التحديق إلى الهاوية: في معنى أن تكون عدمياً

كاتب المقال: نولان قورتز

   تشكل العدمية مصدر تهديدٍ مستمرٍ ودائم، ففيلسوفة القرن الواحد والعشرين حنة أرندت أوضحت أنه من الأصح النظر إلى هذا التوجه الفلسفي لا كمجموعة من “الأفكار الخطيرة”، بل كمجازفة محورية ضمن مسعى التفكير بحد ذاته. فإن قضينا الوقت الكافي للتأمل في أيّ فكرة، مهما بدت لنا قوتها أو مدى انتشار سعة قبولها، سنخلص إلى نوع من أنواع التشكيك بمصداقيتها، شئنا أم أبينا. كما أننا سنبدأ أيضا بالتساؤل عما إذا كان معتنقوها فعلا يدركون أو حتى يهتمون لمدى صحتها. هذا يدفعنا إلى فهم سبب وجود كل هذا الكم الهائل من الخلاف حول العديد من المسائل، ولماذا يبدو لك أن معظم الناس على يقين بتلك المسائل التي فقدت جل أحقيتها في ناظريك. هنا تماماً، على حافة العدمية، هناك خياران: إما أن تواصل التفكير وتخاطر بعزل نفسك عن المجتمع، أو تتوقف عن التفكير وتخاطر بعزل نفسك عن الواقع.  

 فرّق فريدريك نيتشه في مذكراته والتي نُشرت بعد وفاته من طرف أخته في “إرادة القوة”، وقبل قرن مضى على تأملات أرندت، بين خيار أن تكون عدمياً “فاعلا” وأن تكون عدمياً “غير فاعل”، فقد تمحورت فكرته عن العدمية حول كونها نتاج أن تحط القيم العليا من قيمتها، أو بمعنى آخر؛ أن تتحطم أرفع القيم التي يعرفها الإنسان في محاولةٍ منها لإثبات نفسها بنفسها. فغالباً، قيم مثل الحقيقة والعدل لا تتبدى للعيان في شكل أفكار مجردة، وإنما كمفاهيم تأخذ طابعاً مقدساً أو خارقاً، وبالتحديد عندما نقول “معرفة الحقيقة ستحررك” أو “سيتحقق العدل”، فهنا، وعندما لا ترقى هذه القيم للميزات التي نُسبت لها، عندما لا تحررنا الحقيقة وعندما لا يتحقق العدل بالضرورة، حينها فقط نصبح متوهمين. لكن بدلاً من أن نلوم أنفسنا لوضع ثقتنا الكاملة في هٰته القيم، ندرك أننا نلومها لعدم ارتقائها لما نتوقعه ونريده.

  لنيتشه، هنا فقط تتجلى لنا إمكانية أن نصبح عدميين فاعلين، أن نرفض تلك القيم التي قُدمت لنا جاهزة من طرف الآخرين حتى يتسنى لنا تشييد وصقل قيمنا الخاصة. أو، يمكننا كذلك، أن نصبح عدميين لا فاعلين ونواصل إيماننا بتلك المعتقدات الجاهزة بالرغم من الشكوك الجوهرية التي نملكها تجاه صحة وقيمة ما تحويه في لبّها. العدمي الفاعل هو ذلك الذي يدمر كي يجد، أو حتى يشيد، ما يستحق الإيمان به، فوحده الذي يقاوم الدمار ما يجعلنا أقوياء، وهذا هو تماما المنظور الذي كان يتشاركه نيتشه مع بعض من جماعات روسيا في القرن التاسع عشر والذين كانوا يعتبرون أنفسهم عدميين. لكن، وفي الجهة المقابلة، العدمية اللافاعلة لا تريد المخاطرة بتاتا بالدخول في صراع لتدمير الذات، لذا فإنها تتشبث بمساحة الأمان الجاهزة التي تقدمها لها المعتقدات المورثة والجاهزة.

