نجيب محفوظ.. وموت الإله: مراجعة رواية أولاد حارتنا.

بطاقة فنية عن الكتاب:

العنوان: أولاد حارتنا.
الكاتب: نجيب محفوظ.
النوع: رواية.
عدد الصفحات: 533.
تاريخ النشر: 1959م.
الناشر: دار الشروق.

عن الكاتب:

هو الروائي نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا. وُلد نجيب محفوظ في الحادي عشر من شهر ديسمبر سنة 1911م، ويُعتبر أول روائي مصري عربي مُنح جائزة نوبل في الأدب. بدأ حياته الأدبية في مطلع الأربعينيّات.
نشأ نجيب محفوظ وترعرع في القاهرة، وحصل على شهادة البكالوريوس عام 1930م في الفلسفة من جامعة نفس المدينة، وبدأ بعدها بالاستعداد للتقدّم لرسالة الماجستير حول الجمال في الفلسفة الإسلاميّة، ولكنه عدل عن قراره، وتقدّم لها في مجال الأدب.
دخل نجيب محفوظ رحلته الأدبية عام 1939م فكانت أولى كتاباته قصصاً قصيرة تُنشر في مجلة الرسالة. كانت أولى رواياته “عبث الأقدار”، وبدأ في مسيرته الأدبية الفعلية بكتابة رواية “القاهرة الجديدة”، ثم “خان الخليلي” و“زقاق الدق”.
مرّ بمسيرة وظيفية مختلفة؛ من سكرتير برلماني في وزارة الأوقاف إلى مديرٍ لمؤسسة قروض ثم مديراً في مكتب وزير الإرشاد، وتعددت المناصب إلى أن تولَّى رئاسة مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما.
توفّي يوم ثلاثين من الشهر الثامن من عام 2006م عن عمر يناهز 94 سنة.

عن الكتاب:

لا شك أن رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ من أكثر الروايات إثارةً للجدل بين الأعمال الروائية العربية، ولم يأتِ هذا الجدل من عدمٍ بل إن نجيب محفوظ في رأي شريحة كبيرة من المجتمع العربي المحافظ _القارئ وغير القارئ، قد وضع خطوة وراء حدود لا يُحبَّذ تعدّيها؛ قدسية الذات الإلهية والأشخاص الذين أخذوا أدواراً رئيسية في الرواية.
نُشر العمل الأصلي عام 1959 كمقالات على جريدة الأهرام، جُمعت ونُشرت في كتاب واحد لأول مرة عام 1962 ببيروت وظلت ممنوعة في مصر إلى أن نُشرت عام 2006 عن دار الشروق. نال نجيب محفوظ جائزة نوبل للأدب بعد 29 سنة من إصدارها، رغم كونها أكثر أعماله جدلاً وشهرة إلا أنها حظت بالمرتبة الخامسة، وكانت الجائزة تقييما لأعماله الـ55 ولم تنحصر في هذا العمل الواحد. بغض النظر عن نية نجيب محفوظ في طرحه أو طريقته في رواية أولاد حارتنا فلا يمكن جحد فضله على الرواية العربية.

أدهم.. آدم، إدريس.. إبليس، أميمة، تصغير لفظ أم وحواء أم البشر، جبل، رفاعة، قاسمٌ وعرفة.
لا شك في أن الأسماء متشابهة لحد بعيد، لحدٍّ يُمكّن أياً مَن قرأ الرواية مِن فهمه للترميز المستخدم فيها وربط الأحداث الواقعية بأحداثها.

تتناول الرواية أحداثا وقعت في زمن غير بعيد في حارة من حارات مصر، أين يُشيد الجبلاوي، الرجل الطويل ذو الهيبة العظيمة والصوت الجهير، قصره المنيف بحديقة عامرة بالحياة، ويبدأ بنشر نسله فيها، يجيء وقت تكليف أحد أبنائه بالوقف، وعلى عكس ما كان متوقعاً كُلِّف أدهم، ابنه من جارية بهِ عوضَ إدريس ابنه الأكبر ذي النسب والجمال.

يشتاط إدريس غضباً من قرار والده ويحتج في وجهه فتحتدُّ الكلمات حتى يُطرد من المنزل ويُلعنَ لعنةً أبدية، يتزوج أدهم بأميمة، واحدة من جواري القصر، ولفضولهما – المُغذّى من طرف إدريس – حول معرفة مضمون الوصايا العشرة للجبلاوي يتشجع أدهم للتسلل إليها فيُطرد هو الآخر من القصر جرّاء معصيته لأبيه.

