الطوارئ الفيروسية وعالم الغد – بيونغ تشول هان.

مفاتيح كورونا: لماذا نجحت آسيا وفشلت الدول الغربية في السيطرة على الوباء؟

مقالٌ للفيلسوف الكوريّ الألمانيّ بيونغ تشول هان *

يختبر الفايروسCovid-19  أنظمتنا من الداخل، إذ يبدو أن آسيا تسيطر على الوباء بشكل أفضل من أوروبا، ففي هونغ كونغ وتايوان وسنغافورة هناك عدد قليل جدا من المصابين. فمثلا في تايوان، تم تسجيل 108 حالات وفي هونغ كونغ 193. في ألمانيا، وعلى العكس من ذلك، بعد فترة زمنية أقصر بكثير، كان هناك بالفعل 15320 حالة مؤكدة، وفي إسبانيا 1980 (إحصاءات الـ 20 مارس).

 كما اجتازت كوريا الجنوبية أسوأ مرحلة، وكذلك اليابان، حتى الصين، البلد الأصلي للوباء، تمكنت من السيطرة عليه بشكل جيد. لم يعد هناك حظر في تايوان ولا في كوريا على مغادرة المنزل، كما لم يتم إغلاق المتاجر والمطاعم. في غضون ذلك، بدأ نزوح الآسيويين الذين يغادرون أوروبا، وأصبح الصينيون والكوريون يريدون العودة إلى بلادهم لأنهم يشعرون بالأمان هنا، تضاعفت أسعار الرحلات الجوية تضاعفت، وأصبحت تذاكر الطيران إلى الصين أو كوريا بالكاد متوفرة.

بينما أوروبا في المقابل تفشل… ويزداد أعداد المصابين أضعافا مضاعفة، فيما يبدو أنها لا تستطيع السيطرة على الوباء. في إيطاليا، يموت المئات يومياً، ويضطر الأطباء إلى إزالة أجهزة التنفس من المرضى المسنين من أجل إنقاذ الشباب، ولكن نجد في الوقت نفسه بعض الإجراءات التي تقوم بها مفرطة وغير مجدية.

هذا ما قاله الفيلسوف الألمانيّ الكوري بيونغ تشول هان في مقال نُشر في صحيفة **El PAIS، حيث حذر من إجراءات الحكومات “وردود فعلها المبالغ فيها” و “غير المجدية”، مثل إسراعها لإغلاق الحدود: ” نشعر بالعودة إلى عصر السيادة، من الواضح أن إغلاق الحدود هو تعبير يائس عن السيادة، الحاكم هو الذي يقرر حالة الطوارئ، وهو صاحب السيادة الذي يغلق الحدود، لكن هذا عرض فارغ لا جدوى منه للسيادة، بينما سيكون من المفيد التعاون بشكل مكثف داخل منطقة اليورو، أكثر بكثير من إغلاق الحدود بطريقة مجنونة”.

كما يشير الفيلسوف المقيم في ألمانيا أيضًا إلى “سخافة” حظر الأجانب في ضوء حقيقة أن أوروبا هي بالضبط المكان الذي لا يريد أحد أن يأتي إليه: “في أحسن الأحوال، سيكون من الحكمة إصدار مرسوم بحظر مغادرة الأوروبيين، لحماية العالم من أوروبا بعد كل شيء، أوروبا هي مركز الوباء الآن”.

ما هي المزايا التي تقدمها المجتمعات الآسيوية والتي تتسم بالكفاءة في مكافحة الوباء؟

 الاستبداد والبيانات الضخمة

 بالنسبة للمفكر الكوري، فإن مواطني دول مثل تايوان أو اليابان أو سنغافورة، ذات العقلية الثقافية الاستبدادية والتي تحدّرت من تقاليدها الثقافية الكونفوشيوسية، حيث أنّ ثقة الناس في الدولة تفوق عمّا هي عليه في أوروبا، وليس فقط في الصين، ولكن أيضًا في كوريا أو اليابان، فالحياة اليومية أكثر انتظامًا وصرامة، كما أن المواطنين هناك أقل ممانعة وأكثر طاعة وامتثالًا من أوروبا، يؤمنون بالمراقبة الرقمية واستخدام البيانات الوصفية للدفاع عن أنفسهم من هذا الوباء.