يؤكد نيتشه أن هذا النوع من حماية الذات لهو من أخطر أساليب تدميرها على الإطلاق. أن تؤمن فقط بهدف الإيمان بشيء ما قد يوصلك لما يمكن وصفه بالعيش السطحي، بعيداً كل البعد عن لذة الخوض في غمار ما يمكن للعقل الإنساني أن يخوض فيه، أن تستعد، عن قناعة، للإيمان بما يؤمن به الآخرون حتى لو بدت لك أنها لا تستحق ذاك التصديق على أية حال. هذه المقاربة، وبالنسبة للعدمي اللافاعل، هي أفضل من المجازفة باللاتصديق. أو، باستخدام عبارة أخرى تظهر باستمرار في أعمال نيتشه: المجازفة بـ “التحديق إلى الهاوية”.

تُعدّ العدمية من أكثر النماذج الفكرية التي ينتهجها الأفراد لوصف ما آل إليه العالم اليوم. لكن، وبالرغم من هذا، فعند استخدام الكلمة ضمن حوارات عابرة، في الإعلام أو في مواقع التواصل الاجتماعي مثلا، فإنها نادرا ما تعرف، وكأن الجميع يعلم جيدا ما تعنيه. لكن، وكما سبق ورأينا، يمكن للعدمية أن تكون فاعلة وغير فاعلة، وإذا أردنا فهماً أدقّ وأفضل لهذه الفلسفة، وكذا أسلوب التفكير والحياة هذا، علينا إذاً بتتبع كيفية تطور مفهومها على مر السنين في نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)، الأخلاق والميتافيزيقا، وكيف وُجدت لها وسائل تعبيرية مختلفة في أساليب حياتية متباينة كنكران الذات مثلا أو عدم تقبل الموت وعدم تقبل العالم.

  تُعتبر العدمية في الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) مرادفا لاستحالة تحقيق المعرفة، أو موقفا يؤكد غياب الدعائم الأساسية لأكثر ما نعتز به من معتقدات. الحجة الدامغة التي ترتكز عليها العدمية الإبستمولوجية هي فكرة أن المعرفة تحتاج لأكثر من مجرد عارف ومعروف، وأنه يجب عليها أن تتخطى ما يتمحور فقط حول التجارب الذاتية، حيث أن هذه الأخيرة هي ما يفصل المعرفة الحقة عما يمكن اعتباره مجرد رأي أو وجهة نظر.

 لا يوجد أي معيار أو نموذج معرفي بالنسبة للعدمية المعرفية، لا توجد أية قاعدة أو ركيزة بحيث يمكن لشخص ما أن يدعي المعرفة البحتة لما يؤمن به، ولا يوجد أي شيء ليستخدمه كأداة لإثباته. كل محاولات إثبات الموضوعية وإدراكها بالنسبة للعدمية المعرفية هي مجرد أوهام. نحن نخلق ذلك الإحساس بإدراكنا للمعرفة واللحاق بها لإخفاء حقيقة أنه لا توجد حقائق، وعلى سبيل المثال، أكد توماس كون في كتابه “بنية الثورات العلمية”، والذي نشر سنة 1962، أنه يمكننا بالفعل تطوير نماذج جد معقدة وناجحة لوصف الواقع، والتي يمكننا استخدامها لاكتشاف عديد من “الحقائق” الجديدة، لكن لا يمكن لنا أبداً أن نثبت أن هذه الأخيرة تتطابق تماما مع الواقع –فهي تعبر فقط عن نموذجنا الذي اختلقناه للتعبير عنه.

