مراجعة رواية “المكتبة” للكاتب زوران جيفكوفيتش. 1/3

بطاقة فنيّة عن الكتاب:

اسم الكتاب: المكتبة.
اسم الكاتب: زوران جيفكوفيتش.
عدد الصفحات: 121 صفحة.
دار النشر: دار أثر للنشر والتوزيع/ المملكة العربية السعودية-الدمام.
سنة النشر: 2015.
النسخة الأصلية: صادرة تحت عنوان библиотека
ترجمة: نوف الميموني/ شاعرة ومترجمة سعودية.

عن الكاتب:

زوران جيفكوفيتش من مواليد 05 أكتوبر 1948 بلغراد- صربيـا، مؤلف وناشر وباحث ومترجم. يعمل حاليا أستاذا للأدب في جامعة بلغراد. يعدّ واحدا من أشهر الكتاب في أوروبا .

اشتهر زوران بكتابته لكتب الخيال العلمي حيث أنّه ألّف ونشر ما بين سنة 1993 إلى غاية 2016 حوالي 21 كتابا طبعت في 81 نسخة و بـ20 لغة وفي 23 بلدا. أشهـرها على الإطلاق رواية “المكتبة” ( الكتاب موضوع مراجعتنا) التي نشرها في سنة 2002 وترجمت إلى العربية في 2015، والتّي تعتبر أكثر أعماله ترجمة (ترجمت إلى 16 لغة) وواحدة من أهم الأعمال الأدبية الصربية في القرن الواحد والعشرين. ترجم جيفكوفيتش بدوره ما يقارب 70 كتابا من صنف الخيال العلمي، كما أسّس دار نشر في بلغراد نشر من خلالها 200 كتاب.

 اقترح عليه ناشر  أعماله أن يغيّر إسمه إلى دونالد ليفيغنسون ليضمن النجاح في الولايات المتحدة غير أنّه  رفض هذا المقترح وأصر على الاحتفاظ باسمه الحقيقي. رغم إتقانه للغة الإنجليزية إلاّ أنّه كان معتزا جدّا بلغته الأم الصربية حيث ظلّ يكتب أعماله بها. يتم مقارنته بفرانز كافكا، وخورخي لويس بورخيس، وقد صرّح بأنّه تأثر بهما وبأسلوبهما في الكتابة.

نالت أعماله العديد من الجوائز والتقديرات منها:
– عام 1994 فازت روايته The Fourth Circle بجائزة  Miloš Crnjanski
– عام 2003 فازت روايته المكتبة بجائزة الخيال العلمي عن فئة أفضل نوفيلا، وقد ساهمت هذه الجائزة الرفيعة في تعريف الناس به، اذ أصبح اسمه متداولا بعدها بكثرة .
– عام 2007 فازت روايته الجسر بجائزة  Isidora Sekulić
– كما نال في نفس العام جائزة Stefan Mitrov Ljubiša لإنجازه في مجال الأدب.
– في عام 2014 و 2015 تلقى ثلاث جوائز لمساهمته في مجال الأدب القصصي هي “ Art-Anima”  Lem”  و   “Stanislav   و “The Golden Dragon”    

– أنتجت إثنين من الروايات التي كتبها زوران وبثت في محطة إذاعة BBC، أوّلها ” رواية القطار” سنة 2005 ورواية ”  Alarm Clock on the Night Table” سنة 2007

عن الرواية:

    مـا يجعـل نص “الـمكـتبة ” مختلفاً هو الغرض الذي تناقشه، إنها نص خالص في مديح الكتب والمكتبات في وقت نناقش فيه جدواها كضرورة في بيوتنا وفي مـدارسنا ومـدننـا، لكـنّنا بعد الانتهاء من هذا العمل الذي يقرأ مراراً، نتمنى أن نقع على أعمال أكثر، علّنا نطعم بها مكتباتنا لتصبح نموذجاً للمكتبة النفيسة، ونضمن لهذا الكتاب قدراً متواضعاً من الخلود. لأننا هكذا بالتحديد كما يقول ألبرتو مانغـيل، نمارس من خلال القراءة طقس انبعاث، مرحبين بالمكتبة كـنص جـديـد إلـى كـوننا العـربي، مكـتبتنا العـربية.
 *  طارق الـخـواجي/ مـقـدّم الـروايـة.

