أبناء الأيام .. تقويم للتاريخ البشري.

إدواردو غاليانو (3 سبتمبر 1940/ 13 أبريل 2015) باحث وروائي وصحفي أوروغواياني، ولد في مونتيفيديو وتُرجمت كُتبه إلى أكثر من عشرين لغة. قضى سنواتٍ عديدة في المنفى لأسباب سياسية في إسبانيا والأرجنتين.

ساند غاليانو الحركات المناهضة للعولمة بحضوره الفكري ومشاركته في مجلات وجرائد عالمية.
إدواردو غاليانو صوت الإنسانية الصامت؛ وصوت الشعوب الأصلية التي اندثرت تحت وطأة الظلم والتهميش. وأجمل ما يمكن أن يوصف به غاليانو هو “محيي الهامشيين والمنسيين من متن الكتاب” وصياد قصص الإنسان والفن والأدب.

من أهم أعماله:
– “أفواه الزمن، “الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية”، “أبناء الأيام”، “كرة القدم بين الشمس والظل”، “ذاكرة النار” (ثلاثة أجزاء : سفر التكوين/ الوجوه والأقنعة/ قرن الريح)،”مرايا”،”المعانقات”، “كلمات جوالة”.

لِكُل يومٍ قِصَة تُروى
القصصُ تختَبئ تحت الظِلال
الظِلال يُشَتِتُها النُور
النُور يكون كشَمْعة
الشمعَةُ تضيئُ للتَائِه طَريقَه
التائه عادةً يكتبُ قِصَته
القصصُ تُروى من جَديد


كتاب “أبناء الأيام” كتب نفسه ورواهُ “غاليانو” بصوت الإنسانية الصامت؛ افْتُتِحَ بإحدى آيات سفر التكوين لشعب المايا:


وانطلقت الأيام ماشية
وهي؛ الأيام؛ من صنعتنا
هكذا رحنا نولد
نحن أبناء الأيام
المُتَقَصِّين
الباحثين عن الحياة



يُعدُ الكتابُ رزنامةً للتقويم الإنساني العَريق في ظَاهِره، السَيء في بَواطِنه المَخْفِية. على مَدار 365 يوماً من السَنة – مع إضافةِ أغربِ يوم في السنة 29 فيفري – وبلغةٍ لا تخْلُو من السُخرية بَعثَ غاليانو قصصًا طُويت مع الزمن، وذكر أسماءً لفَّها النسيان ومزَّق التاريخ أوراقهم من صَحائفه – باعتبار أن التاريخ يكتبه المنتصِرون؛ والمهزومون تموتُ قصَصُهم أو تحرق معهم -، وكالعادة “التاريخ لا يقول وداعاً أبداً، التاريخ يقول: سأراكم لاحقاً”1 على حد قول غاليانو! فإن تغير الزمان والمكان فالظلم والاستبداد واحد والمدفونة أصواتهم تحت التراب لا بد من يوم لتُسمع طال الزمن أم قَصُر.


كتب غاليانو للذين لا صوت لَهُم ، فكان هو صوتهم، وكلمتهم، صراخهم وهتافهم؛ بكاءهم وفرحهم؛ موسيقاهم وصوت طبولهم وأحيا قصصهم وبعثها من جديد.

“الرُّوح تعيشُ في الكلمات التي تُقال فإذا أعطيتُك كلمتي، أعطيتُك نفسي”2

21 فبراير هو اليوم العالمي للغة الأم
وفي كل أسبوعين تموت لغة
في الأزمنة التي انقضت، كان هنودُ الأُونَا يعبدون عدة آلهة. كان إلهُهم الأسمى يُدعى “بيمولك” وكانت “بيمولك” تعني “الكَلِمة”

ترتبط الأحداثُ والقصص فيما بينها بأن أغلبها – إن لم يكن جُلُّها – تحدَّث عن الاضطهاد والظلم والكفاح الثوري لرفع كلمة الحق وعن قتل هوية الشعب الأصلي خاصة في أمريكا اللاتينة من شعوب “المايا” و“الانكا” تلك الشعوب التي كانت لهم لغتهم الخاصة، كأن *يُسَمُّوا السماء “البحر الأعلى” والبرق “توهج المطر” والصديق “قلبي الآخر” والروح “شمس الصدر”، وبدلا من: نغفر لكم ، يقولون: “ننسى”*. وكذلك عن شعوب أفريقيا والزنوج المحرومين من حقوقهم فقط لأن لونهم “أسود” وعن كل شعب لحقته يد الاستعمار يوما في ظل الوجود الإنساني المغرق في السواد * “نيلسون مانديلا ظل حتى العام 2008 ضمن قائمة الإرهابيين الخطرين على أمن و .م .أ”

“ملاحقة اليهود كانت على الدوام عادة أوروبية ، ولكن الفلسطينيين هم من يدفعون ديون الآخرين”


وعن استغلال رجال الدين للدين لقضاء حاجاتهم والتحكم بالشعوب

“1 يناير” ليس هو اليوم الأول في السنة عند المايا واليهود والعرب والصينين وآخرين كثيرين من سكان العالم، وتحديدا هذا اليوم اخترعته روما الإمبراطورية وباركته روما الفاتيكان

وعن شركات العمل لتمويل مشاريعهم على حساب البلدان ونشر الوباء في العالم والدكتاتوريات المستبدة.