يخرج أدهم وهو صاغرٌ نادم على فعلته فيتجاور مع أخيه إدريس متشرّديْن مع أبنائهما وزوجتيهما غير بعيدين من القصر طامعين في رحمة ومغفرة الجبلاوي، تتوالى الأحداث بمقتل أحد ابني أدهم على يد أخيه الثاني، ثم وفاته.
بعد أعوام عديدة تتعمَّر الحارة بذرية الجبلاوي وتفوح فيها روائح الفقر والظلم والفساد، يعاني القاطنون هناك من فتوَّات ظَلَمة يهبطون عليهم بالنبابيت بسبب ودون سبب، يجمعون منهم الإتاوات دون إمكانية الرفض لأن رفضهم يُنزل عليهم العدوان دون رحمة، كُلّف واقفٌ بوقف الجبلاوي والذي هو حقيقةً وقف جميع أبناء الحارة لأنهم من نسله والوقف إرثهم الذي يجب أن يُوزع عليهم بالتساوي.

تمرّ السنون وتصبح الوقائع الماضية مجرد حكايات تُروى في المقهى والجلسات الليلية وكأنها إحدى الأساطير، تظهر على فترات متباعدة شخصيات جبل، رفاعة وقاسم على التوالي والتي تمثل الشخصيات الاستثنائية بين سكان الحارة، إذ أنهم من أبى أن يرضى بظلم الواقف ولامبالاة الجبلاوي بذريته التي تعاني ويلات الفقر والحرمان، ناهيك عن عجرفة الفتوة.

جبل، الذي رُبّي في القصر نفسه لرغبة زوجة الواقف اللذيْن لم يُرزقا بمولود، ثم يتفطن لضرورة تحفيز أهل الحارة على المطالبة بحقوقهم ويقف لذلك بفضل الأفعال السحرية التي تعلّمها لاحقا. يقتل جبل أحد الفتوّة خطأً فيضطر للهروب من الحارة ويتزوج ابنة رجل آوَاهُ ببيته. تتعقد الأحداث حتى تصل لمواجهات عديدة مع الواقف وفتوته تنتهي بقتلهم في حفرة في الحارة وتهطل عليهم الأحجار من السكنات الجانبية يميناً ويساراً عقاباً لما اقترفوا.

أما رفاعة فهو الذي يخدم نفس الهدف ولكنه من غُدر فقُتل قرب قصر جده وهو يحاول الدخول، وقد سرَت أقاويل تُحدّث بأن الجبلاوي نفسه الذي حمله إلى القصر قد دفنه هناك وقد يكون رفاعة لا يزال حيا بعيداً عن مرأى الناس.
قاسم، اليتيم الراعي حسن الخُلق الذي يتزوج واحدة من سيدات الحارة رغم فارق العمر الذي تكبره به، وبدأت رحلة نضاله كما ناضل جبل ورفاعة، اتُّهم قاسم بالجنون والسحر، لكن عدد أتباعه بدأ بالتزايد سرا حتى استطاع أن يبين رسالته جهرا أمام الجميع بعد العديد من الصعوبات والمخاطر، ليقهر ظلم الواقف وفتوته كما جرى من قبل.

سُمّي كل حي نشأ به واحد منهم باسمه: حي جبل، حي رفاعة وحي قاسم. وكان نجيب محفوظ يختتم كل فصل من الرواية بعبارة: لكن آفة حارتنا النسيان. لأن معاناة هؤلاء الرجال لهزيمة الظلم ورفع الحق كانت دوماً تكلل بالنجاح لكن صدى قصصهم يخفت مع الوقت وتعود الحارة لما كانت عليه من مأساوية.

نجيب محفوظ.. وموت الإله:

الفصل الأخير تناول شخصية اسمها: عرفة
عرفة الذي عُرف بالمعرفة.
لعلّ القطرة التي أفاضت الكأس وأثارت الجدل في الرواية هي شخصية عرفة، التي في النهاية كانت القاضية على الجبلاوي، الذي لم يقتله طول العمر ولا أخبار أحداث الحارة المتشابكة.

لا شك أن قارئ الرواية لاحظ أن الجبلاوي لم يظهر دوره صراحةً منذ فصل أدهم، وبقي غموض وجوده وسكوته على الأحداث المتوالية مستفزاً إلى نهاية الرواية.