تندرج روايـة ” المكـتبة ” تحـت ما يسمّى بأدب الموزاييك أو ما يصطلح على تسميته بأدب الفسيفساء، حيث تضّمنت ستّة قصص منفلصة ومتصلّة في نفس الوقت ( المكتبة الإفتراضية- المكتبة المنزلية- المكتبة الليلية- مكتبة الجحيم- أصغر مكتبة- المكتبة النفيسة) شكّلت لوحة فسيفسائية خيّالية عن الكتب والمكتبات. حيث يأخذنا الكاتب من خلال هذا العمل في سفر فانتازي غاية في التشويق لنزور برفقته ستّة مكتبات خيّالية، من المستحيل أن تتواجد على أرض الواقـع. إذ أنّه لـو كـانت هـذه الـمكـتبات حـقيقية لـتمنّى كـلّ قـارىء منـّا أن يمتلك إحـداها أو جميعها.

لا شكّ أنّ الكتب التي تناولت في موضوعها الكتب والمكتبات كثيرة جدّا. لكن الكاتب الصربي جيفكوفيتش قدّم لنا من خلال هذه الرواية نصّا دقيقا متميّزا مختلفا في تناوله عن كلّ النصوص الأخرى التي قد يكون سبق لأحد منّا قراءتها. فالقارىء لا يكاد  يشعر و هو يطالع هذا الكتاب أنّه يقرأ رواية بل الأحرى أنّه يشاهد فيلما سينمائيا يغلب عليه طابع الخيّال. تتحرّك فيه الصور الساحرة لتصنع لنا نسيج سيناريو مليئا بالتشويق ننتقل فيه من الإبتسامة إلى الضحك، من الإستغراب والدهشة إلى الرعب والفزع. ندخل من خلاله إلى عالم المكتبات العجيبة التّي لم نسمع عنها يوما. ممّا يجعل كلّ قارئ منّا يعيد نظرته إلى أي مكتبة قد يصادفها في مقبل الأيّام، سيتفحصّها بعين جديدة وفكر جديد.

حينما ينتهي القارىء من قراءة الرواية بقصصها الستّة، التّي تشكلّ في مجملها عالما منفردا بذاته. سيجد أنّ الكاتب فصّل لأبطال قصصه حياة خاصّة بهم وعلى مقاسهم. فالبطل في جميع القصص هو رجل، يعيش في عزلة تامّة. يتلّذذ بوحدته فلا نقرأ أبدا أنّه يتأفف لحالته أو منزعج منها. هو متصالح مع هذه العزلة متقبل لها على العكس، إذ نستخلص أنّه يسعى إلى أن تصبح عزلته أوسع وصلته بالكتب أقرب. لا نكاد نلاحظ أي تواصل له إطلاقا مع زوجة أو إبن أو أخ أو أب أو أم، ممّا يجعلنا نخمّن أنّ ليس له عائلة، ولا حتى مع صديق أو ربمّا زميل عمل. بينما نجد أنّه يربط صلّة وثيقة بالكتب تصل إلى حدّ المرض أحيانا، فهو حتّى وإن لم يكن يملك مكتبة ببيته نجده محاطا دائما بالكتب إذ يرتاد المكتبة العمومية، أو أنّه يتجوّل عند باعة الكتب القديمة ليقتني من عندهم كتبا يتسامر معها.