في العام 1980 قررت جمعية التحليل النفسي الأمريكية أن “الخجل” مرض نفسي وعلى إثره تكفلت مخابر الأدوية الكبرى ببيع آمالٍ بالشفاء للمرضى المصابين بهذا الرهاب الاجتماعي

وحتى لا ننسى فكل محفل إنساني لا يكتمل إلا و“المرأة” موضع أساس لا بد منه؛ فرغم أن لها جزءًا كبيرا ومهماًّ في خلق الحياة وتكوينها إلا أنها كانت من أكبر المحرومين منها فيها، فهي التي لم يكن لها عيش كريم مكتمل ولا كان لها حقٌّ حتَّى في كونها “إنسانًا”؛ فقد كانت في خانة الحيوان والعبيد أو كيانًا ناقصًا في مجتمعات الذكور.

المرأة في وقت ما كان عليها دفع الضرائب إذا اشترت أقمشة من السوق فالرجال وحدهم من يتمتعون بالقدرة القانونية على البيع والشراء.. ولم يكن لها حق التصويت في الانتخابات.

كما يلتقط غاليانو كصياد بقلمه مقاطِعَ صغيرة من الأدب العالمي، مكثَّفَة المعاني معبرةً في الحب والفن والموسيقى والشعر والأدب.

“في 29 يناير 1860 ولد أنطوان تشيخوف
كَتبَ وكأنه لم يكنْ يقُول شيئاً.. وقال كُل شيء”

أما “مارك توين” و”المذنب هالي” جاءا معًا ورحلا معًا – وقد تنبأ مارك توين بهذا – “1835-1910”


وتحدَّث أيضا عن ثقافة الشُعوب وأسَاطيرهم وخُرافاتهم؛ وتناول شخصياتٍ مجهولة كانت لها يدٌ في التغيير وتَتُوقُ إلى عالم لا يُضَحَّى فيه بالعَدالَة باسم الحُرية ولا يُضَحَى بالحُرية باسم العَدالة، وحكايات تحكيها الأرض تحت ضوء القمر وعلى نار التاريخ.

في 14 مارس من سنة 1883 اجتمع حشدٌ في جنازة كارل ماركس في مقبرة بلندن؛ كانوا أحد عشر شخصًا؛ إذا أضفنا متعهد الدفن. صار كلامه الأكثر شهرة نقشًا على ضريحه “الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة؛ ولكن المسألة هي في تغييره”؛ نبي تغيير العالم هذا أمضى حياته هاربا من الشرطة ومن الدائنين. وحول عمله “رأس المال” عَلَّقَ يقول:
لم يكتب أحدٌ هذا الكَمّ من الكتابة عن المال وهو لا يملك إلا قليلا جدًا من المال. رأس المال لن يكفي لتسديد ثمن التبغ الذي دخنتهُ وأنا أكتبه.

قلم غاليانو قصير النفس غزير المعنى؛ يُشعِر القارئ بمعنى الحكمة الصوفية “كلما اتسع المعنى؛ ضاقت العبارة” ؛ وفي هذا المقام يقول:


“أحاولُ قَوْل الأكثر بالأقلّ، لأنَّ الأقلّ هو الأكثر”4

هذا الكتاب سيترك لدى القارئُ شُعورَ الدَهشَةِ والمرارةِ والسُخرية ويبعث فيه روحَ التَطلُع على خبايا التاريخ؛ هذا التاريخ الذي كُتبَ بأقلام رصاص وحبرٍ من دم ونُقشَ على حجارة وقلوب والعديد من صفحاته أُحرِقَت أو أخذتها الريح ذات خيانة قلم.

عندما أصيخُ السَمع
أسمعُ موسيقى آتيةً من بعيد
من الماضي.. من أزمنةٍ أُخرى
من حَيواتٍ لم تَعُدْ موجودة
ربما حَيواتُنا.. مصاغةٌ من الموسيقى
في يوم الانبعاث
ستَتفتحُ عيناي من جديدٍ في إشبيلية


المصادر

  • كتاب أبناء الأيام.
  • 1-2-4: حوار “لإدواردو غاليانو” مع “جوناه راسكين” 17 أغسطس 2017 ترجمة أسامة إسبر.
  • 3: كتاب ذاكرة النار “سفر التكوين”.
  • الترجمة *:
    عنوان الكتاب بالإسبانية “Los Hijos de Los Días” وبالإنجليزية : “Children of the Days”. لذا فإن للكتاب ترجمتين واحدة لصالح علماني بعنوان “أبناء الايام” عن النص الإسباني الأصلي دار دال للنشر -272 ص-.
    والثانية للمترجم “أسامه إسبر” بعنوان “أطفال الزمن” عن النص الإنجليزي؛ لدار التكوين -406 ص-
  • تتفقان في المعنى وتختلفان في الصياغة؛ لكن عن تنظيم الكتاب وفهرسته فترجمة أسامة إسبر أفضل.

تدقيق لغوي: منال بوخزنة.

كاتب

الصورة الافتراضية
Laib Kaisse
المقالات: 0