“تينهام”، الجزء الثاني.

الجزء الأول:

من هنا.

الجزء الثاني:


كان “هيفاي” جميل الوجه، هادئ الملامح، بشرته السمراء وعيونه زرقاء اللون كانت الدليل على انتمائه إلى “أوداهي” أكثر مما فعلتُ أنا يوما، حتى طوله الفارع وبنيته القوية كانت تصرخ “أوداهية”، وككل أبناء “أوداهي”.. كان فاتنا. لكن لم أنتبه إلى كل ذلك يومها، لأنني فقط نظرت إليه بقلة صبر ثم قررت العودة أدراجي والاستسلام للنوم فحسب أثناء درسه، لكن قبل أن أمشي خطوتين حتى، سمعته ينادي فجأة:

_” عذرا يا آنسة.. انتظري قليلا!”

التفتُّ بحذر خلفي لأتأكد أنه لم يكن يحدثني أنا، لكن وجدته ينظر ناحيتي لفجأتي!
لذا أشرت إلى نفسي باضطراب و سألت:
_” أنا؟؟”
_” نعم، آسف لازعاجك .. لكن السوار الذي ترتدينه مثير للاهتمام، هل أستطيع أن ألقي عليه نظرة عن قرب؟”

نظرت إلى ذلك السوار على معصمي كأنني أراه لأول مرة. بما أن سواري ضخم نوعا ما، لم أستغرب أنه لاحظه، لكن طبعا كان مفاجئا لي وقتها أن يسألني عنه، على أية حال أجبت:
_“طبعا، لا بأس”
_“هلا أعطيتني إياه لثوان؟” طلب بجرأة بعدها.

لا يمكنني أبدا تسليم سواري لأي شخص كان، حتى لو كان ذلك لثانية واحدة، حتى لو كان ذلك الشخص أقرب المقربين إلي. تلك قاعدة مطلقة لا يمكنني مخالفتها أبدا، لذلك أجبت محرجة:
_“آسفة .. لكن لا يمكنني أن أسلمه لك”
يومها، كنت أحمد الله في قرارة نفسي أن ذلك الأستاذ المحاضر لم يكن يدرسني حقا، وإلا قضي علي،
لكن لفجأتي نظر إلي بشبح ابتسامة وقال:

_” جيد، أنت تلتزمين بالقواعد”

كان ذلك أغرب اعتراف سمعته! رفعت يدي بعدها ليرى بتمعن الرمز المنقوش في سواري بعد طلبه، كنت أتمنى فحسب أن لا يلاحظ كل من في القاعة الموقف الذي كنت أتعرض له.
بعد أن انتهى من تأمله، سأل:
_“هل ستحضرين درسي؟”
فاومأت أن نعم، بينما ألعن الساعة التي وافقت فيها على مرافقة “ندى”!
فابتسم بوقار و قال:
_” جيد”
ثم تخطاني ليصل إلى قلب القاعة، عدت أنا بعدها إلى مقعدي، بدا أن “ندى” لم تلاحظ ما حدث معي، وذلك كان أفضل ما حدث لي حتى تلك اللحظة. شغل الأستاذ جهاز العرض، ثم افتتح محاضرته مقدما نفسه:
” نهاركم سعيد، سأقدم نفسي.. بومالك إيهاب، عالم..”
_“لا نستطيع السماع جيدا في هذه المقاعد!” قاطعت ندى تقديم الاستاذ لنفسه.
حاولت أن أتجاهل ضجيج الطلبة من حولنا، اقتربت من أذنها ثم همست لأطمئنها:
_“سيهدأون بعد قليل، ثم لا أظن أن محتوى هذه المحاضرة ستكون بتلك الأهمية”.
لم أكد أنهي جملتي تلك حتى نظرت إليَّ ندى شزرا وهددت:
_“لن تهمني تعليقاتك الطريفة عن هذه المحاضرة بعد انتهاءها لكن لو نطقت حرفا واحدا أثناءها فأعدك أن أرمي قلبي في أوداهي ولن أسامحك حتى تجديه”.
كثيرا ما نقول كلماتنا عبثا، ودون تفكير، فنهدِّدُ باحتمالاتٍ مستحيلة الحدوث، لكن بعض المزحات أحيانًا تصبح حقيقة، لذا.. لا زلت أتساءل اليوم، ما دمت لم أقل كلمة واحدة أثناء المحاضرة، لماذا لم تسحب ندى تهديدها إذن؟ ما دام قلبها مرميا في أوداهي، كيف لي أن أغفر لنفسي؟. وقتها تجاهلتها، هززت رأسي ضاحكة ثم التفتُّ إلى الاستاذ الذي راح يصرخ بحماس:
_“مرحبا بكم في مملكة “تينهام”!..”

