كيف أنت..

المحطة التالية كانت مدينة ”القلب الكبير”.. عندما خرجت من الحافلة صفعتني برودة قطبية وكأنني نزلت بألاسكا.. ارتسمت على شفتيّ ابتسامةٌ ساخرة لم يكن بمقدوري أن أكبتها، نفس البرودة، لم يتغير شيء… حتى بائع الفول السوداني ذاك، ما يزال ينصب طاولته المصبوغة باللون الرمادي تماماً كأحلامه وآماله، هناك قبالة المحطة..

أحسست بالبرد يدغدغ مفاصلي فسحبت زمام الجاكتة المنزلق وعقدت شالي البني حول رقبتي بشكل جيد، ووقفت جانباً في محطة النقل الريفي للمسافرين أتأمل شكل الحياة الكئيبة المرتسمة في عيون المارة… هؤلاء الناس الذين يضج بهم هذا الشارع الصغير، تتلاطم الأحلام في نفوسهم كأمواج البحر الهادر فتقتلها المشاغل وأعباء الخبز والحليب…

كان الفقر هنا دائماً ما يخنِق بجوّه الفاسد العِلمَ والصحةَ والأحلامَ الصغيرة والكبيرة أيضاً..
وقفت هناك لتهجم عليَّ الذكريات دون سابق إنذار…

قبل خمس سنوات من الآن انتقلت الى ثانوية الشيخ محفوظ نحناح الجديدة..
أتذكر صورتها بشكل جيد.. سعاد، الفتاة الجميلة اللعوب ذات البشرة القمحية كانت تسكب في نفسي شلالات من الحب والفرح.. مراهقةً في السابعة عشر تمزج في ثناياها بين الثورة والحياء..

لأول مرة أشعر أن عاميَ الدراسي لم يكن عادياً أو تافهاً كالأعوام التي سبقته.. تلك السنة النهائية من المرحلة الثانوية كانت سنة مختلفة تماماً.. لقد استشعرتها بطعم الفراولة وبلون قوس قزح… بدا العالم من حولي رائعاً..

أتذكر ذاك الصباح الربيعي يوم أحضرت سعاد كتاب الفلسفة الذي استلفته من عندي..

كان فهم الكتاب صعباً عليّ..
أتذكر كيف قالت لي هذه الجملة العارية المفضوحة ثم دفعت بنفسها الى جانبي وفتحت الكتاب قائلة: هذا، هنا يبدو الأمر صعباً..

الواقع أنني لم أكن في حالة تركيزٍ جيد لأشرح لها المسألة.. كنت غارقا في سمرة يديها وطلاء أظافرها الأبيض..

لقد كانت سعاد ملاكاً مقدساً.. أنفاسها كانت تشعرني بالدوار.. لم أكن أستطيع الكف عن التفكير فيها ولو للحظة واحدة، كنت أحبها بشكل جنوني، وللأسف طوال العام الدراسي ذاك لم أرتكب حماقةً في الحب معها أكثر من بعض الغمزات والابتسامات السريعة العابرة..

كنت سارحاً في ذكريات الثانوية منتشياً بطيف السمراء لكن متسولاً قطع عني خواطري:

_ أنا جائع يا، أريد أن أشتري طعاماً.
_ أنا لا أملك لك شيئا، اذهب من هنا.

طردت ذلك المتسول من أمامي بشيء من العصبية وكأنني أردت أن أنتقم لنفسي منه، اللعين، نذير الشؤم، أفسد عليّ ما كنت فيه..

رجعت مرة أخرى لأجدني أتمتم: سعاد.. آه يا حبيبتي.. ترى أين أنت الآن؟ أتراك تزوجت؟ أنا وأنت يا حبيبتي لا يمكننا أن نكون عاديين في مدينة غير عادية، مدينة لا أحلام لها أو لا تريد أن تعترف بأن لها أحلاماً.. يا حبيبتي علينا أن نُكوّن قدراً آخر.. وحيّاً قلقاً خارج حدود هذه المدينة الثكلى حتى نشعر بالحب ونمارس فصوله..

آه يا حبيبتي كم غسلت وهدأّت في نفسي هذه السنوات التي لم أرك فيها من الشوق والحنين والرغبات الحية والميتة..؟

مجددا تنقطع الصورة في ذهني.. هذه المرة لم يكن متسولا آخر هو السبب لكنها حبات البرد التي فاجأتني وراحت تنهال على المدينة الثكلى تغسل أحلامها المليئة بالغبار.. أسرعت لأركب الحافلة المنطلقة الى بئر بن عابد.. ترى أي وجه ستقابلينني به أنت الأخرى؟

تدقيق لغوي: محمد عيسى

كاتب

الصورة الافتراضية
Rezig Rabah
المقالات: 0

اترك ردّاً