قنديل أم هاشم ومعضلة البحث العلمي في الجزائر.

إهداء: إلى نديمي وصديقي أستاذ اللغة الإسبانية، قارئي الوحيد إن اعتبرنا إجباره على الإنصات لي وأنا أقرأ له ما كتبت في المقهى يدخل ضمن أنواع القراءة!

عزيزي حميد، سنرجع يوماً إلى مقهانا.

عزيزي حميد،

لو لم تكن سمعت (كعادتك طبعاً) بالمجموعة القصصية “قنديل أم هاشم” للعبقري يحيى حقي، فأرجو أن تجلس بجانبي ولا بأس قبل ذلك أن تعد لي فنجاناً طيباً من القهوة حتى أركز في القصة وأنسى خيبتي الأدبية فيك!

صدرت قصة «قنديل أم هاشم» للأديب المصري الكبير يحيي حقي (1905- 1992م)  في الأربعينيات من القرن الماضي؛ وككل عمل جيد -توفر في إعداده الإتقان والإخلاص- فإن هذه التحفة لم تتأثر بقوانين الزمن، فلم تخضع للتقادم ولم تُحل على المعاش بتوالي السنوات. ولا تعتبرني مبالغاً (تحت تأثير القهوة) إن قلت لك أنني أعتبرها إحدى أفضل ما تم إنتاجه أدبيًا في القرن الماضي.

تدور أحداث هذه القصة حول الشاب (إسماعيل) الذي استوطن أبوه -التاجر الحاج رجب- حي السيدة زينب الشعبي بالقاهرة، وجعله نبوغ ولده إسماعيل ونجابته في الدراسة يحلم أن يغدو هذا الأخير طبيباً شهيرًا، لكن ابنه الذي عوّده على التفوق في سنوات الدراسة لم يوفّق في الحصول على مجموع كبير يؤهله لدخول كلية الطب، ولم يجد الحاج رجب بدّاً من أن يضحي بقوت العائلة ورفاهيتها، فيبيع ما فوقه وما تحته ليرسله إلى أوروبا كي يدرس الطب هناك.

 ويرحل الابن إلى إنجلترا ليعيش هناك سبع سنوات، ويمهر في جراحة العيون لدرجة ينال بها إعجاب أساتذته، فيقول له أحدهم ممازحا:

أراهن أن روح طبيب كاهن من الفراعنة قد تقمصت فيك يا مستر إسماعيل. إن بلادك في حاجة إليك، فهي بلد العميان!”

ويعود الابن حاملاً شهادته وحلمه بأن يغدو طبيباً يُشار إليه، وقد تبدلت نظرته للحياة، وتزعزع إيمانه وصار لا يؤمن إلا بالعلم، فيصدمه مجتمعه المتخلّف الذي لا يزال غارقاً في الجهل والخرافة، ويكره رضاه وسذاجته واستسلامه للعادات والتقاليد المتخلفة.

أشرف على الميدان فإذا به يموج كدأبه بخلق غفير، ضربت عليهم المسكنة، وثقلت بأقدامهم قيود الذل. ليست هذه كائنات حية تعيش في عصر تحرك فيه الجماد. هذه الجموع آثار خاوية محطمة كأعقاب الأعمدة الخربة، ليس لها ما تفعله إلا أن تعثر بها أقدام السائر

ويغضب كثيرًا ؛ لأن الجهل والخرافة قد امتد ليطول ابنة عمه ومخطوبته (فاطمة النبويّة)، حين يرى أمه تضع قطرات من زيت قنديل أم هاشم على عينها الرمداء، معتقدة كغيرها أنه قادر على شفائها؛ باعتباره الزيت المبارك المأخوذ من مقام السيدة زينب، وعندها يثور الشاب، ويحاول تحطيم قنديل أم هاشم، لكنه يصطدم بالجماهير التي تضربه ضربًا عنيفًا يكاد يفقده حياته.

مشهد من فيلم عن الرواية يعكس صدمة إسماعليل غداة رجوعه من ألمانيا.

ومرت أيام كثيرة وإسماعيل لا يغادر الفراش. ركبه العناد، فأدار وجهه للجدار لا يكلم أحداً ولا يطلب شيئاً. ولما أفاق قليلاً بدأ يفكر: هل يعود إلى أوروبا ليعيش وسط أناس يفهمون الحياة؟ إن الجامعة عرضت عليه منصب أستاذ مساعد فرفضه بغباوة، ولعلهم يقبلونه الآن إذا طلب. ولم لا يتزوج هناك، ويبني لنفسه أسرة جديدة بعيدا عن هذا الوطن المنكود؟!