فقد استفاد الآسيويون وبقوة لمواجهة هذا الفيروس من المراقبة الرقمية. لا أحد يماري أو يساوره شكٌ في أن البيانات الضخمة يمكن أن تحمل إمكانات هائلة للدفاع ضد الوباء. يمكن القول أن الأوبئة في آسيا لا يخوضها علماء الفيروسات والأوبئة فحسب؛ ولكن قبل كل شيء أيضا علماء الكمبيوتر والمتخصّصين في البيانات الضخمة. إنّه تحول نموذجي لم تتعلمه أوروبا بعد. المدافعون عن المراقبة الرقمية سيعلنون أن البيانات الضخمة بإمكانها إنقاذ أرواح البشر!

 يكاد الوعي النقديّ ضدّ المراقبة الرقميّة ينعدم عمليّا في آسيا. هناك حديث -على استحياء -عن حماية البيانات؛ حتى في الدول الليبرالية مثل اليابان وكوريا. لا أحد يمتعض من الهوس الرقميّ لدى السلطات لجمع بيانات مواطنيها.

وفي الوقت نفسه، قامت الصين بإدخال نظام “ائتمانٍ اجتماعيٍّ” لا يمكن تصوره للأوروبيين، والذي يسمح بإجراء تقييم شامل للمواطنين، إذ ينبغي تقييم كل مواطن باستمرار في سلوكه الاجتماعي. ففي الصين ليس هنالك وقت في الحياة اليومية لا يخضع للملاحظة، حيث يتم التحكم في كل نقرة وكل عملية شراء، في كلّ اتصال وكل نشاط على الشبكات الاجتماعية.

يتمّ رصد نقاط أولئك الذين يقتربون من الخطوط الحمراء؛ الذين يتعاملون مع منتقدي النظام، أو أولئك الذين ينشرون تعليقات تمسّ الدولة على الشبكات الاجتماعية، وتغدو إثر ذلك قد حياتهم خطيرة للغاية. على العكس منهم، يحصل أولئك الذين يشترون طعامًا صحيًا عبر الإنترنت أو يقرؤون الصحف المتعلقة بالنظام على نقاط إيجابيّة. ومن يجمع نقاطا جيّدة، يحصل على تأشيرة سفر أو ائتمانات رخيصة. وعلى الصورة المقابلة، فإن أي شخص يقل عدد نقاطه عن عددٍ معيّنٍ يفقد وظيفته!

لم تكن هذه المراقبة الاجتماعية لتصبح ممكنة في الصين، لو لم يكن هناك تبادل غير مقيد للبيانات بين مزودي الإنترنت والهواتف المحمولة والسلطات. عمليا لا يوجد حماية للبيانات.  يقول الفيلسوف: ” في مفردات اللغة الصينية، لا يظهر مصطلح «المجال الخاص»” ، الأمر الذي سهّل بناء بنية تحتية كاملة للمراقبة تكون فعالة للغاية في احتواء الوباء.

 ففي الصين، على سبيل المثال، هناك 200 مليون كاميرا مراقبة وكثير منها مجهز بتقنية التعرف على الوجه عالية الكفاءة. حتى أنها بإمكانها التقاط الندبات والشامات على الوجه. لا يمكن الهروب من كاميرا المراقبة. يمكن لهذه الكاميرات المزودة بالذكاء الاصطناعي مراقبة وتقييم كل مواطن في الأماكن العامة والمتاجر والشوارع والمحطات والمطارات.

 لقد تبين الآن أن البنية التحتية الكاملة للمراقبة الرقمية فعالة للغاية في احتواء الوباء. “عندما يغادر شخص المحطة في بكين، يتم التقاطه تلقائيًا بواسطة كاميرا تقيس درجة حرارة جسمه. إذا كانت درجة الحرارة مثيرة للقلق، يتلقى على الفور كل من يجلس في نفس السيارة إشعارًا على هواتفهم المحمولة. وليس من المستغرب أن يعرف النظام من كان يجلس في القطار. تقول الشبكات الاجتماعية أن الطائرات بدون طيار تُستخدم للتحكم في الحجر الصحي. إذا كسر أحدهم الحجر الصحي سراً، فإن طائرة بدون طيار تتجه إليه وتطلب منه العودة إلى منزله. ربما سيقوم حتى بطباعة الغرامة ويسقطها وهي تحلق من السماء، من يدري. إنّ الوضع الذي يبدو بالنسبة للأوروبيين بائسًا، لا وجود لمقاومة له أو تذمرٍ منه في الصين.