   أن ندّعي أن شيئاً ما صحيحٌ وثابتٌ اعتماداً على التجارب السابقة وما حدث سلفاً يعني أننا سنواجه حتماً مشكلة استقرائية: فقط لأن شيئاً ما حدث في الماضي وتكرر حدوثه، فهذا لا يعني أنه سيحدث مجدداً. وإذا ادعينا أن شيئاً ما صحيح وثابت اعتماداً على ثوابت علمية، سنواجه هنا أيضا مشكلة وثوقنا الأعمى بالسلطة العلمية، فعندما يتعلق الأمر بالمنطق، فإن هذه الثقة العمياء تعتبر في حد ذاتها مغالطةً منطقية، حيث أن ادعاءات الآخرين أو حتى ادعاءات المختصين أنفسهم، لا ترقى لأن تكون تلك الأرضية الصلبة التي تقف عليها المعرفة الحقّة دون تمايل. يمكن حتى للمختصين _بعبارة أخرى، أن ينحازوا لطرف من المعادلة دون الآخر وهنا ترتفع نسبة ارتكابهم للأخطاء. علاوةً على ذلك، وعندما يبني العلماء ادعاءاتهم وتجاربهم والنتائج المترتبة عنها على أعمال من سبقوهم، يمكننا أيضا هنا اعتبارهم ضحايا الثقة العمياء بالسلطة العلمية، وهذا سيوصلنا بدوره إلى مشكلة أخرى تطرح نفسها بإلحاح: مشكلة التسلسل اللانهائي، أي أن أي ادعاء للمعرفة يعتمد على ركيزة أو أرضية ما سيقودنا حتماً إلى التساؤل عن ماهية هذه الركيزة والأسس التي بُنيت عليها، ومن ثم سيقودنا ذلك إلى التساؤل عن هذه الأسس، ثم الركائز التي بُنيت عليها هاته الأسس، وهكذا.. 

  وقوفاً عند هذه النقطة بالذات، سيتبدى للقارئ أن ما ندعوه بالعدمية المعرفية لا يختلف بأي شكل من الأشكال عن الشكوكية، إذ أن الشكوكي مثل العدمي، لا يفتأ عن طرح تساؤلات تشكك في صلابة الأرضية التي ترتاح عليها معظم اعتقاداتنا، كما أنه غالبا في ارتياب من أمره عما إذا كان يمكن للمعرفة أن تجد تلك الأرضية الصلدة يوما. هنا فقط، سيكون من المجدي أن نعود إلى نيتشه وتمييزه بين العدمي الفاعل واللافاعل، ففي حين أن الأول يشبه ذلك المتشكك الجذري، فإن الثاني يختلف عن كليهما، فهو يدرك أن طرح الأسئلة والتشكيك في مصادر المعرفة المختلفة ممكن، لكنه بدل أن يشكك في المعرفة، فإنه يختار الإيمان بها، وبناءً على ذلك، فإن المعرفة موجودةٌ بالنسبة له، لكن الأساس الوحيد الذي تقف عليه هو الإيمان، الإيمان بها بغض النظر عن ثبات ركائزها. 

 ومن هنا نستنتج أن العدمية لا تتمحور فقط حول ذلك الشخص الذي يرفض ادعاءات المعرفة المختلفة لعدم توفرها على ركائز لا سبيل للشك فيها، وإنما تشمل أيضاً من يحمل شكوكاً حول تلك الادعاءات لكنه، ومع ذلك، يواصل الإيمان بها بغض النظر عن شكوكه وتساؤلاته المستمرة. 

  تعتمد النظريات العلمية عن نظريات علمية أخرى سبقتها، وهذه النظريات التي سبقتها تعتمد أيضا عن أخرى، واحتمالية أن يكون أحدها مغلوطاً أو منقوصاً أو أنها تعرضت في مرحلة ما لخطإٍ ما واردٌ جداً. لكن، وبما أن هذه النظريات تستمر في إثبات إنتاجيتها، خاصة على الصعيد التكنولوجي وفي شكل تطورات تكنولوجية، فإنه يمكن للشكوك التي تطال هذه النظريات حول مدى صحتها المطلقة أن تُقزَّم ولا تؤخذ على محمل الجد، وفي تقزيم الشكوك حول المعرفة، يقوم العدمي اللافاعل بتقزيم السعي وراء المعرفة تباعا..

