عندما رزقت الرياضيات بمولود جديد.

إنه لمن اللحظات المؤثرة في الرياضيات رؤية كائن رياضي جديد يبعث إلى الوجود، وجهود الرياضيين الجبارة في نضوجه حتى يقف شامخا في أرض الرياضيات، مهيئا لحل كم هائل من المشكلات، ودفع الحضارة الإنسانية خطوات إلى الأمام، ولا يقل الأمر حماسة عن من رزق بطفل حرفيا، فيما يلي نفتح ألبوم العائلة لنتذكر ولادة نوع جديد من الأعداد ساهم بشكل كبير في بناء العلم كما نعرفه اليوم.

إن من القدرات الخارقة للرياضيات قدرتها على حل المشكلات وقد كان هذا سببا قويّا لدفع الحضارات إلى دراسة الرياضيات ولسنا استثناء لهذا، فإننا نتدرب منذ المدرسة الاِبتدائية على استعمال الرياضيات لحل بعض المشاكل الحسابية، فنقوم بكتابة المشكل كتابة رياضية ليكون التعامل معه سهلا، ونرمز عادة إلى المجهول الذي نصبو إيجاده بالحرف x، ثم نقوم بحل المعادلة واستخراج قيمة المجهول. أحيانا يظهر المجهول مضروبا بنفسه، فمثلا لو كان المشكل حول المساحات وكان المجهول طول ضلع مربع ما سيظهر على شكل x2  في المعادلة ويكون إيجاده أصعب بقليل، لكن الرياضيين أوجدوا عبارة تجعل المهمة سهلة، ويكفي إدخال بعض الأعداد الخاصة بالمشكلة إلى العبارة لنحصل على الحلول.

 هندسيا هذه الحلول تمثل تقاطع الشكل المرسوم باللون الأحمر المسمى قطعا مكافئا مع المستقيم الأفقي المسمى محور الفواصل، ونلاحظ وجود حلّين 1 وسالب 2، وباِختلاف المعادلة يتغير موضع القطع المكافئ و حجمه، ويمكن أن نلاحظ أنه إذا ارتفع في الشكل المقابل كفاية، فإنه لن يتقاطع مع محور الفواصل مطلاقا، وليس هذا غريبا فليس لكل مشكلة حل بالضرورة، وإذا استعملنا العبارة التي ذكرناها سابقا في حالة كهذه فإننا نحصل على جذر تربيعي لعدد سالب، أي ما هو العدد الذي نضربه في نفسه لنحصل على عدد سالب؟ ولا وجود لعدد كهذا فالأعداد الموجبة مربعها موجب وكذلك الأعداد السالبة، إذن عدم وجود حل لمشكلة قد نواجهها في الحياة اليومية يوافقها عدم وجود لعدد مربعه سالب في الرياضيات، وهذا التوافق هو ما يجعل الرياضيات مثيرة للاهتمام ومفيدة بشكل كبير.

كل هذا كان معروفا منذ وقت طويل جدا، وهذا النوع من الرياضيات الذي ستدرسه بالمرحلة الثانوية، ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا، بما أننا نعرف حل معادلة يظهر بها المجهول مربعا (تسمى معادلة من الدرجة الثانية) فلنوجه اهتمامنا لمعادلة من الدرجة الثالثة (يظهر بها المجهول مكعبا x3).

نلاحظ أن الشكل الذي يمثله هذا النوع من المعادلات يختلف قليلا عن سابقه فمهما كان موضعه أو حجمه فإنه حتما يقطع محور الفواصل، إذن هذه المعادلات لها دائما حل، وقد نجح الرياضيون في إيجاد عبارة مماثلة لإيجاد هذه الحلول، ولكن الأمر لم يستمر على حاله لوقت طويل، فبعد بضعة أعوام واجه الرياضي رافايل بومبيلي معادلة ظهرت بها تلك الجذور السالبة مجددا، رغم إدراكه يقينا بوجود حل إلا أنه اصطدم بحائط تمنع الرياضيات تجاوزه، وبشجاعة أبطال القصص الخيالية وبخطوات حذرة تجاوز الحائط وسلك دربا لم تكن قد سلكه الرياضيات بعد، فسمح لهذا العدد الغريب الذي مربعه سالب بالوجود وحاول جعله يخضع للعمليات المعروفة كالجمع والضرب، وأثناء التلاعب في المعادلة اختفى هذا العدد فهو يظهر مرتين موجبا وسالبا فيلغي إحداهما الآخر ويظهر أخيرا الحل الذي نسعى لإيجاده، ولكن إيجاده تطلّب تعريفا ما كان غير معروفٍ والسماح لعدد غريب بالوجود.

رغم أن هذا العدد يختلف عن كل الأعداد التي عهدناها ولا يبدو معقولا للوهلة الأولى، إلا أنه مفيد في الوصول إلى ما هو معهود ومعقول، وإذا قمنا بحذر بتحديد ما يمكننا القيام به فإنه يتصرف بشكل منطقي ولا يوصلنا لأي تعارض أو تناقض، هذا هو العدد الذي نسمّيه عددا تخيليا كما سماه ديكارت ساخرا، ونرمز للعدد التخيّلي الذي مربعه سالب 1 بـ i، والأخرى مضاعفات له كـ 5i و3i، والأعداد التي تحتوي على جزء حقيقي (الأعداد الحقيقية هي الأعداد المعهودة التي مربعها ليس سالبا) إضافة إلى هذا العدد تسمى مركبة كـ 1+2i.

هذه كانت ولادة نوع جديد من الأعداد، رياضيات جديدة لم تكن معروفة، وفي الأعوام المقبلة سيتبع الرياضيون الطريق التي سلكها بومبيلي ويساهمون في جعلها أكثر سطوعا على رأسهم ريمان، وتظهر فروع متعددة ترتكز عليها أساسا كالتحليل المركب، وعلى هذا المنوال تخترع الرياضيات وتتطور.

تدقيق لغوي: عمر دريوش.

كاتب

الصورة الافتراضية
SuperBlueDOT
المقالات: 0

اترك ردّاً