 لا يوجد في الصين ولا في دول آسيوية أخرى مثل كوريا الجنوبية، هونغ كونغ، سنغافورة، تايوان أو اليابان أي وعي نقدي بالمراقبة الرقمية أو البيانات الضخمة، فالرقمنة تُسمّمهم مباشرة. ويمكن إرجاع هذا إلى عاملٍ ثقافي أيضًا، حيث تسود نمط الحياة الجماعية في آسيا، وحيث لا توجد فردية يتمتع بها الأفراد. والفردية هنا [كنمط عيش وأسلوب حياة] ليست هي الأنانية كما يتصور البعض، والتي هي بالطبع منتشرة للغاية في آسيا.

في ووهان، تم تشكيل الآلاف من فرق التحقيق الرقميّ للبحث عن الأفراد المحتملين إصابتهم بالفايروس بناءً على البيانات الفنّية وحدها. استنادًا إلى تحليل البيانات الضخمة فقط، يكتشفون من يحتمل أن يكون مصابًا، ومن يجب مراقبته ثم يتم عزله في النهاية. كذلك فيما يتعلق بالوباء، فإن المستقبل يكمن في الرقمنة. في ضوء الوباء، ربما يجب علينا إعادة تعريف حتى السيادة! عندما تعلن أوروبا حالة من القلق أو تغلق الحدود، فإنها تواصل التمسك بالنماذج القديمة للسيادة. “تبدو الـسيادة اليوم لمن يمتلك البيانات”!

ليس فقط في الصين، ولكن في البلدان الآسيوية الأخرى أيضًا، يتم استخدام المراقبة الرقمية على نطاق واسع لاحتواء الوباء. ففي تايوان، ترسل الدولة في وقت واحد إلى جميع المواطنين رسالة قصيرة لتحديد مكان الأشخاص الذين كانوا على اتصال بالأشخاص المصابين أو للإبلاغ عن الأماكن والمباني التي أصيب فيها الناس. استخدمت تايوان بالفعل في مرحلة مبكرة جدًا اتصال بيانات لتحديد مواقع الأشخاص المحتملين المصابين بناءً على الرحلات التي قاموا بها.

 أي شخص يقترب من مبنى يوجد فيه شخص مصاب في كوريا يتلقى إشارة إنذار من خلال “تطبيق Corona“. يتم تسجيل جميع الأماكن التي تم إصابة بها في التطبيق. حماية البيانات والمجال الخاص لا تؤخذ في الاعتبار كثيرا. وفي كوريا، يتم تركيب كاميرات المراقبة في كل مبنى وفي كل طابق، في كل مكتب، أو في كل متجر. وقد أصبح من المستحيل عمليا التنقل في الأماكن العامة دون تصويرها بواسطة كاميرا فيديو. كما يمكن إنشاء ملف تعريف الحركة الكامل للشخص المصاب، باستخدام بيانات الهاتف المحمول والمواد التي تم تصويرها بواسطة الفيديو، ويتم نشر تحركات جميع المصابين. بل ويوجد في مكاتب وزارة الصحة الكورية بعض الأشخاص الذين يطلق عليهم “المتتبعون” الذين لا يفعلون شيئًا سوى مشاهدة لقطات الفيديو ليلًا ونهارًا لاستكمال ملف تعريف حركة المصابين وتحديد الأشخاص الذين اتصلوا بهم.

ثقافة الكمامات الواقية

الفرق الواضح الملاحظ بين آسيا وأوروبا هو الكمامات الواقية بشكل خاص. في كوريا، لا يوجد أي شخص يتجول دون أجهزة تنفس خاصة قادرة على تصفية الهواء من الفيروسات. ليست الكمامات الجراحية المعتادة، ولكنها كمامات واقية خاصة مع مرشحات، والتي يرتديها أيضًا الأطباء الذين يعالجون المصابين. خلال الأسابيع القليلة الماضية، كانت المسألة ذات الأولوية في كوريا هي توفير الكمامات للسكان. تشكلت طوابير ضخمة أمام الصيدليات. تم تقييم السياسيين بناءً على مدى سرعة تزويدهم بها لجميع السكان، وتمّ بناء آلات جديدة لتصنيعها على عجل. في الوقت الحالي، يبدو أن العرض يعمل بشكل جيد. حتى أن هناك تطبيقًا يخبرك في أي صيدلية قريبة لا يزال بإمكانك الحصول على كمامة. أعتقد أن الكمامات الواقية، التي تم تزويد جميع السكان بها في آسيا، كانت مفيدة في احتواء الوباء.