  أو بعبارة أخرى، وبالنسبة للعدمي اللافاعل، فإن المعرفة لا تهم. هنا، عليك فقط أن تسترجع في ذاكرتك مدى سعة انتشار استعمال كلمات مثل “المعرفة” و”القناعة” بشكل عشوائي يومياً. فمثلا، عندما يقول أحدهم أن القطار قادم، فإننا غالبا لن نسأله كيف علم بذلك، وإن حدث وسألناه فإن الإجابة ستعتمد عن المصدر الذي لا يمكننا التشكيك فيه أبداً في عصرنا الحالي: لأن هاتفي قال هكذا. يمكن للهاتف أن يمدنا بإجابة صحيحة عن توقيت وصول القطار، وهنا، فإن الهاتف قد أصاب اعتماداً على البرمجة التي بُرمج عليها، لكن يمكن للهاتف أيضا أن يمدنا بتوقيت مغلوط، وهنا سيحوم اللوم حول القطار لا الهاتف. وبما أن الهاتف قد أصبح الضامن الأول للمعرفة اليوم، فإن الاعتراف بإمكانية أن يكون الهاتف على خطأ هو أن نخاطر باعترافنا أن المعرفة التي نحصلها من خلال هواتفنا قد لا تقوم على ركيزة صلبة، ومن هنا فهذا سيقودنا أيضا إلى الاعتراف بأن معظم اعتقاداتنا قد لا تقوم على ركائز صلبة مهما بلغت دقتها. ففي النهاية، وتماما مثلما يحدث مع أجهزتنا الذكية، نحن نادراً ما نتساءل لماذا نعتقد أننا نعرف ما نعرفه، ومن هذا المنطلق، يمكن أن نستنتج أن العدمية اللافاعلة ليست وضعية “بعد حداثية” جذرية أو راديكالية، وإنما هي جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية العادية أين نشكك بالكثير من الأمور، لكننا نواصل الإيمان بالرغم من ذلك. 

  تعد العدمية في فلسفة الأخلاق رفضاً لمنطق أن للأخلاق مبادئ ثابتة، حيث يؤكد دونالد كروسبي في كتابه “The Specter of the Absurd”  والذي نُشر سنة 1988، أن العدمية الأخلاقية هي نتيجة العدمية المعرفية، فإذا لم نملك أية ركائز لنبني عليها ادعاءات موضوعية حول المعرفة والحقيقة، فإننا لن نملك بالضرورة ركائز تعيننا على تمييز الصائب من الفعل والخاطئ منه. أو، وبمعنى آخر، ما نراه أخلاقياً هو ما قد تم التسليم به مسبقاً على أنه الحق والصواب، أو ما قد تم الاعتراف به كحق في إحدى الفترات الزمنية الغابرة، ضمن إحدى الثقافات أو بالنسبة لبعض من الأفراد: من هنا تتدفق الأخلاق وليس مما هو “موضوعيا” صائبٌ فعله.

  تم على مر التاريخ بناء الادعاءات الأخلاقية على ركائز مثل الإله، السعادة والمنطق لأنها تعد ركائز يمكن تبنيها عالميا وتعميمها على الجميع، في كل مكان وزمان. ولا تزال هذه الركائز جد مهمة لتحقيق الأخلاق عالميا. 