حالما قال هذه الكلمات، بدأ الجميع بالتهامس والتساؤل فيما بينهم عما كان ينوي الحديث عنه بالضبط، حتى أنا استغربت موضوع محاضرته، لأن مملكة “تينهام” الموجودة في قلب “أوداهي” كانت مجرد خرافة لا يمكن ان تكون واقعا و لا يمكن أن تكون موضوعًا لدرس، أو على الأقل هذا ما كنا نظنه وقتها. ضرب الأستاذ بيده خشب مكتبه يطلب منا الصمت، ثم أضاف:
_”أعلم أننا كنا نظن لسنوات أنه لا وجود لأي حياة في صحراء “أوداهي”، وأن “تينهام” مجرد خيال اخترعه الأجداد، لكن محاضرة اليوم، ستغير كل ما تعرفونه.”
نظرت إلى وجه الأستاذ الذي كان يقف على بعد مقاعد كثيرة من مجلسي ذاك، و لم أستطع إلا أن ألاحظ حذره من ردود أفعالنا، و حماسه الذي كان دون حدود، حتى من بعيد كنت لا أزال أراه ينظر إلينا بلهفة، يكاد يصرخ: _“دعوني أخبركم عن هذه المدينة المذهلة ثم يمكنكم أن تقطعوا لساني بعدها لو أردتم!”
لذا لم يستطع قلبي إلا أن يدق متشوقا لما كنت سأسمعه منه، متخوفا مما كنت سأسمعه، وأن يدق لذلك الأستاذ دون سبب.. وقتها. كبست “ندى” على يدي بقوة متحمسة و همست:
_“ألم أقل لك أن محاضرة اليوم لا تفوَّت!”
فأومأت موافقة على عجالة بينما كل تركيزي كان لا يزال منصبا على ذلك الشاب فوق المنصة. بعد أن هدأنا قليلا، انحنى هو لينقر على أزرار حاسوبه الشخصي، فظهرت على جهاز العرض بعدها صورة لصحراء “أوداهي” وحلقتها الصخرية العملاقة، وتلك الصورة بالذات، والتي التُقِطت على الأرجح في بدايات ظهور الكاميرا ذات الألوان، تكاد تكون الصورة التذكارية الرسمية لأوداهي. تماما كتلك الصور لبرج إيفل أو لتمثال الحرية التي تلتقط من زوايا معينة، صورة أوداهي التي ستجدها على قميص سياحي تشتريه من أي محل جزائري أو ليبي ستكون صورة مقربة لإحدى الصخور التي تحمل رمزا يشبه وجه الشمس، بينما الشمس الحقيقية تختبئ خلف تلك الصخرة وقت الغروب فتلمع الصخور المجاورة بين السماء الأرجوانية والرمال البرتقالية، ربما من التقط تلك الصورة لم يظن أنها ستُطبَع على ملايين الأوراق والقمصان حتى بعد نصف قرن من التقاطها، لكنه قطعا لم يملك أدنى فكرة أن شابا ما بعد كل ذلك الوقت سيستعملها كمدخل لكل شيء. رفع الأستاذ نظره إلينا، ثم قال بنبرة تطلب اهتمامنا:
_“ظن الناس لسنوات أنهم إن تبعوا مسار هذه الحجارة فسينتهي بهم المطاف بالوصول إلى مملكة عظيمة عند نهاية الطريق، حتى أن بعض القبائل انتقلت في طوائف لسنوات طويلة تتبع الحجارة، لكن ما حدث كل مرة فهو أن الأمر انتهى بهم بالعودة إلى نقطة البداية، أو الدوران حولها عديد المرات، لأن هذه الحجارة في الحقيقة كانت ترسم حلقة مغلقة، وليس أي حلقة!”
ظهرت بعد ذلك صورة ملتقطة من القمر الصناعي على الشاشة فأضاف:
_” لم تكن حلقة عبثية، وإنما دائرة محسوبة بدقة، مركزها يقع جنوب محافظة تمنراست الجزائرية أو ما نسميه نحن قلب “أوداهي”..”.
لم يقل شيئا لم نكن نعرفه قبلا حتى ذلك الوقت، حتى أنه اختزل بعض التفاصيل المملة، ككون الحجارات الضخمة موضوعة على بُعد مسافاتٍ منتظمة في خطٍّ يبدو مستقيما، مسافة عشرين مترا بالتمام بين كل صخرة والموالية لها، ارتفاع كل واحدة منها سبعة أمتار وثلاثون جزءًا من المائة، عمقها يختلف كل مرة، ورمزٌ مختلف في كل صخرة، وهي تفاصيل حفظناها منذ تعلمنا القراءة. مشى بعيدا عن مكتبه إلى قلب منصة المدرج ثم تابع:
_” لم يلتقط أي قمر صناعي وجودا لأي شيء مميز في تلك النقطة، أي في قلب الصحراء، حتى الـ19 من جويلية 2013″
ثم عرضت الشاشة صورة جعلت كل من في القاعة يفغر فاه و يشهق في دهشة، حتى أنا تفاجأت! كانت صورة التقطت وقت الغروب تماما مثل الصورة التذكارية المعتادة، لكن الفرق أنه كانت تظهر فيها أطياف ضوئية زرقاء، خضراء ووردية في السماء، تمتد على شكل ستائر عريضة فوق “أوداهي”، فشرح:
_“يسمى هذا شفقا قطبيا، وهو ظاهرة طبيعية تحدث عادة في القطبين الشمالي والجنوبي للأرض، يمكنكم العثور على صور ليلية جميلة لها لو أردتم الاستمتاع بجمالها.”
لم تكن أول مرة أرى فيها أضواء الشفق، لكن لم أكن أفهم ما علاقتها بمحاضرة عن تينهام الأسطورية؟
_“جميلة أليس كذلك؟” سأل الأستاذ بتيه، فعلقت فتاة من الصفوف الخلفية دون خجل:
_” أنت أجمل منها!”
لم يبدُ أنه سمع تلك الكلمات الوقحات حتى، كان غارقا في عالمه الخاص بينما ينظر إلى السماء في الشاشة الكبيرة خلفه. لطالما أثار فضولي اهتمامه غير المشروط ولا المحدود بتلك الصحراء، من النادر أن نصادف في حياتنا أشخاصا يهبون كل ما لديهم وفيهم في سبيل قضية معينة، أو لحلم معين، وهو كان تجسيدا مبالغا. كيفما نظرت إليه، بدا أنه يعيش لتينهام.. ولي، وأمام مثل هذا الالتزام، نشعر بالارتباك ونرتكب الأخطاء دوما. في ذلك الوقت لم أكن أعرف أن صحراء خالية ستملؤني بكل أنواع المشاعر ذات يوم، لذا نظرت إلى السماء الملونة بإعجاب فحسب دون أن انظر إلى الرمال تحتها. بعد لحظات تابع الأستاذ قائلا:
_” هي جميلة فعلا، لكن نحن نتحدث عن ظاهرة تحدث في غير مكانها تماما، ففي ليلة من جويلية 2013 حدث هذا في حلقة ضيقة فوق “أوداهي” في جنوب الجزائر. سجل السكان القريبون رؤيتها وقاموا بتصويرها كما ترون، لذا نحتاج أن يفسر لنا العلماء لماذا قد نرى شفقا قطبيا في الجزائر!”

