عن قوة الرواقية

كما يمكن لبعض المحاربين والسجناء على مرِّ التاريخ أن يشهدوا، الرواقية ليست فلسفة جافة أو بعيدة كل البعد عن التطبيق، وإنما هي أحد أفضل الطرق للاستمتاع ببعض من الهدوء في خضم المحن والمصائب التي تواجهنا باستمرار.

فعل هذا على مر التاريخ: يُغيِّر في الأفكار والفلسفات، فتُحرف وتَبتعد كل البعد عما نصَّت إليه في الأصل. هكذا أضحت جل الفلسفات العريقة مثل البوذية والوجودية، فأصبحت الأولى مرادفا للكسل والخمول، أما الثانية فللتبلد والسوداوية. حذت الرواقية حذو كلا الفلسفتين، والتي أصبحت تعتبر هي الأخرى -إن اعتبرت من الأصل- فلسفة شقاء وتحمل لما لا يمكن للإنسان العادي أن يتحمله، أو باختصار شديد: فلسفة هروب دون مواجهة. لكن لو فقط ينظر لها بعناية وإمعان، فإن الحقيقة هي أن هذه الفلسفة لها القدرة على إمدادنا، على طبق من فضة، بتسام دائم وسكون خالص.

ليس من الغريب كون الرواقية مستبعدة ومسلوبة الصيت بالرغم من أن لها قابلية تطبيق أسهل عن، مثلا، فلسفة الزن الشائعة في الغرب. وبالرغم من أنها خالية الوفاض من الغموض الدخيل للفلسفة الشرقية، إلا أنها لا تزال تعتبر فلسفة استسلام. تتجاهل هاته النظرة المحرفة للرواقية إمكانية تحصيل الامتنان والسمو المتمثلان في لب ما تحويه من وعود وممارسات.

يتم أيضا تجاهل مفهوم العرفان، والذي به يتم تحقيق السكينة في تعاليم الرواقية، إذ أنها في الأصل، وبعيدا عن كل التلفيقات الموجهة لها، فلسفة عرفان شديد يكفي لتحمل كل شيء مهما كان. أغلب الفلاسفة المنددين بالتحرر النفسي الأسمى قد فشلوا غالبا في تقبل أنهم ينتمون إلى حلف يشمل الرواقيين أيضا. في “وفقا للطبيعة تريدون العيش؟” فريدريك نيتشه يتهكم على الرواقيين في “ما وراء الخير و الشر” (1889):

أيها الرواقيون النبلاء، أي كلمات مضللة هي هذه! تخيل كيان مثل الطبيعة، مدمرة إلى أبعد الحدود، لامبالية إلى أبعد الحدود، بدون أهداف أو اعتبارات، بدون رحمة أو عدل، خصبة وجرداء وغامضة في نفس الوقت. تخيل اللامبالاة كقوة، كيف يمكن لكم أن تعيشوا وفقا لهذه اللامبالاة؟ أليس العيش أن تريد أن تكون أي شيء ما عدا هذه الطبيعة؟ أليس العيش أن تخمن، تفضل، تكون غير عادل ومحدود، أو أن تسعى لأن تكون مباليا؟ وباعتقاد أن تعليمتكم، ‘عش وفق الطبيعة’، تعني في عمق ما تعني : ‘العيش وفق الحياة’، فكيف لا يمكنكم فعل ذلك؟ لماذا تخلقون مبدأ لما أنتم في الأصل عليه وما يجب عليكم في الأصل أن تكونوه؟

هكذا هي معظم التنديدات المعادية للرواقية، بالرغم من كونها مغرية وبالتالي فعالة، إلا أنها جاهلة بمختلف ما تحويه هذه التعليمة من حكمة.

والحقيقة هي أن اللامبالاة، فعلا، تصبح قوة عندما تطبق بعناية وانتقائية؛ والعيش وفق هذا المنهج ليس فقط أمر ممكن، وإنما يعتبر أيضا وسيلة لعيش حياة أكثر حرية، تنوعا، ومغامرة. الرواقية لا تعني التخلص من الحزن والبهجة، لا بل هما لا يزالان هناك، مع مختلف المشاعر الأخرى، لكنهما بتعاليمها يصيران أكثر اعتدالا وفي اعتدالهما يكونان أقل استبدادا.

