية هناك من يستخدم كمرادفٍ للهرمنيوطيقا مصطلح التأويل أو التأويلية أو “علم التفسير” كـ “نصر حامد أبي زيد“، غير أننا نفضل استخدام مصطلح “هرمنيوطيقا”، لِما للكلمة – هرمنيوطيقا- من ثقل ودلالة وكثافة فلسفية لا نجدها في مصطلح “تأويل” بالعربية، خاصة مع ارتباط الهرمنيوطيقا بالأنطولوجيا مع هيدغر، حيث أصبحت الذات حاملة للدلالة المطورة بواسطة الفهم، الأمر الذي يجعل الهرمنيوطيقا تضطلع بوظيفة مزدوجة هي: البحث عن وجود المعنى في النص، والبحث عن معنى الوجود كذلك.

    للهرمنيوطيقا عدة دلالات، تختلف باختلاف المرحلة التاريخية التي استُخدمت فيها، ففي الاستخدام اليوناني أخذت معنى الإفهام الذي يتمّ عبر وسيط اللغة كما كان يفعل هرمس، وهي هنا “تشير إلى ثلاثة أمور مختلفة نوعا ما سواء في الاستعمال اليوناني أو الانجليزي: التلاوة الشفهية، والشرح المعقول، والترجمة من لغة إلى أخرى. غير أن بمقدور المرء أن يلاحظ أن “العملية الهرمسية” قائمة في الحالات الثلاث جميعا“.(1)

غير أن مفهوم الهرمنيوطيقا أخذ أشكالا مختلفة على صعيد التعريف في الأزمنة الحديثة، بعد أن كان يحمل في البداية مفهوم علم تأويل وتفسير النص، ذلك أن حقل الهرمنيوطيقا قد تمّ تأويله (بترتيب زمني تقريبا) إلى:

  • نظرية تفسير الكتاب المقدس.
  • ميثودولوجيا فقه اللغة العام.
  • علم كل فهم لغوي.
  • الأساس المنهجي للعلوم الإنسانية (الروحية) خاصة مع “دلتاي” (1833م-1911م)
  • فينومينولوجيا الوجود والفهم الوجودي.
  • أنساق التأويل (سواء الاجتماعي أو التحطيمي) التي يستخدمها الإنسان للوصول إلى المعنى القابع وراء الأساطير والرموز .

   و يمثل كل تعريف من هذه التعريفات لحظةً من لحظات الهرمنيوطيقا؛ بحكم أن التأويل نفسَه كمفهوم يعتريه التغير بتغير وجهات النظر والمقاربات. ويمكننا أن نطلق على هذه المراحل الستّ، “بغير قليل من التجوز والحذر الواجب: التأويل الإنجيلي، والفقهي اللغوي، والعلمي، والإنساني، الوجودي، والثقافي، على الترتيب“.(2)

  وسنعود بالتفصيل في مقالات لاحقة إلى المشاريع الهامة التي تشكل على ضوئها مفهوم الهرمنيوطيقا وتخصّب بدءا من الفلسفة الحديثة إلى اليوم، وهي ثلاثة مشاريع تُعدّ محطاتٍ مهمة بدرجة كبيرة وهي كالتالي: 1- فريديريك شلايرماخر والهرمنيوطيقا العامة 2- الهرمنيوطيقا كأساس منهجي للعلوم الإنسانية: مع “ويلهم دلتاي”(1833م-1911م) 3مارتن هيدجر(1889م-1976م) و الهرمنيوطيقا كأساس لفهم الوجود.

الهوامش:

1- منى طلبة، الهرمنيوطيقا، المصطلح والتاريخ، ضمن “دراسات في الهيرمنيوطيقا”، مجلة أوراق فلسفية، العدد 10، 2004، ص 128.

2- عادل مصطفى، فهم الفهم (مدخل إلى الهرمنيوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر)، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، مصر،2007، ص 27.

3-يوسف بلعربي، الدين والتجربة الهرمنيوطيقية عند غادامير، ضمن كتاب فلسفة الدين (مقول المقدّس بين الإيديولوجيا واليوتوبيا وسؤال التعددية، ط1، منشورات ضفاف/لبنان، منشورات الاختلاف/الجزائر، 2012، ص 305.

4ـ Paul Ricoeur, Hermeneutics and the Human Sciences, Translated by John B.Thompson, Cambridje University Press, 1998, P 42 .

5- عمارة الناصر، الهرمنيوطيقا والفكر المعاصر، ضمن “دراسات في الهيرمنيوطيقا”، مجلة أوراق فلسفية، مرجع سابق، ص 57.

6- عادل مصطفى، فهم الفهم، مرجع سابق، ص 36 .

7- المرجع نفسه، ص 67-68 .

تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة.

كاتب

الصورة الافتراضية
BOUKHALFA Mustapha
المقالات: 0