  فيلسوف الأخلاق إيمانويل كانت، وفي القرن الثامن عشر، كان قد أقر بخطر ترسيخ الأخلاق ضمن ركيزة إلهية أو ركيزة مرتبطة بالسعادة؛ حيث أنه قد رأى أن ذلك سيؤدي حتما إلى الشكوكية الأخلاقية. فالإيمان بالله يمكن له أن يحفز المرء على العمل الصالح، لكن العمل الصالح لن يكون الهدف في حد ذاته بل غاية إلى بلوغ الجنة وتجنب النار. يعد السعي وراء السعادة مثالا آخر، حيث يمكن له أن يحفز المرء على التحلي بأخلاق حميدة معينة، لكننا لا يمكن أبدا أن نتوقع الأفعال التي ستجعل الناس سعداء. لهذا، وكرد فعل من فيلسوف الأخلاق “كانت”، جاءت الأخلاق التي تُبنى على أساس العقلانية والمنطق، فبالنسبة له، تحتاج الأخلاق إلى أرضية عالمية موحدة، وإذا كنا على وشك اتخاذ قرار ما، فمنطق أن يكون هذا القرار مقبولا بالنسبة للعالم أجمع هو ما يجب أن يسري. فعندما نحدد ما نرجوه من أي فعل نقوم به، وعندما نقوم بتحويل هذا الفعل إلى قانون يتبناه كل إنسان عاقل، هنا يمكننا استخدام العقل لنحدد ونرى ما إذا كان من المنطقي والمعقول تعميم أفعالنا. وبعبارة أخرى، إذا كنت لا تحب أن يفعل شخص آخر ما تفعل، فهنا يسقط التعميم ولا يمكن لفعلك أن يكون مقبولا عالميا، هنا إذا المنطق، بدلا عن الإله والرغبات، هو ما يمكنه إخبارنا، بالنسبة لكانت، ما إذا كانت أفعالنا مرغوبة وصائبة (يمكن تعميمها)، أو غير صائبة (لا يمكن تعميمها).

   لكن، ومع ذلك، الأخلاق الكانتية تحتوي على العديد من الثغرات، منها ما عرج عليه جاكاس لاكان في كتابه “Kant with Sade” الذي نُشر سنة 1989 والذي كان مفادها أن استخدام مبدأ العالمية (universalisability) كمعيار لما هو صواب وما هو خطأ قد يخول لبعض من الأشخاص الأذكياء أمثال ماركيز دي ساد أن يبرروا أفعالهم المشينة إذا تجاوزت اختبار الأخلاق الكانتية. هناك أيضا مشكلة أخرى مع هذا المعيار، والذي ذكرها جون ستيوارت ميل في كتابه “النفعية” (1861) حيث أكد أنه يمكن للأشخاص أن يتحلّوا بالعقلانية، لكنها ليست أبدا الصفة الوحيدة التي يمتلكونها، ومن هنا يمكن أن يدفعنا اعتمادنا لمعايير “كانت” أن نتصرف كروبوتات لا مبالية على أن نكون ما نحن عليه بالفعل: أشخاصٌ تشعر وتفكر. 

 هناك أيضا ثغرة ثالثة تلح بنفسها على المعايير التي أتى بها “كانت” والتي لاحظها نيتشه وأقر بها في أحد أهم أعماله “في جينيولوجيا الأخلاق” (1087) حيث أكد أن العقلانية أو المنطق ليسا معياريْن مطلقيْن يمكن تعميمهما عالميا بل هما صفتين تطورتا مع الإنسان عبر مرور السنين وأصبحتا جزءاً من حياته. فتماما مثلما يمكنك تدريب فأر تجارب على القيام بتجربة معينة، نحن تعلمنا بنفس المبدأ أن نصبح عقلانيين بعض الشيء وكان هذا نتاج قرون من “التجارب” الأخلاقية، الدينية والسياسية. ولهذا تماما لا يمكننا اعتبار المنطق والعقلانية أرضية صلبة للأخلاق ذلك أن حتى الدعائم التي تقوم عليها هذه الأرضية تفتح لنا مجالا للشك بها. 

  هنا أيضا نجد تمييزا مهماً بين كيف يتجاوب العدمي الفاعل واللافاعل مع هذه الشكوك الأخلاقية، فإمكانية الشك في شرعية أي دعامة أخلاقية تمكن العدمي الفاعل من إعادة تعريف جذري لهذه القيم أو رفضها على نحو كامل. نحن نحكم على الأفعال باعتمادنا على مبادئ أخلاقية معينة، لكن العدمي الفاعل هو من يقرر ما هي المبادئ التي سيعتمد عليها، لكن وفي الغالب، ما سيبدو لنا خلاقا أو إبداعي قد يكون في الحقيقة مشتقا، أي أنه يصعب كثيرا الفصل بين ما يمكن أن يكون تفكيرا خلاقا وتفكيرا مرهونا بكيف أتينا إلى هذا العالم وعلى ماذا تربينا ووفق أي زاوية نقرر.