ما يلفت الإنتباه أيضا أنّ أبطال القصص الستّة لا يُعرف لهم إسم، كأنّ الكاتب يريد أن يجعل كل واحد مـنّـا نحن قراء روايته أبطالا لهاته القصص. نأخذ مكانهم لنستمتع ولو لمرّة واحدة على الأقل بالتجوّل في هذا العالم الغريب. إذ تجد نفسك تسأل ماذا لو وضعتك الحياة ذات يوم في مصادفة مع إحدى تلك المكتبات الغريبة التي حـدّثنـا عنها الكاتب، كيف كنت ستتصرّف؟ كيف كانت ستكون ردّة فعلك؟    

المكـتبة الإفـتراضية:

   ” كانت خلفية الرسالة سوداء خالية من الزخرفة. وبأحرف خضراء كبيرة احتلّت السطر الأوّل، كتب ” المكتبة الإفتراضية” والشعار تحتها “لدينا كلّ شيء!” بأحرف زرقاء صغيرة جدّا.  وهذا أمر بحدّ ذاته غريب…هذا قول لا تجرؤ أكبر المكتبات في العالم على إدعائه..” من الكتاب ص 15/14

  لا شكّ أنّ الحـياة الـعـصرية التّي نحـياهـا الـيوم تـفـرض عـلى كلّ واحـد مـنّا أن يكون له بريـد إلكتروني. غير أنّ هذا البريد رغم فوائدة الجمّة لا يخلو من العيوب. فلا يكاد يمّر يوم واحد دون أن نجد بريدنا قد أُغرق برسائل من أشخاص مجهولين لا نعرفهم ورسائل إعلانات هدفها جرّنا نحو المزيد من الإستهلاك.

هـذا ما حدث للكاتب بطل القصّة إذ أنّه غيّر عنوان بريده الإلكتروني وأعطى عنوانه الجديد لقلّة من الناس، حتّى لا يغرق بريده في كومة من الرسائل العقيمة التي لا فائدة منها. لكن رغم ذلك فإنّ كابوس الرسائل المجهولة التّي تصله كلّ يوم لم ينته. فلم يجد حلاّ إلاّ أن يتخلص من هذه الرسائل بالضغط على زّر الحذف دون حتّى أن يفتحها ويقرأ ما فيها. لكن رسالة إلكترونية واحدة استفلت من هذا المصير ببساطة لأنّها مقتضبة بخلفية سوداء وكتب عليها بأحرف صفراء كبيرة إسم “المكتبة الإفتراضية” وتحتها شعار “لدينا كلّ شيء”.

شعر حينها أنّ الأمر مبالغ فيه، فحتّى أكبر مكتبة في العالم لا يمكنها أن تجرأ أن تدّعي مثل هذا القول. هل يعقل أن تضم هذه المكتبة كلّ الكتب التي كتبت ونشرت خلال الخمسة آلاف سنة الماضية؟ ومن تحمّل عناء ومشقّة تحويل كلّ تلك الكتب الورقية إلى كتب إلكترونية؟ ولأنّه كاتب شغوف بالكتب فقد دفعه فضوله إلى الولوج إلى الموقع لاكتشاف أغوار هذه المكتبة الغريبة.

ليس هناك خانة لوضع عنوان الكتاب بل خانة واحدة مخصّصة لوضع إسم الكاتب، وكنوع من التحدّي اقتناعه التّام أنّ إحتواء هذه المكتبة على جميع الكتب هو ضرب من المستحيل، راح يكتب اسمه في الخانة المخصصّة للكاتب ليرى إن كانت تتضمّن كتبه الثلاثة التي كتبها ونشرها. نقر فأرة الحاسوب فظهرت سريعا صفحة رمادية بأحرف بيضاء وسوداء عليها صورته عندما كان أصغر سنّا، وعلى الجانب الأيسر كتبت نبذة عن حياته تضمنت معلومات صحيحة ما عدا أنّها أوردت خبر وفاته، استغرب الأمر فهو لا يزال حيّا يرزق.

