الرافعي: من الشعر حتى النقد.

أنا لا أعبأ بالمظاهر والأعراض التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر، والقِبْلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكِّن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا لا أمسُّ من الآداب كلها إلا نواحيها العليا. (١)

مصطفى صادق الرافعي (١٨٨٠م-١٩٣٧م). هو أحد الأدباء الذين أدركوا قيمة الرسالة الموكلة إليهم، وعرفوا واجباتهم كما فهموا حقوقهم، ورسموا لهم هدفاً عازمين ألا يحيدوا عنه رغم وعورة الطريق.
لم تكن حياة الرافعي حياة شخص واحد، وإنما كانت حيوات كثيرة بينها الاختلاف والتوافق، التجاذب والتنافر، التحدي والتسليم، وفيه اجتمعت حياة شاعر وكاتب ومؤرخ وناقد.
هو سوري الأصل، مصري المولد، إسلاميّ الوطن والانتماء. ولد في يناير عام ١٨٨٠م في مدينة طنطا بمصر.
كان والده (عبد الرازق) رئيساً لمحكمة طنطا الشرعية؛ فنشأ في أسرة متدينة تحب العلم والثقافة وتلّقى تعاليم الدين فيها حتى بلغ العاشرة، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية ونال الشهادة وعمره سبع عشرة سنة أو أقل بقليل. وفي تلك السنة أصابه مرض التيفوئيد، وألزمه أشهراً في فراشه، فأثر في أعصابه، وترك أثراً خفيفاً في صوته جعل فيه “رنيناً أشبه بصراخ الطفل”. (٢)
وفقد سمعه تدريجياً، حتى فقده تماماً في الثلاثين من عمره.
وبسبب بوادر هذه العلّة انقطع عن المدرسة، فأكب على مكتبة والده الحافلة بنوادر كتب الفقه والدين والعربية، واتخذ من الكتب مدرسة وحياة، ومن مؤلفيها مدرسين وأساتذة، وممن فيها رفقاء وخلانًا. فاستمع إلى أصواتهم، وحفظ أخبارهم وأحاديثهم.
وهكذا تهيأت له أسباب المعرفة والاطلاع، واعتاد العمق في التحليل والتخيل، وأحاط بالكثير من كتب العلم والأدب ولمّا يتجاوز العشرين من عمره.

وكان حتى وفاته، يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة لا يمل ولا يريح جسده وأعصابه… وكان إذا زاره زائر في مكتبه جلس قليلاً يحييه، ثم لا يلبث أن يتناول كتاباً مما بين يديه، ويقول لمحدثه: تعال نقرأ… وتعال نقرأ هذه معناها أن يقرأ الرافعي ويستمع الضيف، ولا يكف عن القراءة حتى يرى في عيني محدثه معنى ليس منه أن يستمر في القراءة..

وفي القهوة، وفي القطار، وفي الديوان، لا تجد الرافعي وحده إلا وفي يده كتاب.” (٣)

عمل -حتى وفاته- كاتبًا في المحكمة بمعاش زهيد لا يكاد يعينه على العيش، كتب الشعر والنثر في بعض الصحف الأدبية، وله مؤلفات مميزة جعلت الأدباء في عصره يشهدون له بالنبوغ والعبقرية.

الرافعي الشاعر:

لم يُوَّفق شاعر من شعراء العربية توفيق الرافعي في تأليف الأناشيد، ولم يُكتَب لنشيد وطني أو طائفي من الذيوع والشهرة والانسجام مع الألحان ما كُتب لأناشيد الرافعي، فهو بذلك خليق أن نسميه «شاعر الأناشيد. (٤)

بدأ الرافعي يكتب الشعر وينشره في المجلات الأدبية، ولم يتجاوز العشرين، ثم نشر أول ديوان له عام ١٩٠٣م وعمره ثلاثة وعشرين عاماً.
تناولت الصحف والمجلات ديوانه الأول بالنقد والتقريظ. وفي ١٩٠٤م نشر الجزء الثاني، ثم الثالث عام ١٩٠٦م.