  إذا، وبعيدا عن هذه الأنانية الأخلاقية، فمن الدارج جدا أن يرفض العدمي الفاعل جل المبادئ الأخلاقية، وعليه، فإنه سيحكم على الأفعال من منطلق مدى فاعليتها: أي مدى فعالية تحقيقها لمبتغى ما. ومن هذا المنطلق إذا، فإن أفعال الإنسان لن تختلف كثيرا عن تلك المنوطة بالحيوان أو بالآلة، فإذا كان من الخطأ قول أن ذلك الحيوان شرير لالتهامه حيوانا آخر بسبب الجوع، فإن العدمي الفاعل سيقول أنه من الخطأ قول أن الناس أشرار عندما يتعرضون بالسرقة لناس آخرين بسبب الجوع والحاجة. 

  في غياب الأخلاق، تقف مفاهيم مثل السرقة، الملكية والحقوق على أرضية قانونية فقط، حيث أنه يمكن اعتبار بعض الأفعال جرما لكنها لن تعتبر غير أخلاقية، ومثال على العدمي الفاعل يمكن أن يتجلى في شخصية ثرازيماكس الصوفي الإغريقي في “جمهورية” أفلاطون، حيث يجادل ثرازيماكس أن “المساواة” هي مجرد بروباغاندا يستخدمها الأقوياء لكبح الضعفاء ودفعهم لتقبل هذا الكبح بتصويره لهم كنوع من أنواع المساواة. 

 العدمي اللافاعل، من الجهة المقابلة، لا يرفض المبادئ التقليدية للأخلاق فقط لكون أنه يمكن التشكيك بدعائمها، لكنه لا يعير أية أهمية لهذه الدعائم، فهو يواصل في طاعة هذه القيم، ليس في سبيلها ولكن في سبيل الطاعة، فهو يفضل أن يعيش تحت مظلة ما يؤمن به الآخرون من صواب وخطأ ومن الخيّر والشرير، حتى لا يضيع تلك البوصلة الأخلاقية التي تقوده عند اتخاذ القرارات بشكل يومي، مهما كانت مؤشراتها مغلوطة..

  إن القيم الأخلاقية تمدنا بذلك الإحساس بالانتماء للمجتمع، فتَشارك القيم مثله في الأهمية مثل تشارك لغة موحدة، وفي رفض العدمي الفاعل لهذه القيم رفضٌ للمجتمع تباعاً، لكن العدمية اللافاعلة لن تخاطر بفقد الإحساس بالانتماء والتنازل للوحدة، فما سيهم بالنسبة لها ليس كون أن قيمة أخلاقية معينة صحيحة، بل كونها رائجة.

 ومثلما قادتْنا العدمية المعرفية إلى العدمية الأخلاقية، تقودنا هذه الأخيرة أيضا إلى العدمية السياسية. تعتبر العدمية السياسية مرادفا للرفض المطلق للسلطة، حيث كان هذا هو الحال مع عدميو القرن التاسع عشر الروسيون الآنف ذكرهم، والذين نجحوا في ايقاف زحف التسار آنذاك باغتياله. يمكن لهذا أن يكون أنموذجاً تعبيرياً جيداً عن العدمية الفاعلة.

