خرافة الدماغ الثابت وتأثيرها على التعلم والإمكانات الفردية

اعتقد الباحثون حتى ستينيات القرن الماضي أن التغييرات في الدماغ تتوقف بحلول سن البلوغ المبكر، وتبقى التغيرات البدنية دائمًا في الغالب.

يعرف الباحثون الآن أن الأشخاص الذين لديهم رهاب الرياضيات وحل المسائل الرياضية، يتم تنشيط مركز الخوف في الدماغ لديهم وهو نفسه الذي يضيء عندما يرى الناس الثعابين أو العناكب، ويتضاءل النشاط في مراكز حل المشكلات في المخ. لا عجب أن الكثير من الناس يدرسون الرياضيات وبمجرد أن يشعروا بالقلق، تتعرض أدمغتهم للخطر ثم الخمول.

وبصفة عامة الرهاب في أي مجال موضوعي له تأثير سلبي على أداء الدماغ.

 وهذا القلق يحصل بصفة كبيرة عند الأطفال في بداية مشوارهم الدراسي، توضح الكاتبة والأكاديمية البريطانية جو بوالر  (Jo Boaler) في كتابها الجديد:

يبدأ الملايين من الأطفال كل عام، في المدرسة متحمسين لما سيتعلمونه، ولكن سرعان ما يصابون بخيبة أمل عندما يحصلون على فكرة أنهم ليسوا أذكياء مثل الآخرين. 

ذلك لأن أولياء الأمور والمدرسين يقدمون عن غير قصد رسالة مفادها أن الموهبة فطرية في تعلم الرياضيات وغيرها من العلوم، لكن الحقيقة عكس ذلك تماماً.

الموهبة والدماغ الثابت:

تجادل  بوالر في أصل مشكلة الرهاب بأن الخرافة القائلة أنّ أدمغتنا ثابتة وأننا ببساطة لا نملك الاستعداد لمواضيع معينة، ليست فقط غير دقيقة من الناحية العلمية؛ بل إنها موجودة في كل مكان ولا تؤثر سلبًا على التعليم فحسب، بل تؤثر على العديد من الأحداث الأخرى في حياتنا اليومية. على الرغم من أن علم المرونة العصبية  (Brain plasticity) – كيف تتغير أدمغتنا استجابةً للتعلم – يشير إلى أن التعلم يمكن أن يحدث في أي عمر وفي أي موضوع، فإن هذا الخبر لم يصل إلى قاعات الدراسة بعد.

ومن جهة أخرى بعض آرائنا ورؤانا المضللة للمواهب أدت إلى المواقف العنصرية والجنسية، على سبيل المثال، تحصل العديد من الفتيات على الصورة النمطية غير العلمية في وقت مبكر مفادها أن الرياضيات مخصصة للذكور وأنهم الأفضل في ذلك.

 مما يتداخل مع قدرتهن على النجاح ويؤدي إلى تفاوتات بين الجنسين في مجالات الدراسة المتعلقة بالرياضيات. 

ولسوء الحظ منذ مئات السنين، تم بناء مدارسنا وكلياتنا وثقافتنا، حول فكرة أن بعض الناس يستطيعون والبعض الآخر لا يستطيعون استناداً إلى فكرة العقل الثابت والموهبة . هذا هو السبب في جعل التلاميذ في مجموعات مختلفة وتعليمهم بطريقة مختلفة منطقياً. 

وكان الاستنتاج: إذا كان الأفراد داخل المدرسة أو الشركة لم يحققوا إمكاناتهم، فذلك ليس بسبب أساليب التدريس أو العوامل البيئية، ولكن بسبب أدمغتهم المحدودة. أما اليوم ، بعد عقود من المعرفة حول مرونة الدماغ، فقد حان الوقت لاستئصال هذه الخرافة الضارة عن التعلم والإمكانات الفردية.(1)

الدماغ المرن وعلم الأعصاب الحديث:

الدماغ المرن أو اللدونة الدماغية أو المرونة العصبية، هي مصطلح يشير إلى قدرة الدماغ على التغيير والتكيف نتيجة للتجربة، عندما نقول أن الدماغ يمتلك اللدونة، فإننا لا نشير إلى أن الدماغ قابل للطي أو يشبه اللدنة/البلاستيك. ونعني في ذلك الخلايا العصبية، وهي الخلايا التي تشكل اللبنات الأساسية للدماغ والجهاز العصبي.

تطور الأبحاث العلمية حول اللدونة الدماغية والتعلم:

بدأ الباحثون بحلول الستينيات في اكتشاف حالات تغير الدماغ، التي تمكن فيها كبار السن الذين عانوا من جلطات دماغية كبيرة من استعادة وظائفهم الدماغية، مما يدل على أن الدماغ كان أكثر مرونة بكثير مما كان يُعتقد سابقًا.

وقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن الدماغ يواصل إنشاء مسارات عصبية جديدة وتغيير المسارات الحالية من أجل التكيف مع التجارب الجديدة، وتعلم المعلومات الجديدة، وخلق ذكريات جديدة.(2)

بمعنى أنه عندما نتعلم شيئًا ما، فإننا نُنمي الدماغ بثلاث طرق. الأولى هي تشكيل مسار جديد. ويكون المسار دقيقًا وناعمًا في البداية، والثانية كلما تعلمت فكرة أكثر عمقًا، أصبح المسار أقوى، والثالثة تتم بتشكيل اتصال بين مسارين غير متصلين سابقًا.

وقد وجد الباحثون حديثا أيضًا أدلة على أن الدماغ قادر على تجديد الدوائر العصبية بعد التلف، ودورها أثناء التعلم. وأدت هذه الأدلة إلى توفير طرقٍ جديدة لعلاج أمراض الدماغ كالزهايمر وعلاج صعوبات التعلم.(3)

وفي عام 2015، اكتشف علماء الأعصاب بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) آلية جديدة تسهم في تقوية هذه الروابط، وتسمى نقاط التشابك العصبي (synapse)، عندما يشكل الدماغ ذكريات أو يتعلم مهمة جديدة، فإنه يشفر المعلومات الجديدة عن طريق ضبط الاتصالات بين الخلايا العصبية. في كل الوصلات أو المشابك، ترسل الخلايا العصبية قبل المشبكية إشارات كيميائية إلى واحدة أو أكثر من الخلايا المستقبلة بعد المشبك. 

في معظم الدراسات السابقة حول كيفية تطور هذه الروابط ، ركز العلماء على دور الخلايا العصبية بعد المشبكية، ومع ذلك، وجد فريق MIT أن الخلايا العصبية قبل المشبكية تؤثر أيضًا على قوة الاتصال العصبي.

وإن معرفة المزيد عن كيفية تغيير المشابك العصبية يمكن أن يساعد العلماء على فهم اضطرابات النمو العصبي بشكل أفضل مثل التوحد، لأن العديد من التعديلات الوراثية المرتبطة بالتوحد موجودة في الجينات التي ترمز للبروتينات المتشابكة.(4)

تدقيق لغوي: محمد عيسى

المصادر:

1- Jo Boaler,Limitless Mind (Learn, Lead, and Live Without Barriers),2019, p15-p18. 

هنا (2)، هنا (4)

3- Bennett, Sophie H., Alastair J. Kirby, and Gerald T. Finnerty. “Rewiring the connectome: evidence and effects.” Neuroscience & Biobehavioral Reviews 88 (2018): 51-62.


كاتب

الصورة الافتراضية
Hammad Benaissa
المقالات: 0