إن لم نفلح دائما في اللجوء إلى فلاسفتنا كي نفهم الرواقية، إذا إلى أين عسانا نتجه؟ هناك مكان يمكن أن نبدأ منه: Urban Dictionary، فلنلق نظرة على ماذا يقول هذا القاموس المفتوح المصدر والذي يعرف الرواقية بلغة عامية:

رواقي: شخص لا يبالي بأي من الأحداث الغبية في العالم والتي تلقى بالمقابل اهتماما كبيرا من قبل العامة من الناس. الرواقيون يكنون مشاعرا، لكن فقط للأشياء المهمة. باختصار، هم أكثر الناس شفافية على وجه الأرض. بينما مجموعة من الأطفال يلعبون في رواق حتى يمر بجانبهم رواقي أحد من الأطفال يصيح به: “يا هذا، أنت حيوان غبي”. الرواقي : “حسنا”. ويمضي في طريقه…

عليك أن تعجب بالطريقة التي استعمل بها الرواق في المشهد السابق، لأن الرواقية تستمد أصلها من كلمة stoa الإغريقية والتي تعني “رواق“. كان الرواقيون في القدم يتجهون دائما إلى رواق بأعمدة، حيث كانوا يتجاذبون أطراف الحديث عن الأفكار التنويرية التي شغلتهم آنذاك. يعتبر الفيلسوف الإغريقي زينون مؤسس الرواقية، كما يعتبر الامبراطور الروماني ماركوس أوريليوس من أشهر مزاوليها، أما عن السياسي الروماني المحنك سينيكا، فيعتبر من أفصح و أكثر الرواقيين تسلية على مر تاريخها. ولكن رجل الرواقية الحقيقي بدون منازع وباتفاق معظم الرواقيين هو الفيلسوف الإغريقي إبكتاتوس.

كان إبكتاتوس عبدا، مما أعطى كلامه مصداقية تخطت تلك التي كانت لمعظم الرواقيين بالرغم من مختلف الصعاب التي واجهوها. كان يخطب في تلامذته الذين قاموا بتدوين تعاليمه لاحقا. تعتبر كتاباتهم الكتابات الوحيدة التي نعرفها عن إبكتاتوس والتي هي عبارة عن عملين قصيرين، «المحادثات» و «الدليل المختصر» إلى جانب بعض من الشذرات الكتابية الأخرى. ومن بين الذين تتلمذوا مباشرة على يديه هو ماركوس أوريليوس ( فيلسوف رواقي لم يعتقد أنه سيقرأ له يوما ما لأن كتاباته «تأملات» كتبت بدافع شخصي كنوع من أنواع التعليم الذاتي).

شريحة كبيرة هي أولئك الذين تتلمذوا بشكل غير مباشر على يد إبكتاتوس ؛ منهم الذين عرفوا والذين لم يعرفوا. أحدهم قائد الأسطول البحري جايمس ستوكدايل، والذي كان سجين في حرب الفيتنام لمدة دامت سبع سنوات عايش خلالها أحداث أقل ما يقال عنها أنها صعبة ؛ فتحمل ألم العظام المكسورة والجوع والسجن الانفرادي وكافة أنواع التعذيب الأخرى. كان الرفيق النفسي الوحيد له خلال كل هذا تعليمات إبكتاتوس، والتي تعلمها بعد تخرجه من الجامعة والتحاقه بالبحرية ودراسته الفلسفة بجامعة ستانفورد. جعل لنفسه من هذه التعاليم ملاذا خلال الحرب؛ ولم يسمح لها بالانفلات من ذهنه حتى عندما اشتدت عليه الأوزار. في تلك الفترة، كان قد تمكن فعلا من فهم ماهية هذه التعاليم، وعلم تمام كيف يطبقها أحسن من أي شخص آخر.