لكنه ككل أبطال القصص لا يستسلم، فيقرر علاج فاطمة كما يقتضيه علمه وطبّه، أليس هو الذي عالج في أوروبا أكثر من مئة حالة مثلها، فلم يخنه التوفيق في واحدة، فلماذا لا ينجح مع فاطمة أيضًا؟ لكنه يفشل، بل ويسبب لها العمى التام.

لماذا خاب؟ لقد عاد من أوروبا بجعبة كبيرة محشوة بالعلم، عندما يتطلع فيها الآن يجدها فارغة، ليس لديها على سؤاله جواب. هي أمامه خرساء ضئيلة، ومع خفتها فقد رآها ثقلت في يده فجأة.

من هول الصدمة، يهرب إسماعيل من داره وحيّه، فكيف يستطيع النظر في وجه فاطمة وعماها دليل عماه، ويعيش فترة متأملًا متفكرًا، ثم يقوده التفكير إلى التصالح مع طبيعة شعبه الخالدة التي لا تتغير رغم مرور الكثير من الغزاة عليه، ويعود إليه إيمانه، ويتزايد إعجابه بهذا الشعب العجيب.

وهكذا يظل واقفا في الميدان، ساعات طويلة، سارح الذهن، شارد اللب، تتسرب إلى أذنه النداءات القديمة. هي هي لم تتغير. ماذا؟ لعل كل والد أورث ابنه مهنته وصوته وموضعه في الميدان! مساكين! كل من خدمهم منّ عليهم واستعجلهم الجزاء أضعافا مضاعفة. لم يخدمهم أحد لله أو حبا فيهم، ومع ذلك جروا وراء كل من توهموا فيه الخلاص وتشبثوا بأذياله، ورفضوا أن يرو ضعفه أو خيانته. هذا شعب شاخ فارتد إلى طفولته.

هكذا يقرر إسماعيل مسايرة قومه ويطلب كمية من زيت قنديل أم هاشم لعلاج فاطمة، التي سرعان ما شفيت!

“وخرج إسماعيل من الجامع وبيده الزجاجة وهو يقول في نفسه للميدان وأهله:

تعالوا جميعا إلي! فيكم من آذاني، ومن كذب علي، ومن غشني، ولكني رغم هذا لا يزال في قلبي مكان لقذارتكم وجهلكم وانحطاطكم، فأنتم مني وأنا منكم. تعالي يا فاطمة! لا تيأسي من الشفاء. لقد جئتك ببركة أم هاشم! ستجلي عنك الداء، وتزيح الأذى، وترد إليك بصرك فإذا هو حديد. وشد ضفيرتها واستمر يقول: وفوق ذلك، سأعلمك كيف تأكلين وتشربين، وكيف تجلسين وتلبسين، سأجعلك من بني آدم”

في النهاية، يعود إسماعيل لممارسة الطب، ويفتتح عيادة في حي البغالة بجوار التلال خصصها لعلاج الفقراء والفلاحين، في منزل قد يصلح لكل شيء ما عدا استقبال مرضى العيون.

“كم من عمليةٍ شاقة نجحت على يديه بوسائل لو رآها طبيب أوروبا لشهق عجبًا”

وتزوج إسماعيل فاطمة وأنسلها خمسة بنين وست بنات، كان في آخر أيامه كما وصفه يحي حقي:

“ضخم الجثة أكرش أكولاً نهمًا، كثير الضحك والمرح، ملابسه مهملة، تتبعثر على أكمامه وبنطولنه آثار رماد سجائره التي لا ينفك يشعل جديدة من منتهية..

إلى الآن، يذكره أهل حي السيدة بالجميل والخير، ثم يسألون الله له المغفرة”

إلى الآن، يذكره أهل حي السيدة بالجميل والخير، ثم يسألون الله له المغفرة

تسألني يا حميد: ما علاقة هذا بالبحث العلمي في وطننا المنكود هو الآخر؟!

أراك مستعجلا مرتبكاً لا تفتأ تتفقد هاتفك، هذا ما أسميه (تأثير أم العيال)، أنصحك بطلب فنجان قهوة آخر؛ فالمهم لم يأت بعد.

