رواية الطاعون: سوء قراءة “كامو” في عصر كورونا وحركة “حياة السود مهمة”


فشلت المراجعات الأخيرة المثنية على رواية “الطاعون” لسنة 1947″ في النظر في السياق الاستعماري الذي ولد فيه كامو وعاش.

الأوقات الصعبة تتطلب أدبًا عظيمًا. على الأقل، هذا ما يريدنا محررو الصحف والأدباء في العالم أن نصدقه.

منذ ظهور وباء فيروس كورونا هذا العام كأزمة عالمية، كل وسيلة إعلامية على ما يبدو في العالم نشرت مقالا تقارن فيه الوضع الحالي بما جرى في تفاصيل رواية الطاعون لألبرت كامو عام 1947، وتقدم الرواية كتوصية لفهم الوقت المضطرب الذي نعيشه.

في الشهر الماضي، أخذ “ستيف كول” دوره في صفحات نيويوركر. إلى جانب ثنائه على مقاومة كامو للاحتلال النازي لفرنسا، يصف كول “ألبرت كامو” كنموذج من العقلانية التي تبرز خلال الأزمات: “أن كتابات كامو، في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، يمكن أن تستحضر هذا الوضوح، خلال الوباء، تبدو الأخلاقيات السياسية التي تدعم التقارير الواقعية والعلوم الطبية وأنظمة الصحة العامة شيئا مذهلا.


“جعل الجزائريين غير مرئيين”

وفي ظل هذا العصر الذي تفشت فيه نظريات المؤامرة على شبكة الإنترنت، وحين يروج الرئيس الأميركي لعلوم زائفة ولزيت الثعبان من المكتب البيضاوي، فإن كول محق في الدفاع عن نموذج راسخ في المنطق. ولكن هل لا يوجد حد أكبر يتعين علينا أن نسعى إلى تحقيقه اليوم؟ هناك عامل حاسم أغفله كامو، والعديد من المعجبين به في العصر الحديث يقترحون إجابة.


والواقع أن تكريم كول، وأغلب الآخرين الذين نُشروا في الأشهر الأخيرة، لم يضعوا في اعتبارهم السياق الاستعماري الذي ولد فيه كامو وعاش، والذي شهد فيه الطاعون. من بين هؤلاء الذين أثاروا مشكلة مشروع الاِستعمار الاستيطاني الذي دام 132 عاما لم أجد سوى الروائي الجزائري كمال داود (مؤلف كتاب “تحقيق ميرسولت”، وهو الكتاب المعروف باسم “تكملة” لرواية كامو: الغريب)، والكاتب في صحيفة “لو بوان Le Point“، والفيلسوفة النسوية جاكلين روز Jacqueline Rose، كاتبة في المجلة البريطانية لمراجعة الكتب The London Review of Books (LRB).

بدخول فرنسا للجزائر تحت ستار “البعثة الحضارية” (المهمة الحضارية)، واصلت مشروعها الاستعماري بوحشية وكشفت عن أن مرتكبيها هم أي شيء عدا أن يكونوا متحضرين. واليوم، لا تزال الجزائر تناضل من أجل تجاوز تلك المأساة. وسِر في شوارع أي مدينة جزائرية وسوف ترى الشوارع التي أعيد تسميتها على شهداء حرب الاستقلال الدامية التي شهدتها البلاد. وبعد مرور ما يقرب من ستة عقود منذ نهاية تلك الحرب وتخليها عن مستعمرتها الجزائرية، ما زالت السلطات الفرنسية تتجاهل النداءات التي تطالبها بالاعتذار الرسمي.
يرى العديد من الجزائريين أن التردد لا يشكل سوى استمرارا للسياسات الاستعمارية الفرنسية التي سعت طويلاً إلى محوهم هم وأسلافهم ـ أي في جعل الجزائريين غرباء في وطنهم.

“العقلية الاستعمارية”

في أواخر الأربعينيات تجاوز الجزائريون عدد المستوطنين الأوروبيين، المعروفين باسم “الأقدام السوداء”، بمعدل ثمانية مقابل واحد. وكان ميناء وهران في غرب الجزائر مكان إنشاء الرواية، معروفاً بكبر تعداد سكانه الأوروبيين، ولكن حتى هناك واحد على الأقل من كل ثلاثة من السكان كان من أصل جزائري.

ومع ذلك، فإن ذكرهم كان غائبا تماما تقريبا في رواية الطاعون. ومن بين العشرات من الشخصيات المذكورة في الرواية، لم يكن أي من هذه الشخصيات جزائرياً. ونحن عند قراءة الرواية لا نسمع منهم أبداً ولم نسمع عنهم قط؛ قد يكون من بين الإشارات الوحيدة الدالة على الجزائري هو الحديث عن وفاة عربي مجهول الهوية على شاطئ الجزائر، وهو تلميح بسيط إلى رواية كامو التالية والأكثر مبيعاً في وقت سابق :رواية “الغريب”.

ربما لا ينبغي لنا أن نجد هذا أمرا محيراً؛ فرغم أنه خدم ككاتب في المقاومة ضد الاحتلال النازي، إلا أن كامو لم يتمكن قط من الإفلات من العقلية الاستعمارية التي ولد فيها. فقد عارض استقلال الجزائر على نحو مستمر لصالح اتخاذ نصف إجراءات رامية إلى تخفيف وطأة الظلم الاستعماري، وليس القضاء عليه. ولهذا السبب، وبرغم شخصية كامو العالمية، فإن الجزائر المستقلة لم تحتضن إرثه قط. لا توجد حتى لوحة تكريمية تزين منزل طفولته في الجزائر العاصمة.