كتب ستوكدايل كثيرا عن إبكتاتوس، في محادثات و مذكرات و مقالات، لكن إن كنت تود أن تستبق الأحداث لفهم لب الفلسفة الرواقية، فليس هناك أفضل من محاضرة ألقاها في جامعة كينغز بلندن في 1993، والتي نشرت بعد ذلك بعنوان: ” الشجاعة تحت النار: اختبار تعاليم إبكتاتوس في مختبر للسلوك البشري (1993)”. هذا العنوان مهم، ذلك أن إبكتاتوس نفسه شبه قاعة محاضرات الفيلسوف بالمستشفى، أين يجب على التلامذة الخروج منها ببعض من الألم. “إذا كانت قاعة محاضرات إبكتاتوس مثل المستشفى”، ستوكدايل كتب، “فإن سجني كان مثل المختبر، مختبر للسلوك البشري. اخترت أن أختبر تعاليم إبكتاتوس فيه مع كل ما فرضه علي من صعوبات، وكما يمكنكم القول، أعتقد أن الاختبار قد نجح بجدارة”.

ما يرمي جل الأمر إليه، وبمعناه المبسط، أن اتخاذ القرار هو حرفيا كل ما نملك، وأن كل شيء آخر عدا ذلك لا يجب النظر أو الاهتمام به أبدا. ” من هو الإنسان الذي لا يقهر؟ ” إبكتاتوس سأل ذات مرة قبل أن يجيب نفسه، “هو ذلك الذي لا يهتم بكل ما يقبع خارج دائرة قراراتنا”. كل محنة ‘ تقبع خارج دائرة قراراتنا’، يجب اعتبارها فرصة لتقوية عزائمنا، وليس عذرا لانهزامنا أمامها. هذه التعليمة من أعظم ما يمكن للعقل ابتداعه. هذه القابلية في تحويل المصيبة إلى فرصة؛ وهذا تماما ما كتبه سينيكا عندما وصف شخص ذاك الإنسان الذي لم يختبر أبدا من طرف المصائب و الصعاب:”أنت ذو حظ عاثر في نظري لأن حظك لم يتعثر أبدا؛ واجهت الحياة بدون عدو ليكدر عليك صفوها، لا أحد سيعلم ما أنت بقادر عليه، ولا حتى أنت”. نقدم لأنفسنا معروفا كبيرا عندما ننظر إلى المصيبة كفرصة لاكتشاف دواخلنا، وبهذا الاكتشاف، سنحسن ما سنجد هناك.

تعليمة عظيمة أخرى يمكننا استخلاصها من الرواقية هي ما سماه ويليام إيرفاين في كتابه «دليل للحياة الجيدة: الفن الرواقي العتيق للسعادة» (2009) التصور السلبي. بتخيل أسوء ما يمكنه الحدوث في عقولنا باستمرار، الرواقيون يخبروننا، سوف نحصن أنفسنا من أخطار ما يسمى بالتفكير الإيجابي -الفكرة التي تخبرنا أن الواقعية سوف تقودنا إلى الحزن والسوداوية. إلا أنه بتصور الأسوء فقط يمكننا حينئذ تقدير الجيد ؛ العرفان لا يأتي عندما نأخذ الأمور بهامشية، إنما هذا العرفان بالذات هو الذي يمكننا من التخلي عن التحكم بالمجريات التي قد منعنا العالم من التحكم بها في الأصل.

كيف سمحنا لفلسفة جد بسيطة و مفهومة كالرواقية أن تصبح من أغمض ما يكون؟ الكثير سيلاحظون في هذه التعاليم مدى تشابهها مع نظرية العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، فعلا، الرواقية اعتبرت شكلا أوليا للعلاج السلوكي. النفساني الأمريكي آلبرت إليس والذي أوجد شكلا بدائيا من النظرية والتي عرفت بالعلاج العقلي الإنفعالي في 1955، كان قد قرأ للرواقيين في شبابه وحتى أنه كان يصف لمرضاه حكمة لإبكتاتوس، ‘لا ينزعج الناس من الأشياء بل من نظرتهم إليها’. “هذا في الحقيقة هو النموذج المعرفي للعاطفة بكل اختصار، دونالد روبرتسون يخبرني، وهو أعلم بذلك فقد ألف كتابا عن CBT في 2010 بعنوان: « الفلسفة الرواقية كعلاج نفسي عقلاني ومعرفي» ‘.