وفي عام ١٩٠٨م أصدر الجزء الأول من ديوان “النظرات” وقدم له بمقدمة بليغة أراد فيها منافسة الشاعر حافظ إبراهيم في مقدمة ديوانه، فتألق نجمه ولمع اسمه بين شعراء عصره، ونال تقدير الأدباء وثناءهم، فتنبأ له الزعيم المصري مصطفى كامل باشا بأنه:

سيأتي يوم إذا ذُكر الرافعي، قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب في البيان.
كما كتب الكثير من الأناشيد التي لاقت إقبالاً وتركت صدى، مثل “اسلمي يا مصر”، والنشيد الوطني المصري “إلى العلا”، والنشيد الوطني التونسي “حماة الحمى”.
وظل على مذهبه في الشعر حتى عام ١٩١١م، ولعله شعر وقتها أنه حقق غايته التي كان يرجوها، أو تنبه لرسالة يجب أن يؤديها في مجال النثر، فولى وجهه شطر الأدب، مع كتابته المتقطعة للشعر.

أما هو فيعزي سبب هذا التحول أنه كان يرى في الشعر قيوداً تمنعه من البوح بكل العواطف المضمرة في نفسه، فيقول:

ومن نكد الشعر العربي أنه لا يتسع لبسط المعاني فإذا بسطتَ المعاني فيه وشرحت؛ سقطَت مرتبته من الشعر وأصبح نظمًا كنظم المتون في الأكثر وهذا هو ما صرفني من الأول إلى الكتابة ووَضعِ حديث القمر
والمساكين وغيرهما، فإن هذه الكتب هي شعر ولكنه في غير الظروف الموزونة. (٥)

الرافعي الكاتب:

لم تكن الكتابة عند الرافعي فكرة ومعنى فحسب، بل كانت فناً وأسلوباً وصناعة، والأدب العربي منذ كان إلى أن يُطوى تاريخه بين دفتين، هو فكر وبيان، لا بد من اجتماع هاتين المزيتين فيه ليكون أدباً يستحق الخلود. (٦)

أراد الرافعي دوماً النهوض باللغة وتنشئة أجيال تفهم مكانتها وتعي أهميتها، فكان يرى اللغة أساس الدين والهوية والوطنية أيضاً، فلا نهوض لهذه إلا بتلك؛ لذلك أخذ يقرأ في كتب الأدب التي كتبها العظماء في عصور العربية المزدهرة، وكان يبحث دوماً عن “التعبير الجميل، والعبارة المنتقاة، واللفظ الجزل، والكلمة النادرة، فيضيفها إلى قاموسه المجيد ومعجمه الوافي، لتكون له عوناً على ما ينشئ من الأدب الجديد الذي يريد أن يحتذيه أدباء العربية”. (٧)
وكان يرى الكتابة تصوير للحياة وحقائقها بأسلوب أدق وأوفى: “فالكاتب الحق لا يكتب ليكتب، ولكنه أداة في يد القوة المصوِّرة لهذا الوجود، تصور به شيئاً من أعمالها فناً من التصوير.” (٨)