لكن الأغرب أنه كانت هناك تسعة تواريخ مختلفة لوفاته (أقربها بعد 15 سنة  وأبعدها بعد حوالي 50 سنة). الأكثر غرابة أنّه وجد على الجانب الأيمن قائمة كتبه لكنّها لم تنته عند الكتاب الثالث (عدد الكتب التي كتبها ثلاثة فقط) بل إستمّرت إلى العدد واحد وعشرين كتابا مرتبّة حسب تاريخ صدورها. ضغط على أحد الكتب التي كتبها بالفعل متأكدا أنّ لاشيء سيحدث، وأنّ الكتاب لن يفتح. لكنّ حدث عكس ما توّقع، قرأ الجملة الأولى فعرف أنّه نصّه الذي كتبه، استشاط غضبا إذ كيف يمكن أن يصبح كتابه متاحا للجميع هكذا بدون إذن منه وبدون مقابل مالي، فهي سرقة بأتّم معنى الكلمة. قرّر أن يتريّث قليلا فربّما لا يكون الكتاب منشورا بالكامل.

ضغط على الفأرة مرة أخرى وراح ينزل إلى أن وصل إلى آخر الكتاب. لم يبق هناك شك يذكر، إنّه كتابه منقول عن آخره كما هو. لن يسكت عن هذه الجريمة البشعة هكذا فكّر فراح يرسل رسالة إلكترونية للموقع يخبرهم فيها أنّه زار مكتبتهم الإفتراضية فإذا به يجد كتبه الثلاثة منشورة بكاملها على موقعهم دون أن يتذكر أنه قد منح ترخيصا أو إذنا بصفته صاحب حقوق النشر، وأنّ ذلك يعدّ من قبيل القرصنة الأدبية المعاقب عليها قانونا، آمرا إيّاهم بسحبها فورا من الموقع على أن يتّصل بهم محاميه ليطلب تعويضا ماديّا عن الأضرار التّي لحقت به جرّاء ذلك الفعل المشين. جاءه الرّد سريعا مفاده أنّ الدخول لتلك الصفحة ليس متاحا للجميع وإنّما هو وحده من يستطيع الدخول والإضطلاع على سيرته ومؤلفاته، وأنّ ذلك يكون لمرّة واحدة فقط لا غير.

هي مجرّد حيلة سخيفة، سيقومون بإزالة الصفحة تجنّبا لأي متابعة قانونية، هكذا حدّث نفسه، وفكّر أنّه عليه أن يقوم بحفظ الصفحة حتّى تكون دليلا يقدّمها للمحامي لرفع الدعوى، لكن بمجرّد النقر على الزّر إختفت الصفحة كاملة، إضطرب وراح يدخل مرّة أخرى لموقع المكتبة، وضع إسمه في خانة البحث، لكن هذه المرّة لم يظهر أي شيء، بمعنى أنّه لا يوجد كاتب بهذا الإسم على الإطلاق.

لم يجد بدّا سوى أن يراسل موقعهم مرّة ثانية يصفهم فيها بأنّ أساليبهم منافية للأخلاق وأنّهم عار على الفكرة النبيلة التي جاءت بالأنترنت وأنّه لن يتوّقف عن متابعتهم قانونيا حتّى و لو أنّ الصفحة قد إختفت. ما كاد يرسل رسالته حتى تلّقى ردّا بالإعتذار عـن الإنطباع السيء الذي كوّنه عن موقعهم و أنّهم ليس هذا ما يطمحون إليه. و بينما كان يهّم بالرّد عليهم ترّدد بعض الوقت ثمّ أرسل رسالة يلومهم على إضافة معلومات مغلوطة و عدم إعتمادهم لتـاريخ وفاة واحد بل تسعة تواريخ مختلفة و يتحدّاهم أنّهم إن كانوا يعـلمون الغيب أن يحددّوا تاريخا واحدا دقيقا لوفاته، تلقى ردّا سريعا بأنّهم لا يمكنهم التنبؤ بتاريخ وفاته فكلّ التواريخ التسعة صحـيحة وسيتكفّل القـدر بإختيار التاريخ الأنسب. إختفت الرسالة بمجرّد أن إنتهى من قراءتها ثمّ إختفت صفحة المتصفّح. جلس حـينها شاخص البصر دون حراك  مستسلما يدّق في الشاشة الفارغة.