هذه البساطة والسهولة تنم على أن الرواقية لن تكون أبدا مقبولة عند أولئك الذين يفضلون التجريد و المستتر في فلسفاتهم. في رواية «رجل كامل» (1998)، توم وولف يقدم الفلسفة الرواقية، بمنطقية باهرة، إلى أحد المساجين، وبالرغم من كون العمل رسمي جدا، إلا أنه يحتوي على الكثير من العاطفة. عندما سئل كونراد عن ما إن كان نفسه رواقي أجاب، ‘ أنا فقط أقرأ عنها، لكن تمنيت لو كان أحد من الرواقين حي اليوم، شخص يمكنك اللجوء له مثلما لجأ تلامذة إبكتاتوس إليه. اليوم، يعتقد عامة الناس أن الرواقيين هم أشخاص يصطكون أسنانهم ويرحبون بالألم والمعاناة ؛ لكن الحقيقة أنهم هادئون وواثقون بالرغم من كل ما يمكنك رميه عليهم’. يمكننا حتى أن نتساءل أكثر عن الذي أصاب الرواقيين من محن حتى نفهم فلسفتهم. فمثلما كان إبكتاتوس حبيس العبودية، فإن سينيكا لم يكن أكثر اختلافا عنه، رغم رفاهيات الحياة التي غالبا ما كان يجد السبيل إليها، إلا أنه عانى من داء السل، المنفى، والسيطرة المرضية لدكتاتور سفاح وسادي. سينيكا ذات نفسه قال:’ لم يشترط أحد الحكمة للفقراء فقط’ ، إلى جانب أن سينيكا هو أول من يقول لك “لست مستعرا من محاولة علاج رفقائي بالرغم من أني نفسي مريضا، لكني أناقش مشاكلا ومنغصات تخص كلانا، وأشارك الحلول معك كأننا نستلق على فراش المرض بنفس المشفى”.

ماركوس أوريليوس، مستلقيا على فراش بالمستشفى كذلك، رغم كونه منتفعا بمحاسن مكانته كإمبراطور، إلا أنه أثقل بالكثير من الصعاب والاضطرابات لنفس السبب، وبأمور أخرى أيضا. وهذا الاقتباس من كتاب «دليل للحياة الجيدة» سيوفي المفهوم : كان مريضا، عانى من القرحة على الأغلب. كانت حياته العائلية مبعثا للبؤس والاكتئاب: زوجته لم تكن وفية له، ومن بين 14 طفل حملت به، ستة فقط من نجوا. علاوة على هذا، كانت هناك ظغوطات جمة عليه بسبب مكانته كحاكم امبراطورية. في مرحلة حكمه، كان هناك عدوان وتمرد من الخارج، فاضطر ماركوس أن يشرف على العديد من المعسكرات ضدها. وزراءه، أهمهم، أفيدوس كاسيوس، انقلبوا عليه. أما العامة، فكانوا يسخرون منه من دون تلقي أي جزاء. في فترة حكمه تعرضت الإمبراطورية كذلك إلى الطاعون، المجاعة، والكوارث الطبيعية مثل الزلازل.

بالرغم من كل هذا، ماركوس نجح في أن يجد لنفسه طريقة فعالة في مجابهة ما كان يجب عليه أن يجابهه، وذلك ببدأ يومه بقول، “علي أن ألتقي بالمتطفلين، الجاحدين، العنيفين، الخونة و الجافين”. كان يمكنه أن يتعامل مع الأمر بشكل مختلف، كأن يتظاهر مثلا أن الأوضاع على ما يرام، خاصة في تلك الأيام التي هذا ما كانت تبدو عليه، لكن كيف بإمكانه حينئذ التأهب للجيد والسيِّئ ؟ و كيف بإمكانه إذا التأقلم مع تغيرات الواقع العنيفة؟ إلى ما كان سيؤول إليه حاله لو تغير الطقس فجأة!

المصدر: https://aeon.co/essays/why-stoicism-is-one-of-the-best-mind-hacks-ever-devised

تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي

كاتب

الصورة الافتراضية
BENZERGA Rokia
المقالات: 0