أول كتبه النثرية هو “تاريخ آداب العرب”، وكان استجابة لمسابقة أعلنتها الجامعة المصرية لتأليف كتاب في أدبيات اللغة العربية، وقد أعلنت الجامعة عن المسابقة بعد أن كتب الرافعي مقالات ينتقد ضعف منهجها في الأدب، وعدم استحداثها شيئاً ذا قيمة يضاف إليه، وقلة كفاءة مدرّسيها في هذا المجال.
أتم الرافعي تأليف الكتاب عام ١٩١١م، وقام بطبعه على نفقته قبل أن ينتهي موعد المسابقة، وتم تدريسه في الجامعة لاحقاً.
لاقى هذا الكتاب استحساناً كبيراً، وكان الكثير من الأدباء لا يعترفون بفضل الرافعي على العربية إلا به. ثم أصدر الرافعي الجزء الثاني منه بعنوان: إعجاز القرآن، وأتم معظم الجزء الثالث “أسرار الإعجاز” لولا أن أدركته يد المنون قبل إتمامه ونشره.
أنشأ سلسلة من الكتب شكلت وحدة متكاملة من فلسفة الحب والجمال، وهي: حديث القمر، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد. وفيها وضع مذهباً جديداً في الأدب لم تعرفه العربية من قبل، وهي عبارة عن نثر شعريّ أو شعرٍ منثور في لوحات فنية عامرة بالأساليب البليغة والألفاظ الجزلة، ثرية بالصناعة البيانية.
وهذه الكتب الأربعة رآها فريق من القراء غامضة مبهمة، ووجدها فريق آخر زاداً للقلب ورواءً للروح.
ومن كتبه النثرية أيضاً (كتاب المساكين) الذي كتبه عام ١٩١٧م متأثراً بأهوال الحرب العالمية وما خلّفته من فقر وبؤس، وقال عنه الأديب والمحقّق أحمد باشا: “لقد جعلتَ لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وهيجو كما للفرنسيين هيجو، وجوته كما للألمان جوته”.
وكتب في النقد أيضاً: (على السفود)، و(تحت راية القرآن)، وسيتم الحديث عنهما لاحقاً.
أما وحي القلم، فهو آخر كتبه المنشورة ومن أكثرها شهرة ويضم معظم مقالات الرافعي التي كان ينشرها في الصحف، وفيه بعض القصص التي برع فيها وأبدع في تخيل العصور الماضية وإنشاء شخصياته فيها، حتى لتحسب القصة صحيحة تماماً لا شك فيها، واستخدم شخصيات تاريخية معروفة وأجرى على لسانها أحاديثاً وأسماراً ماتعة، ووُفق في توظيف التاريخ بشكل إيجابي في معالجة قضايا المجتمع وتربيته.

الرافعي الناقد:

لقد كان ناقداً عنيفاً حديد اللسان، لا يعرف المداراة ولا يصطنع الأدب في نضال خصومه. وكانت فيه غيرة واعتداد بالنفس، وكان فيه حرص على اللغة “من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيء قائم کالأساس والبناء: لا منفعة فيهما معا إلا بقيامهما معا”. (٩)

أنشأ الرافعي أول مقالة في النقد عام ١٩٠٥م، وكانت عن الشعراء في عصره، فقام بتصنيفهم في أربع طبقات وجعل نفسه رابع شعراء الطبقة الأولى بعد: البارودي، وحافظ إبراهيم، والكاظمي. وتناول شعر كل واحد منهم بالنقد أو الثناء، وكان في مقالته “شيئاً من أخلاق الرافعي المزهو بنفسه، المعتد بعلمه، القوي بإيمانه، المتفحم على مواطن الهلاك..” (١٠)
وأخفى اسمه حذر التهمة؛ فنشرتها مجلة “الثريا” ودعت الشعراء والأدباء إلى الرد على مقالة هذا المغرور المجهول، قائلة:
ومن لم يَذُد عن حوضه بسلاحه..
يُهدم، ومن لا يظلم الناس يُظلم!
وكان الرافعي يهدف إلى إبراز اسمه بين الشعراء الفحول، والدعاية والشهرة لنفسه التي يراها لا تقل عنهم إبداعاً وتميزاً.
ثم كانت له صولات وجولات أدبية في النقد مع العديد من الأدباء مثل المنفلوطي، وزكي مبارك، وعبد الله عفيفي، لكن أشهر معاركه الأدبية وأكثرها ضراوة كانت مع الأديبين البارزَين: طه حسين، وعباس العقاد، وقد بقي التاريخ والأدب شاهدين على هذه المعارك!
أما طه حسين، فقد كان من محرري جريدة السياسة الأسبوعية، وقد تبنت مجلته رأياً جديداً في اللغة والدين، وكتب الرافعي كلمات يخاطب بها طه حسين في ظاهرها المدح، وفي باطنها الذم وعاب عليه ضيق الفكرة، والتكرار في الأسلوب؛ ونشرها طه حسين في مجلته دون أن يعي قصد كاتبها، وحين تنبه لذلك، أسرها في نفسه، وتلك كانت الشرارة الأولى للحرب.
وحين نشر الرافعي كتاب حديث القمر عام ١٩١٢م، كتب طه حسين مقالاً ينتقده ويقول أنه لم يفهمه، وذكر كتاب الرافعي “تاريخ آداب العرب” وأشهد الله أنه لم يفهمه أيضاً!
وحين زاره الرافعي في مكتبه بالجريدة رد عليه قائلاً: الذي لا تفهمه أنت يفهمه سواك، وإن الله خلق رؤوسا غير رأسك وعقولا غير عقلك ، وإنه ليس من أحد يعترف أنك مقياس العقل الإنساني في الأرض. (١١)
وحين انتقد طه حسين كتاب رسائل الأحزان الذي أهداه الرافعي لجريدة السياسة عام ١٩٢٤م، تم إعلان الحرب بينهما!
فألقى الرافعي قذيفته الأولى، ونشر مقالاً يرد على طه حسين، بدأه قائلاً: إلى الأستاذ الفهامة الدكتور طه حسين، يسلم عليك المتبني ويقول لك: وكم من عائب قولًا صحيحًا.. وآفته من الفهم السقيم!
(١٢)