المكتبة المنزلية :

        ” من المعروف أن الكتب تبتلع المساحات ابتلاعًا. وهـذا قانون لا يمكن تبديله فمهما أعطيت للكتب من مساحة فإنها لا تكتفي أبدًا. تحتلّ في البداية الجدران، ثم تنتشر لتشغل كل حيّز يمكن أن يحتويها، حتى لا يبقى سوى السقف الناجي الوحيد من هذا الغزو.” من الكتاب ص 33

     وثيقة هي الصلّة التي تربط الـقارىء بالكتب. علاقة كلّها حبّ وشغف. لكن قد يحدث أن تتطوّر هذه العلاقة لتصبح حالة مرضية فنجد القارىء يسعى جاهدا لإمتلاك الكتب وحيازتها وبذل كلّ الجهود في سبيل الحصول عليها رغم علمه بأنّه ربّما لن يتمكن من قراءتها جميعها لظروف مختلفة. فمجرّد حصوله عليها يشعره بإرتياح كبير ونشوة عارمة. هذا ما بالضبط ما حدث مع بطل قصّة المكتبة المنزلية التي أراد الكاتب من خلالها أن يسلّط الضوء على علاقة كلّ واحد منّا بالكتب ويحذّرنا من مغبّة أن يتحوّل حبّنا لهذه المخلوقات الصغيرة إلى هوس حقيقي ممّا من شأنه أن يدخلنا في حالة مرضية. 

     إنّه رجل شغوف بالكتب غريب الأطوار بكلّ ما تحويه هذه الكلمة من معنى. يتفقدّ صندوق بريده كل يوم بعد عودته من العمل، يفتحه يومي السبت والأحد مع علمه أنّ ساعي البريد لا يمّر في هذين اليومين من الأسبوع. ويوم الثلاثاء يعنى بتنظيف الصندوق من الغبار المتراكم بداخله. يعدّ عدد درجات السلّم أثناء الصعود و لنزول (يجدها 44 أثناء الصعود و41 أثناء النزول) فيضايقه الأمر. يحاول إكتشاف الـسرّ وراء إختفاء الـثلاثة درجات. ينزل السلم وهو يسير بالخلف مثيرا إستغراب الجيران. ثمّ يقرّر أن يخرج من بيته ليلا ليعدّها في الظلام هربا من نظراتهم المستغربة لسلوكه ولا يعود لشقتّه إلا بعد طلوع الفجر. في الأخير يستسلم للأمر ويتقبّل هذه الأعجوبة، فيعود إليه نومه وشهيتّه ويصبح رجلا جديدا.

لكن راحة البال هذه لن تدوم طويلا، فما يكاد يعود إليه هدوءه حتّى يتكدّر ثانية، بأعجوبة أخرى من عجائب الدنيا. يفتح صندوق بريده فإذا به يجد داخله كتابا كبيرا لا يحمل أي بطاقة تشير إلى المرسل. يحمل عنوان “أدب الـعـالـم” من دون إسم المؤلف.

يخرج الكتاب ويتوّجه لشقته، في منتصف درجات السلم يتذكر أنّ اليوم هو الثلاثاء المخصّص لتنظيف الصندوق. يعود أدراجه، يفتح الصندوق فإذا به يفاجَىء بكتاب ثان يحمل نفس العنوان. بهدوء تام يخرج الكتاب ويتأبطه مع المجلد الأول، يصعـد إلى غاية الطابق الثاني ثمّ تخطر على ذهنه فكرة. يعود أدراجه إلى أسفل، يفتح الصندوق مرّة أخرى فإذا به يجد كتابا ثالثا وجد صعوبة في حمل الثلاثة مجلدات، عندها يقرّر ألا يغادر ويبقى أمام الصندوق. إنتظر بعضا من الوقت ثمّ أعاد فتح الصندوق فإذا به يجد مجلّدا آخر، وتكرّر الأمر مرّات عديدة حتّى وصل عدد الكتب التي تناولها من الصندوق ثلاثة عشر كتابا. حملها بشقّ الأنفس وصعد درجات السلم، عندما وصل إلى شقتّه واجه مشكلة إيجاد مكان لترتيبها، فهو لا يحوز مكتبة إذ أن الشقة صغيرة جدا، لكن لا بّد من إيجاد مكان لوضعها، لا يمكن التخلص منها، ثمّ راح يفكّر ماذا لو ينزل إلى الأسفل، فيجد المزيد من الكتب. عليه أن يفكّر في طريقة أخرى لحملها إلى الأعلى.