يرتدي الكوريون كمامات مضادة للفيروسات حتى في العمل. وحتى السياسيون لا يظهرون علنا ​​إلا باستخدام كمامات الوجه (الرئيس الكوري مثلا) بما في ذلك المؤتمرات الصحفية. في كوريا يتم تنبيهك باستمرار إذا لم ترتدِ قناعًا.

 على العكس من ذلك، يُقال غالبًا في أوروبا أن ارتداء الكمامات ذات فائدة قليلة، وهذا هراء. ثم لماذا يرتدي الأطباء كمامات واقية؟ ولكن يجب عليك تغيير الكمامة الخاصة بك كل حين، لأنها عندما تبتل، تفقد وظيفة التصفية. ومع ذلك، فقد طور الكوريون بالفعل “كمامات خاصة بفايروس كورونا” مصنوعة من مرشحات نانو يمكن حتى غسلها. يقال إنها يمكن أن تحمي الناس من الفيروس لمدة شهر. إنه في الواقع حل جيد جدًا طالما أنه لا توجد لقاحات أو أدوية.

في أوروبا، على النقيض من ذلك، يتعين على الأطباء السفر إلى روسيا للحصول عليها. أمر الرّئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون بمصادرة الكمامات لتوزيعها على موظفي الرعاية الصحية. لكن ما تلقوه في وقت لاحق كان كمامات طبيعية غير مفلترة مع الإشارة إلى أنها ستكون كافية للحماية من الفيروس، وهو كذب.

إنّ أوروبا تفشل… فما فائدة إغلاق المحلات والمطاعم إذا استمر الناس في الازدحام في مترو الأنفاق أو الحافلة خلال ساعات الذروة؟ كيف يمكن الحفاظ على المسافة اللازمة هناك؟ يكاد يكون ذلك مستحيلًا حتى في محلات السوبر ماركت. وفي مثل هذه الحالة، تنقذ الكمامات الواقية حياة البشر. وقد بدأ مجتمع من طبقتين آخذ في الظهور. كل من لديه سيارته الخاصة يكون أقل عرضة للخطر. وحتى الكمامات العادية ستفعل الكثير إذا ارتداها المصابون، لأنهم حينئذ لن يسمحوا للفيروس بالانتشار عن طريقهم.

 في البلدان الأوروبية، لا يرتدي أحد تقريبًا كمامة. هناك من يرتدونها، لكنهم آسيويون. ويشكو مواطنو بلدي المقيمون في أوروبا من أنه ينظر إليهم بغرابة عندما يرتدونها. بعد ذلك هناك اختلاف ثقافي. في أوروبا، هناك نوع من “الفردانية ” التي جلبت معها عادة المثول أمام الناس بوجه مكشوف للعلن. فالملثمون الوحيدون هم المجرمين. ولكن الآن، بعد أن رأيت صورًا لكوريا، أصبحت معتادًا على رؤية أشخاص مقنعين لدرجة أن الوجه المكشوف لجيراني الأوروبيين يكاد يكون فاضحًا بالنسبة لي. أنا أيضًا أودّ ارتداء كمامة واقية، لكنها لم تعد متاحة هنا.

 في الماضي، كان تصنيع الكمامات، مثل العديد من المنتجات الأخرى، يتم الاستعانة بمصادر خارجية للصين، حتى الآن في أوروبا لا يمكنك الحصول على كمامات. بينما تحاول الدول الآسيوية تزويد جميع السكان بكمامات واقية. في الصين، عندما أصبحت نادرة هناك أيضًا، أعادوا تجهيز مصانع لإنتاجها. أمّا في أوروبا، فحتى أفراد الرعاية الصحية لا يحصلون عليها. وطالما استمر الناس في الازدحام في الحافلات أو مترو الأنفاق للذهاب إلى العمل بدون كمامات حماية، فإن الحجر الصحي لن يحقق الكثير، كيف يمكنك الحفاظ على المسافة اللازمة في الحافلات أو في المترو في ساعات الذروة؟ والدرس الذي يجب أن نتعلمه من الوباء يجب أن يكون الاستراحة لإعادة انتاج بعض المنتجات في أوروبا، مثل الأقنعة الواقية أو المنتجات الطبية والصيدلانية.