توقف عن الحديث، ثم نظر ناحيتي فجأة كأنه كان يرصدني وسط الظلام وبين حشد التلاميذ! كان ينظر داخل عيني تماما لذا ظننت أنه، كوني أرتدي أضخم سوار وأكثرهم لمعانا، فقد وقعت عيناه عليَّ بالصدفة. لكنه ابتسم بغرابة شديدة بعدها، ابتسامة لا تتفق مع صرامة ما كان يقوله، وهو ما جعل الريق يجف في حلقي من الاضطراب. لكزت ذراع “ندى” ثم أشرت إلى الأستاذ، فنظرت إلي هي بقلة صبر ثم همست:
_“ماذا؟ ما الأمر؟”
أشرت إليه، ثم كتبت على الورقة أمامي: “شخص غريب”، وذلك كان أصدق وصف أعطيته له. بعد أن قرأت ندى ما كتبت، نظرت إلي ببرود، ثم علقت:
_“الشيء الوحيد الغريب بشأنه هو كيف تكمن من الحفاظ على كل تلك الوسامة رغم كم الأبحاث والدراسات التي يقوم بها، لو يبتسم أكثر فسنحتاج إلى سيارة إسعاف لنقل الموتى في المقدمة”.
حالما انتهت من الحديث، قررت أن أتجاهلها فحسب. برؤية العدد “الأعظم” للفتيات اللاتي كن يجلسن في المدرج أدركت أن أغلبهن كن هناك ليس بسبب رموز أوداهي و إنما بسبب صورة الأستاذ على ملصق المحاضرة. لم أعلم وقتها أنه لم يهتم بوجود أي طالب عداي أنا، كان سواري يلمع بشدة داخل عينيه، وكان يبتسم بسعادة لذلك.