  تكمن خطورة العدمية الفاعلة في رغبتها الفوضوية في تدمير المجتمع من أجل الحرية، وتكمن خطورة العدمية اللافاعلة بالمقابل، في رغبتها الخاضعة لتدمير الحرية من أجل المجتمع. ومثلما رأينا مسبقا، يحول العدمي اللافاعل من المعرفة والقيم أدوات مهمة لخدمته مادامت تمده بتلك الطمأنينة والإحساس بالحماية، وهنا تصبح حاجته في أن يحمي نفسه من مآرب الشك والغموض هي الأكثر تهلكة من تلك التي يتبناها العدمي الفاعل، لأن الخطر هنا بالنسبة للعدمي اللافاعل يكمن في كونه يفضل المنظومات السياسية والأخلاقية التي تشجع تقبل التقاليد والاتباع الأعمى للسلطة على تفضيله المنظومات التي تشجع على الحرية والاستقلالية. مع ذلك، وبالرغم من أننا نقول بشكل دائم أننا نريد الحرية والاستقلالية، إلا أن تحقيق هذه الإرادة له أن يكون عبءاً مروعا. قد تم التعبير عن هذا، وكمثال، في كتاب “مفهوم القلق” (1844) لـكيركجارد عندما وصف القلق بـ” دوار الحرية” الذي يجتاحنا عندما نحدق طويلا في “هاوية” الاحتمالات اللامتناهية، لك فقط أن تفكر في عندما تقدم لك قائمة طعام مفعمة بما لذ وطاب في مطعم ما، والحيرة التي تتملكك بعدها وتدعوك إلى تسليم الاختيار للنادل بدلا عنك بالسؤال عما يجب أن تطلبه، أو عندما تفكر في نيتفليكس وكيف تغير مضمون أفلامها وكيفية اختيارك لما ستتابع عن طريق لوغاريتم يسهل عنك عناء ذلك.

  كان نيتشه قلقا مما بدى له رواجا بقبول قيم مثل نكران الذات، التضحية والإيثار، حيث رأى أنه في قبول قيم منافية للذات كهٰته دليلا على تفشي مرض العدمية اللافاعلة في أوروبا القرن التاسع عشر. وفي القرن العشرين، أبدى أيضا إيريك فروم في كتابه “الهروب من الحرية” (1941) قلقه مما وصفه بـ”الخوف من الحرية” والذي كان يجتاح أوروبا، كان هذا الخوف أيضا هو ما ألهم أعمال المنظرين النقديين في ألمانيا وكذا الوجوديين في فرنسا.

  حذرت أرندت من تعاملنا مع العدمية على كونها مجرد أزمة شخصية يسودها اللاثبات والشك، بل علينا التعامل معها كأزمة سياسية، إذ يمكن الترويج للعدمية من طرف أولئك الأقوى في السلطة وأكبر المستفيدين من أزمات كهذه، وبالتالي حتى العدمية التي تشمل تساؤلات ماوراء طبيعية قد تحمل وزناً سياسياً. أن نقبل بأن الكون لا يحمل أي معنى، قد يحول اهتمامات تتعلق بالاضطهاد، الحروب، البيئة والمناخ لأشياء جانبية لا أهمية لها، ولهذا السبب، ليس السياسيون وحدهم فقط من ينتفعون بالعدمية.

وبالنسبة للفيلسوفة سيمون دي بوفوار، وفي كتابها The Ethics of Ambiguity الذي نُشر سنة 1948، كانت قد أوضحت فيه أن العدمية تأخذ أحيانا شكلا من أشكال الحنين إلى الماضي (أو النوستالجيا) الذي كان خاليا من كامل وفاض المسؤولية. ولهذا السبب، يمكن للمؤسسات الكبرى أن تبيع لنا العدمية في شكل نوستالجي وتلهينا عن الواقع، ولهذا السبب بالذات علينا أن لا نكتفي برؤية الجانب العدمي فينا، بل أن نتمكن من رؤيته في العالم من حولنا وتحديد المصادر الذي يتدفق منها، وبدلا من استسلامنا لعالم نشعر بأنه قد توقف عن الاهتمام بنا، علينا دائما أن نتساءل من أين تأتي أوجه النظر العدمية هذه، ومن هو المستفيد الأكبر من تبنينا لهذا السبيل..

المقالة الأصلية: https://aeon.co/essays/if-you-believe-in-nihilism-do-you-believe-in-anything

كاتب

الصورة الافتراضية
BENZERGA Rokia
المقالات: 0

تعليق واحد

اترك رداً على نسيبةإلغاء الرد