الفيروس العدو

على الرغم من جميع المخاطر، التي لا ينبغي التقليل منها، فإن الذعر الذي أطلق العنان لوباء كوفيد 19 “غير متناسب إطلاقا”.  ولا حتى “الأنفلونزا الإسبانية”، التي كانت أكثر فتكًا، كان لها مثل هذه الآثار المدمرة على الاقتصاد. ما هو هذا حقا؟ لماذا يتفاعل العالم في حالة من الذعر مع الفيروس؟ حتى إيمانويل ماكرون يتحدث عن الحرب والعدو غير المرئي الذي يتعين علينا هزيمته. هل نواجه عودة العدو؟ اندلعت “الإنفلونزا الإسبانية” في منتصف الحرب العالمية الأولى. في ذلك الوقت كان الجميع محاطًا بالأعداء. لم يكن أحد سيربط الوباء بحرب أو عدو. لكن اليوم نعيش في مجتمع مختلف تمامًا !

نحن نعيش منذ فترة طويلة بدون أعداء. انتهت الحرب الباردة منذ فترة طويلة. في الآونة الأخيرة، حتى إرهاب داعش بدا كأنّه انتقل إلى مناطق بعيدة. قبل عشر سنوات بالضبط، في كتابي مجتمع الإرهاق*** The Burnout Society ، دعمت الأطروحة التي نعيشها في الوقت الذي فقد فيه النموذج المناعي، القائم على سلبية العدو، صلاحيته. كما هو الحال في أوقات الحرب الباردة، يتميز المجتمع المنظم مناعيا بحياة محاطة بالحدود والأسوار، مما يمنع التداول المتسارع للسلع ورأس المال. تعمل العولمة على قمع كل هذه العتبات المناعية لإعطاء رأس المال مجانا. حتى الاختلاط والتسامح المنتشران اليوم في جميع المجالات الحيوية يقضيان على سلبية المجهول أو العدو.

 الأخطار الكامنة اليوم ليست من سلبية العدو، بل من الإفراط في الإيجابية، التي يتم التعبير عنها بالأداء المفرط والإنتاج الزائد والتواصل الزائد. سلبية العدو ليس لها مكان في مجتمعنا المتسامح بشكل غير محدود. يفسح القمع من قبل الآخرين المجال للاكتئاب، والاستغلال من قبل الآخرين يفسح المجال للاستغلال الذاتي الطوعي والتحسين الذاتي. في مجتمع الأداء، الحرب فوق كل شيء ضد نفسك.

العتبات المناعية وإغلاق الحدود

حسنًا، في خضم هذا المجتمع الذي أضعفته الرأسمالية العالمية مناعيًا، ينفجر الفيروس فجأة. ممتلئين بالذعر، نقيم مرة أخرى عتبات مناعية ونغلق الحدود، عاد العدو، لم نعد نشن الحرب ضد أنفسنا، بل ضد العدو غير المرئي الذي يأتي من الخارج. إن الذعر المفرط في ضوء الفيروس هو رد فعل مناعي اجتماعي، وحتى عالمي للعدو الجديد. رد الفعل المناعي عنيف للغاية لأننا عشنا لفترة طويلة في مجتمع بدون أعداء، في مجتمع الإيجابية، الآن يُنظر إلى الفيروس على أنه إرهاب دائم.

ولكن هناك سبب آخر للذعر الهائل. مرة أخرى لها علاقة بالرقمنة. الرقمنة تزيل الواقع، يتم اختبار الواقع بفضل المقاومة التي يقدمها، ويمكن أن تكون مؤلمًة أيضًا. الرقمنة، ثقافة “الإعجابات” كلها، تكبح سلبية المقاومة. وفي فترة ما بعد الوقائع من الأخبار المزيفة والخداع العميق، ينشأ نوع من اللامبالاة تجاه الواقع. لذلك هنا فيروس حقيقي، وليس فيروس كمبيوتر، يسبب ارتجاجًا. الواقع، المقاومة، ملحوظة مرة أخرى في شكل فيروس العدو. رد فعل الذعر العنيف والمبالغ فيه للفيروس تم تفسيره على أساس هذه الصدمة بالواقع.