تعلم يا حميد أن عملي في الجامعة أتاح لي التعرف عن قرب إلى أولئك المحظوظين، الذين قضوا جزءًا مهمًا من حياتهم يدرسون في الجامعات الغربية، وحتى اليوم أنظر مبهوراً لكل وافد بشهادة من وراء البحار؛ باعتباره شخصاً خارقًا تلقّى أسرار الكهنوت من كاهنة المعبد شخصياً! (طبعاً ليس كل عائد من وراء البحار ملوحا بشهادته، يستحق انبهاري، فهناك من -ولا مؤاخذة- اشتراها كما تشترى الأنعام بأموال أبيه لزوم المكانة الاجتماعية كما تعلم، وجلستنا هذه جلسة محترمة فدعنا لا نلوثها بذكر هذه الأقدام السوداء).

دعني بدل ذلك أحكي لك عمن يستحق الذكر، عن أستاذ الفيزياء النظرية، الذي عاد من إيطاليا وفي ذهنه بناء مدرسة جزائرية في الفيزياء يكون لها مكانها في حوض المتوسط كبداية على الأقل، فانتهى به المطاف يبحث عن مكتب، وحين حصل على واحد لم يحصل على طلبة لأن سمعة الرجل السيئة -من حيث الالتزام بالبحث الجاد- جعلت الطلبة (وحتى الزملاء) يفرّون منه فرارهم من المجذوم ويرون فيه مدّع نبوة بعد أن ولّى زمن النبوات.

 هل أخبرتك عن صديقي أستاذ الرياضيات، الذي عاد من فرنسا وفي جيبه بدل الشهادة شهادتان، صديقي هذا يا حميد حجة في الرياضيات وفي الحروب (أتعلم أنه في بداية عودته خاض حرباً من أجل التوظيف، ثم حرباً من أجل السكن، وحالياً يخوض حروباً من أجل كرامة الأستاذ وتجديد مناهج التدريس بما يتماشى مع واقعنا وتطلعات بلدنا؟!).

وغيرهم يا حميد الكثير الكثير، منهم من قضى نحبه العلمي مستسلمًا كما فعل إسماعيل من قبل، ومنهم من لا يزال متشبثاً بقشة الغريق، علّ وعسى يأتي يوم نتمكن فيه من هدم معبد أم هاشم.

كنت ولا أزال يا حميد، أرى أن مشكلة جامعاتنا ليست قلة البحوث بل نوعيتها، وليس أن ننشر بل أين ننشر؟ كنت ولا أزال، أرى أن نشر المقال هو بداية القصة وليس نهايتها؛ لهذا سئمت الذهاب للجامعة كي أرى أرواح من ذكرتُ لك من العائدين تذوي من مرارة الاختلاف، وكأنه قد كتبت عليهم الغربة، فإن لم تكن بسبب الجغرافيا فهي بين أظهر قومهم لأنهم لم يستسيغوا زيت أم هاشم ولم يرضوا أن يصيروا كالآخرين.

هل عرفت الآن علاقة القصة بواقعنا العلمي المرير، فبركة زيت أم هاشم قد غشيت كل العيون، وساد الخطأ لدرجة أن كل من تسول له نفسه يستطيع نيل شهادة الدكتوراه، وشروط مناقشة هذه الأخيرة تصير أسهل يوماً بعد يوم؛ لأن وزارتنا -حفظها الله- تحب الأرقام، إن هي إلا مسرحية يدعى إليها الأحباب والأصحاب شعارها:

من حكّ لي فله أحُكّ وهكذا === تُجنى الشهادة أيها الجهال!

ثم ترتفع الأقداح والأنخاب، والمفارقة أن الجميع راض والجميع سعيد، لدرجة أن أحد الوزراء قد صرح أننا لا نحتاج لجوائز نوبل، أو ليس (وليسامحنا المتنبي):

قواصد أم هاشم توارِك غيرها === ومن قصد البحر استقل السواقيا

لقد أطلت عليك يا حميد، لنأمل أن يأتي اليوم الذي نمسح غشاوة زيت البترول عن أعيننا، وأن نخط مستقبلنا بمسطرة البحث العلمي الجاد والصارم، بدل التهريج وبدل بركة أم هاشم، كما آمل أن يكون حسابك هيّنًا مع أم العيال على تأخرك اليوم.                                                           

تدقيق: آية الشاعر

كاتب

الصورة الافتراضية
Zinelaabidine Latreuch
المقالات: 0

تعليق واحد

  1. السلام
    صحيح ان واقع العلم في بلادنا أصبح في الحضيض، لكن هناك دائما أمل فعند قراءة مقالك استطيع سماع صداه وعند موافقة زملائك ( ولو كانو قلة ) استطيع رؤية شعاعه.
    هدا الأمل الدي يجب علينا التمسك به لكيلا نضيع.
    في انتظار مقالات اخرى تقبل أخي الصغير أطيب التحيات.

اترك ردّاً