وكان مما كتبه طه حسين في رسائل الأحزان: «كل جملة من جمل الكتاب تبعث في نفسي شعورًا قويًّا أن الكاتب يلدها ولادة، وهو يقاسي في هذه الولادة ما تقاسيه الأم من الآم الوضع»
فرد عليه الرافعي:
لقد كتبتُ رسائل الأحزان في ستة وعشرين يومًا، فاكتب أنت مثلها في ستة وعشرين شهرًا، وأنت فارغ لهذا العمل وأنا مشغول بأعمال كثيرة لا تَدَعُ لي من النشاط ولا في الوقت إلا قليلًا، وها أنا أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها، وإن لم يكن الأمر عندك في هذا الأسلوب الشاق عليك إلا ولادة وآلامًا من آلام الوضع كما تقول، فعليَّ نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة الله، وإني لأتحداك وأنا أَخْبَر الناس بما تطيق وما لا تطيق، وسبحان من خلق النسر خلقة والديك الرومي خلقة أخرى! (١٣)

وفي عام ١٩٢٥م، صار طه حسين أستاذ الأدب العربي في الجامعة المصرية، وجمع محاضراته التي ألقاها في الشعر الجاهلي، وكان قد طرح آراءه التي عارض فيها الثوابت الدينية وخالف المألوف والمعروف، وأصدرها في كتاب بعنوان “في الشعر الجاهلي“.
أثار الكتاب ضجة كبيرة، وهبّ الكثير من الأدباء والكتّاب للرد عليه ودحض آرائه، وجاءت مقالات الرافعي مترادفة “ثائرة مهتاجة تفور بالغيظ وبالحمية الدينية وبالعصبية للإسلام والعرب، كأن فيها معنى الدم!”. (١٤)
ثم جمع الرافعي مقالاته في المعركة بين القديم والجديد، من سنة ١٩٠٨-١٩٢٦م في كتاب أطلق عليه: تحت راية القرآن: المعركة بين القديم والجديد.
ورغم حدة الخصومة والمعارك التي قامت بينهما، فقد سجل كل واحد منهما في إحدى كتبه أو بعضها مدحاً للآخر، فقد عاد طه حسين، وصحح رأيه في كتاب” تاريخ آداب العرب” عام ١٩٢٦م، فاعترف أنه لم يعجبه أحد ممن ألفوا في الأدب باستثناء الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، فأثنى عليه بقوله: “فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلى القدماء كما فطن لأشياء أخرى قيّمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه تاريخ آداب العرب“. (١٥)
وقال الرافعي وهو يرد على نقد طه لكتاب رسائل الأحزان: “أنا لا أقول: إن الأستاذ طه ليس شيئًا في فضله وأدبه وعلمه، بل هو عندي أشياء كثيرة، بل هو مكتبة تنطق كتبها…” (١٦)
وبناء على ما سبق فقد يظن القارئ أن الرافعي كان يدعو إلى الجمود في اللغة وآدابها والاقتصار على لغة القدماء، لكن الحقيقة أنه كان يدعو دوماً لاستحداث آداب جديدة تضاف للغة ولا تنقص منها، تقوّيها ولا تضعفها، فهو:
لم يكن يعني لحملته أن يناهض كل جديد، بل كانت غايته أن يرد إلى الأفواه كل لسان يحاول بدعوى الجديد، أن ينتقص من القيم ليخلص من ذلك إلى النيل من لغة القرآن والحديث، ومن تراث أدباء العربية الأولين“. (١٧)