رد فعل الذعر من الأسواق المالية للوباء هو أيضا تعبير عن هذا الذعر المتأصل فيها بالفعل. الاضطرابات الشديدة في الاقتصاد العالمي تجعله ضعيفًا للغاية. على الرغم من المنحنى المتزايد باستمرار لمؤشر الأسهم، فإن السياسة النقدية الخطرة للبنوك المصدرة قد ولدت في السنوات الأخيرة حالة من الذعر المكبوتة التي كانت تنتظر تفشي المرض. ربما لا يكون الفيروس أكثر من القطرة الصغيرة التي ملأت الزجاج. ما ينعكس في ذعر السوق المالية ليس الخوف من الفيروس بقدر ما هو الخوف من نفسه. كان يمكن أن يحدث الحادث بدون الفيروس. ربما يكون الفيروس مجرد مقدمة لتحطم أكبر بكثير.

يدّعي سلافوي جيجك أن الفيروس قد وجه للرأسمالية ضربة قاتلة، وأثار الشيوعية المظلمة. حتى أنه يعتقد أن الفيروس يمكن أن يسقط النظام الصيني. إنّ جيجك مخطئ، لن يحدث أي من ذلك إطلاقا. ستتمكن الصين الآن من بيع “دولة الشرطة الرقمية ” digital police state كنموذج ناجح ضد الوباء. ستعرض الصين تفوّق نظامها بفخر أكبر. وبعد الوباء، ستستمر الرأسمالية بقوة أكبر. وسيستمر السياح في دوس هذا الكوكب.

 لا يمكن للفيروس أن يستبدل العقل، من الممكن أن تصل إلينا حتى دولة الشرطة الرقمية على الطريقة الصينية في الغرب. كما قالت نعومي كلاين، فإن الضجة هي لحظة مواتية تسمح بإنشاء نظام حكم جديد. غالبًا ما سبقت إقامة النيوليبرالية أزمات تسببت في الصدمات. هذا ما حدث في كوريا أو في اليونان. نأمل، بعد الصدمة التي سببها هذا الفيروس، ألا يصل نظام شرطة رقمي مثل الصينيين إلى أوروبا. إذا حدث ذلك، كما يخشى جورجيو أغامبين، ستصبح الحالة الاستثنائية هي الوضع الطبيعي. عندها سيكون الفيروس قد حقق ما لم يحققه حتى إرهاب داعش.

 “إن الفيروس لن يهزم الرأسمالية، لن تحدث الثورة الفايروسيّة، لا يوجد فايروس قادر على إحداث ثورة !  الفايروس يعزلنا ويميّزنا، فقط، لكنه غير قادرٍ على توليد شعور جماعيّ قوي. بطريقة ما، كلٌ منّا يهتم ببقائه فقط. إن التضامن الذي ينبني على ابتعادنا عن بعضنا البعض ليس تضامنًا يتيح لنا أن نحلم بمجتمع مختلف وأكثر سلامًا وعدالة. لا يمكننا ترك الثورة في أيدي الفيروس. فلنأمل أن تأتي وراء الفيروس ثورة بشرية بأيدينا.

 نحن، البشرية وُهبنا العقل، نحن الذين يتعين عليهم إعادة التفكير في الرأسمالية المدمرة وتقييدها بشكل جذري، وكذلك حركتنا غير المحدودة والمدمرة، لإنقاذ أنفسنا، لإنقاذ المناخ وكوكبنا الجميل”.

الهوامش

* بيونغ تشول هان (من مواليد 1959) فيلسوف ألماني مولود في كوريا الجنوبية، مُنظّر ثقافي، وأستاذ في جامعة برلين للآداب، حيث ‏يشكّل الفيلسوف بيونغ-تشول هان توجهًا فلسفيًا مؤثرًا داخل المشهد الثقافي الراهن، ويمكن النظر إليه بوصفه امتدادًا لمدرسة فرانكفورت، لكنه يتميز عن روّاد المدرسة النقدية بأن كتاباته لا تنحو نحوًا أيديولوجيًا خالصًا؛ بل تقدم وصفًا دقيقًا لطبيعة الحياة الراهنة والتوقعات المستقبلية لها من أشهرها “طوبولوجيا العنف”، “وما هي السلطة؟”، “مجتمع الشفافية” و”مجتمع الإرهاق”.

**  المقال منشور بصحيفة ElPAIS  بتاريخ 22 مارس 2020م

***  كتاب مجتمع التعب the Burnout society

ترجمته عن الإسبانيّة: عائشة نجّار (باحثة دكتوراه في علم الإجتماع)

كاتب

الصورة الافتراضية
SuperBlueDOT
المقالات: 0

اترك ردّاً