بعد قليل من الصمت و الغرابة، قرر أخيرا أن يتابع حديثه:
_“لم يصل العلماء إلى نتائج مُرضية مع الأسف، لم يتم تسجيل أي اضطراب في المجال المغناطيسي للأرض ورغم أن التيارات الشمسية كانت قوية في صيف ذلك العام إلا أنه لم نتأثر بعاصفة شمسية من نوع ما في ذلك الوقت. بل لم تكن هناك أية نظرية تفسر حدوث شفق قطبي دون أي سبب أو مبرر فوق أوداهي فقط. قد يبدو لكم الأمر تافها، لكن قد يكون لظاهرة جميلة كهذه تفسير كارثي! لأن انحرافا أيا كانت طبيعته قد يؤدي إلى كوارث إيكولوجية لا نهاية لها، والأسوء، أن يتأثر المجال المغناطيسي للأرض لدرجة كبيرة وذلك سيعني نهاية الحياة التي نعرفها”.

حل الصمت في القاعة الضخمة، بدا أن صدى “الموت” تردد بأقوى من قدرتنا على السماع. ما فعله الأستاذ ذلك اليوم كان أنه حول شيئا مسالما كنا نستمتع بالتقاط الصور بجواره إلى قنبلة لا نعلم متى يمكن أن تنفجر بتلك الفجأة والبساطة. لم أفهم أيا مما قاله طبعا، لم أكن يوما جيدة في الفيزياء أو الكونيات، وأشك أن “ندى” الجالسة بجانبي والتي كانت تنظر إلى الأطياف جميلة الألوان بهلع كانت تفهم نصف ما قاله أيضا، لكن شعرت بالخوف حقا، كما فعل كل طالب. حالما لاحظ الأستاذ علامات الاضطراب البادية على وجوهنا ارتاحت ملامحه، لأن محاضرته على ما بدا كانت تنال الاهتمام الذي أراده، حتى بالترهيب. كان الصمت يطول أكثر، كنا ننتظر كارثة أخرى تهددنا، أو أن يقول أن الصور مزيفة وما قاله كان مزحة، وفي هلعنا ذاك، امتدت يداه بهدوء إلى الكيس الضخم الذي كان يحمله قبل بداية المحاضرة، ثم عدله في وضعية أقرب إليه فوق المكتب وقال بصوت أكثر انخفاضا كأنه يخبرنا سرا ما:
_“استمرت تلك الظاهرة 20,07 ثانية بالضبط، وفي تلك المدة القصيرة نوعا ما، استطاع القمر الصناعي التقاط صور لم ترها البشرية يوما وسط تلك الصحراء.”
ثم عرض صورة مقربة وسط تلك الأضواء، فرأيتها لأول مرة! كانت هناك! كانت مدينة ببنايات و طرقات، كانت مدينة دائرية ضخمة! نظرت إلى ندى بعدم تصديق لأجدها تنظر نحو شاشة العرض بجمود.

وتلك .. كانت أول مرة رأيت فيها تينهام.

إعداد: مونية سباعي.

تدقيق لغوي: منال بوخزنة.

كاتب

الصورة الافتراضية
Manel Boukhezna
المقالات: 0