معارك الرافعي مع العقاد

إن معركة تدور رحاها بين العقاد والرافعي جديرة بأن يحتفل لها الأدباء، وأن تنال من اهتمامهم أوفى نصيب، وإن لهم فيها لمتاعاً ولذة وفائدة! (١٨)

لا عجب أن تتقلب العلاقات بين البشر وتتبدل مشاعرهم، لكن أكثرها دهشة ما كان بين الرافعي وعباس العقاد اللذين لم يكن بينهما إلا الصفاء والود، حتى أن العقاد كتب عام ١٩١٧م، وهو يعرّف بكتاب أنشأه الرافعي: “… إنه ليتفق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما لا يتفق مثله لكاتب من كتّاب العربية في صدر أيامها!”
هو العقاد نفسه الذي كتب عام ١٩٣٣م مقالاً يصف فيه الرافعي بأنه المهذار الأصم.
الشرارة الأولى لبدء الحرب، كانت بعد صدور الطبعة الثالثة لكتاب إعجاز القرآن للرافعي عام ١٩٢٦م، والتي طبعها الملك فؤاد على نفقته، ونُشر فيها تقريظ سعد باشا زغلول الذي مدح الكتاب قائلاً:

كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم.

وكان العقاد -حسب قول الرافعي- يرى أن له منزلة عند سعد لا يملكها أحد من الأدباء، وفي حديثه إلى الرافعي اتهمه بتزوير رأي سعد في كتابه، وتجادل الاثنان حول الكتاب وموضوعه، واحتد النقاش بينهما.
ثم نشر العقاد مقالاً ينتقد فيها الكتاب ومؤلفه، وسخر من أسلوبه وفكره، فردّ الرافعي بمقال حاد يبين خطأ العقاد وضعف فهمه، لكن مجلة (البلاغ) لم تنشر رده لأن العقاد كان يملك التصرف فيها، فترك الرافعي النشر فيها مغاضباً.
ثم كتب مقالات متتالية -اقترحها عليه صديقه إسماعيل مظهر صاحب مجلة “العصور”- هاجم فيها شعر العقاد بحدة وازدرى فيها أدبه وفكره، ثم جُمعت لاحقاً في كتاب بعنوان على السَّفود عام ١٩٣٠م، وبقي اسم مؤلفه مجهولاً عند القرّاء لسنوات عديدة، ومختفياً خلف لقب “إمام من أئمة الأدب العربي”، فالعقاد حسب مذهبه السياسي له شعبية واسعة عند قرائه، ومن يعادي كاتباً وطنياً فهو عدو الشعب الذي يحكم على الأديب من مذهبه السياسي.
ورغم أن هذه المقالات في النقد لم ينشأ مثلها في الأدب الحديث، إلا أن ما فيها من مر الهجاء والافتقار للتهذيب طمس على قيمتها الجمالية والفنية.
بعد وفاة الشاعر أحمد شوقي عام ١٩٣٢م، كتب الرافعي مقالة بليغة تحدث فيها عن أدب شوقي وفنه، وعبقريته، وذكر بعض الغلطات في النحو أو اللغة الواردة في أحد أبياته، ورغم عداوة العقاد لشوقي إلا أنه انتهز الفرصة للنيل من غريمه الرافعي، فرد بمقال يدافع فيها عن تلك الغلطات، ويبين وجوه صحتها عند العرب، وكتب الرافعي يُصرّ على تخطئة العقاد والمتأخرين من علماء النحو أيضاً!
بعد أشهر قليلة أصدر العقاد ديوانه وحي الأربعين، فنشر الرافعي “نقداً مراً حامياً اجتمع فيه فنه، وثورة نفسه، وحدة طبعه”… وكانت “هذه المقالة هي خير ما كتب الرافعي في نقد الشعر، وأقربها إلى المثال الصحيح لولا هفوات قليلة يعفيها من تبعته أنه إنسان! (١٩).