شعرتُ بعبقرية نجيب محفوظ في الكتابة في كل مظهر من مظاهر الحياة المصرية ورسم جو الحارات الشعبية المصرية، كما أنها تعكس نظرة حقيقية عن الحياة عامةً والحياة وسط مجتمع عربي خاصةً، معظم الناس فيه متقبِّلة لواقعها المر لا تفكر بالتغيير، وغالباً فإن من يقرر التفكير خارج الصندوق لا يُسمع صوته، أو يُعتبر مجنوناً أو يُقتل. لكن فصل عرفة كان عميقاً إلى حد بعيد.

عرفة الذي يمثل العلم، في مواجهة الجبلاوي الذي يمثل الدين (أو الإله)، يشبه هذا إعلان نيتشه لموت الإله شبهاً كبيراً، ورسماً مختلفاً لعبارة “الإله ميت” أو “God is dead”

” عندما بدأ زرادشت رحلته الروحية، قابل رجلًا قديسًا هَرِمًا وزاهدًا كان يبغض البشرية ويحب الإله…
ولما اختلى زرادشت بنفسه قال: هل هذا ممكن؟ هذا القديس العجوز لم يسمع في غابته أن الإله قد مات؟“
– من كتاب «هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه.

لأول وهلة قد يبدو صاحب المقولة مخبولاً، وهذا إذا فهمنا الاقتباس بالمعنى الحرفي – أنّ الإله ميت -. لكن المُراد هنا هو موت القيم والمُثل العليا والأخلاق التي تحفظها الأديان.

كان فِكر نيتشه في تلك الفترة قائما أساسا على نقد عصر التنوير، وكان رفضه لفكر التنويريين بقوله أنها أفكار مؤدية للموت، الموت الأخلاقي.

بعد عصر التنوير، أصبحت فكرة الكون الذي تحكمه القوانين الفيزيائية بدل العناية الإلهية حقيقة واقعة، وأظهرت الفلسفة بأن الحكومات لم تَعد تحتاج فكرة الحق الإلهي لتأخذ شرعيتها بل كل ما تحتاجه هو موافقة الشعوب.
لم يعُد يُعتبر الإله مرجعية للأخلاق والقيم والنظام.. وهنا قال نيتشه أن الإله لم يمت فقط، بل إن البشر قد قتلوه بثورتهم العلمية ورغبتهم في فهم العالم بشكل أفضل.

” قفز المجنون إلى وسطهم واخترقهم بنظراتٍ من عينيه. أين الإله؟ صاح فيهم: أنا سأخبركم! لقد قتلناه.
أنتم وأنا! نحن جميعاً قتلة. مات الإله! ويظل الإله ميتاً! ونحن من قتلناه! كيف يمكننا أن نعزّي أنفسنا، نحن أكبر القتلة! إن أقدس وأعظم ما امتلكه العالم قد نزف دمه حتى الموت بطعنات مُدانا، من سيمسح هذه الدماء عن أيدينا؟ أي ماء سيطهرنا؟ أية مراسمٍ تكفيرية، أية ألعابٍ مقدسةٍ يجب علينا أن نبتكر؟ أليس عِظَم هذه الفعلة شيئًا يفوق طاقتنا؟ ألا يجب علينا أن نصير نحن أنفسنا آلهة لمجرد أن نبدو جديرين بهذه الفعلة؟“
– على لسان رجل مجنون: من كتاب العلم المرح، نيتشه.

ألا يمكن أن يكون فصل عرفة – أو نهاية الفصل – يطرح تساؤلات في فلسفة موت الإله؟ ألا يمكن أن يكون نجيب محفوظ نفسه يخبرنا بأننا نسير نحو قتل الإله وجعل المجتمع بؤرة مرضية خبيثة على عكس ما فُهم منه؟
لربما أراد نجيب أن يقول: هل نحن في خطر التحول لمجتمعٍ يعاني من العدمية؟ هل نحن الآن أكثر عرضة للأيديولوجيات التي تَعِدنا بلعب دور الإله لنا وللمجتمع؟ هل نحن كأفراد مستعدون لمهمة خلق قيمنا الخاصة وخلق المعنى في الحياة بأنفسنا، دون مساعدة من الإله والعقيدة؟ هل نحتاج لأن نقنع الناس بأن تطبيق العدالة أمر إلهي حتى يتحقق كما كان يفعل جبل ورفاعة وقاسم؟

هل سنستوعب مغزى ما قال نجيب محفوظ ونسير نحو التغيير أم أننا سنكتفي بقول أن آفة حارتنا النسيان؟

تدقيق لغوي: منال بوخزنة.

مراجعة: بشرى بوخالفي

كاتب

الصورة الافتراضية
Hafsa Bouzekri
المقالات: 0