حمل حقيبة ونزل وعندما صعد إلى الشقة كان يحمل ستّة وخمسين (56) مجلّدا وضعها إلى جانب الثلاثة عشر الأخرى، كان يتوّقع أنّه سيكون هناك المزيد منها إذا عاود النزول، فلا شك في ذلك، إنّه أدب العالم. حصر بعض أثاث شقتّه في الزاوية، فرش أوراق الجرائد على الأرض، وبدأ في ترتيب الكتب واحدا فوق الآخر حتّى بلغت السقف.  توالى هبوطه وصعوده، لا يكاد يصل إلى الشقة بالحقيبة المحمّلة بالكتب حتّى يفرغها ويرتّبها واحدا فوق الآخر، ثمّ يعيد النزول ليحمل غيرها، بدأت الشقّة تضيق بالكتب، فاضطر أن يستغني عن السرير بوضعه في القبو، فما فائدة السرير وهو على يقين أنّه لن ينام الليلة، فلا تزال أمامه أكوام من الكتب الأخرى التي عليه أن ينقلها إلى فوق. زاد عدد الكتب وأصبح عليه الإستغناء عن عدد كبير من أثاث الشقّة فراح ينقل الطاولة، الكراسي، المنضدة، طاولة السرير وخزانة الملابس إلى القبو، مقاوما ثقلها متخبطا وسط الظلام.

إذ لم يرد أن يشعل الأضواء حتّى لا يوقظ الجيران وينتبهوا لما يفعله. ضاقت الشقّة شيئا فشيئا بالحجم الهائل للكتب وإنسدّت جميع المنافذ بما فيها باب المطبخ وباب الحمام، بلغ عدد الحقائب  التي حملها 143 حقيبة ليصل عدد الكتب إلى 8305 كتابا فتشكلّ بذلك جدارا ضخما من اللون الأصفر وقف ينظر إليه في مهابة مستغربا، إنّه أدب العالم مجتمعا في مكان واحد. كان يودّ لو أنّه يستطيع أن يبقى اليوم بكامله يحدّق إليها، غير أنّ هناك ما ينتظره، لابدّ من أن يذهب للعمل، وعندما يعود عصرا سيجلس قبالتها يتأملها ويمتّع ناظريه بها حتّى يرتوي منها، هكذا حدّث نفسه.    

” ..مئات من المجلّدات مرّت من هنا، أنّا متأكد أنّها تركت وراءها شيئا من الغبار.” بهذه الجملة العميقة المبطنّة بشيء من الرمزية ينهي الكاتب قصّة “المكتبة المنزلية ” على لسان بطل قصتّه. إذ أنّه يريـد أن يوصل إلى القارىء أنّ الكتب التي نقرأها لا يمكن أن تستحوذ على عقولنا وتمر في حياتنا هكذا هباء دون أن تخلف وراءها شيئا من الغبار، هذا الغبار المتمثل في بعض من المعارف، الأفكار والقناعات والثقافة.

تتبع هذه المراجعة بمراجعة قادمة للقصة الثالثة من الرواية ” المكتبة الليلية” والقصة الرابعة ” مكتبة الجحيم”.

تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي

كاتب

الصورة الافتراضية
HAMDANI Yacine Reda
المقالات: 0