رد عليها العقاد بمقالة “أصنام الأدب” ونعته بالمهذار الأصم، وغلب عليها السباب والشتيمة مع قلة التبرير والرد، وأدار العقاد المعركة من أدبية إلى سياسية
فاتهم الرافعي في “وطنيته” لأنه يعادي كاتباً وطنياً يدافع بقلمه عن الشعب ضد الحكومة المتسلطة!
“إن للعقاد مفاجآت عجيبة في النقد، تمثل العقاد الكاتب المرن المحتال في أساليب السياسة، أكثر مما تمثله ناقداً محيطاً يدفع الرأي والرأي والبرهان بالبرهان! (٢٠)
خسر الرافعي الكثير من قرّاء العقاد الذين كانوا على مذهبه السياسي، وكسب تأييد آخرين الذين رأوا في العقاد شخصاً مغروراً يستحق التأديب.
ومات الرافعي ولا زال العداء مشهراً بينهما، ولعل الموت تكفل بإزالة الحقد والغضب بينهما، فقد كتب العقاد بعد ثلاث سنوات من وفاة الرافعي: «إن للرافعي أسلوباً جزلاً، وإن له من بلاغة الإنشاء ما يسلكه في الطبقة الأولى من كُتَّاب العربية المنشئين». (٢١)

توفي الرافعي في العاشر من مايو عام ١٩٣٧م، وقد فني من عمره سبعة وخمسون عاماً منها أربعة وثلاثون في خدمة العربية والدفاع عنها، وكانت وفاته مفاجئة لكل من عرفه وقابله قبل أيام صحيحاً معافى، لكنه الموت لا يعرف العليل دون السليم أو الكبير دون الصغير أو الفقير دون الغني.
ومات وعلى مكتبه قصاصات لم ترتب، وكتب لم تُطبع، ومقالات لم تُنشر.
ولسوء حظه فقد كانت السياسة تطغى على الأدب في زمنه، وكان الشعب لا يحكم على الأديب أو الشاعر إلا متأثراً بمذهبه السياسي، والرافعي لم يكن له مذهب في النقد إلا مذهبه الأدبي، ولم يحمل شهادات تمنحه منصباً علمياً مرموقاً في زمن تعد الشهادات الورقية مقياساً للعلم والأدب! فمات فقيراً بلا منصب سياسي ولا علمي، ولا معاش يكفي أبناءه العشرة من بعده، ودون أن تهتم وزارة المعارف بطبع أعماله الباقية.

الهوامش:

١. الرافعي: وحي القلم، ج٣، ص٣٢٥، مقال فلسفة القصة.

٢. محمد سعيد العريان: حياة الرافعي، ص٣٧.

٣. المصدر السابق، ص٤٠.

٤. المصدر السابق، ص١٠٣.

٥. محمود أبو رية: من رسائل الرافعي، ص١٨٠.

٦. محمد سعيد العريان: حياة الرافعي، ص٢٧٢.

٧. المصدر السابق، ص٨٩-٩٠.

٨. الرافعي، وحي القلم، ج١، ص٨.

٩. محمد سعيد العريان: حياة الرافعي، ص١٨٥

١٠. المصدر السابق، ص٧٢.

١١. ١١. الرافعي، تحت راية القرآن،ص١١١

١٢. المصدر السابق، ص١٣٣

١٣. المصدر السابق، ص١٠٩-١١٠.

١٤. محمد سعيد العريان: حياة الرافعي، ص١٩٥

١٥. طه حسين: في الشعر الجاهلي، ص٩٠-٩١

١٦. الرافعي: تحت راية القرآن، ص١١٥-١١٦.

١٧. محمد سعيد العريان: حياة الرافعي، ص٢٠٤

١٨. المصدر السابق، ص٢٥٠

١٩. المصدر السابق، ص٢٤٧.

٢٠. المصدر السابق، ص٢٤٩.

٢١. المقال الأدبي عند العقاد جمعًا ودراسة، ص٥٥..

كاتب

الصورة الافتراضية
آية الشاعر
المقالات: 5

77 تعليقات

اترك ردّاً