وعندما صدر هذا التقرير في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أشيد برواية كامو باعتبارها رواية شاعرة مؤثرة للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي. وعلى نحو ما، اكتشف قِلة من القراء التناقض الحاصل: فقد كانت فرنسا تأسف لاحتلالها في الداخل، في حين ارتكبت جرماً آخر عبر البحر الأبيض المتوسط في شمال أفريقيا. ألا ينبغي لنا أن ندرك أن الرواية التي كتبها في الجزائر كانت دليلاً واضحاً؟ ولو لم يفشل كامو ذاته في تحقيق نفس القفزة الذهنية، فقد يتساءل المرء ما إذا كانت روايته لا تدين الاستعمار.

“عميان أمام الظلم”

في عالم انقلب رأساً على عقب بسبب كوفيد-19، يقترح الكتّاب رواية الطاعون كدليل للقراء القلقين و المتوترين. ولكن لعل عودة الكتاب إلى الظهور مؤخراً تكشف عن محدودية الأدب، لا عن مواطن قوته.
ولكن كيف قد يمكن لمحبي الكتب الإشادة برواية باعتبارها رواية تجسد الكرامة الإنسانية (وهو الموضوع الذي اختار كامو أن يسلط الضوء عليه في الخطوط الختامية للرواية) ـ وهو التعبير المجازي لانتصار الخير على الشر ـ في حين يظلون عميان اِتجاه الظلم الذي ترتكز عليه الرواية؟

French paratroopers board a transport plane near Algiers in 1956 (AFP)
مظليون فرنسيون أثناء صعودهم لطائرة بالقرب من الجزائر العاصمة سنة 1956

ربما يتلخص جزء من الإجابة في أن المروجين الجدد لرواية “الطاعون” يتحدثون من أبراج عاجية باسم الأدب الفرنسي، لا باسم التاريخ. ذات يوم، قال الكاتب واللغوي الجزائري مولود معمري، باعتباره واحداً من معاصري كامو: “إن الماضي يضع كل ثقله على الحاضر، وبالماضي سوف يتم تشكيل المستقبل”. وفي حين ينظر العديد من الناس إلى الرواية باعتبارها عملاً أدبياً فحسب، غير مفصول عن سياقه التاريخي، فقد تجاهل الكثيرون المشكلة الحقيقية ـ على الرغم من سنوات من البحوث الدراسية التي تنتقد تهميش و تجاهل كامو للجزائريين الأصليين، فشلت الصحافة الشعبية في تمرير هذه الانتقادات، و بدلا من ذلك قدموا تأييدا غير مشروط.

“عدم مساواة عميقة”

هل مثل هذه الضجة ضرورية حقاً؟ ألا يمكننا أن نقرأ الطاعون كرواية وبائية، دون النظر إلى الشق الاستعماري؟ حتى إذا تركنا الآثار الأخلاقية جانباً، في الحقيقة لا – ليس إذا أردنا هزيمة المرض.

لإيقاف العدوى العرقية داخل أي مجتمع – سواء كان ذلك مجتمعنا أو مجتمع كامو الجزائري الخيالي في منتصف القرن – يجب أن نفكر في جوانب العدوى وجوانب المجتمع المضيف التي تتيح انتشاره القاتل.

تخيل وهران في الأربعينيات: في مدينة ساحلية مزدحمة ، ضرب الطاعون الجزائريين والأوروبيين على حد سواء. إن مكافحة انتشاره داخل مجموعة واحدة مع تجاهل المجموعة الأخرى لن يكون مجديًا. إلى جانب التكلفة في الأرواح الجزائرية، فإن هذا النهج سيحافظ على خزان للعدوى من شأنه أن يعدي سكان أوروبا باستمرار.

لو أنها قدرت قيمة حياة الجزائريين الأصليين على قدم المساواة ، لكانت السلطات الاستعمارية للرواية قد اتبعت نهجًا أكثر شمولية لمحاربة الطاعون، ومن المرجح أن تقضي على انتشاره في وقت أقرب مع عدد أقل من الضحايا في كل مكان.

بالنظر إلى هذه المعطيات، تكشف لنا اليوم رواية كامو درسًا مهما، وإن كان يبدو أن معظم مروّجيها قد فاتهم: “لإنقاذ البعض، يجب علينا إنقاذ الجميع”. مثلما تجاهل كامو وزملاؤه المستعمرون الجزائريين أثناء الأزمة، ما الطبقة المسحوقة التي عانت طويلاً والتي فشلنا في تمييز معاناتها والعناية بها اليوم في عالمنا؟

في غضون أسابيع فقط، كشف جائحة Covid-19 عن تفاوتات عميقة بين المجموعات العرقية والإثنية والأجناس والطبقات والمهن والعديد من الانقسامات الأخرى في المجتمعات في جميع أنحاء العالم (ناهيك عن الفجوات الشاسعة بين الدول). يزداد الوعي بهذه الانقسامات، وفي بعض الأماكن، تكتسب التفاوتات اهتمامًا جديدًا في النقاش العام.

بناء “الوضع الطبيعي الجديد”

دعا البعض إلى بناء “الوضع الطبيعي الجديد” الذي يقدّر العاملين ذوي الأجور المتدنية وغير المؤمنة، ويضمن وصولاً أفضل للرعاية الصحية، ويحمي المستضعفين بشكل أفضل، ويصحح مسار الوضع العالمي الخطير ويصحح العديد من الأخطاء الأخرى التي تجاهلناها لفترة طويلة جدًا.
إنهم على حق للقيام بذلك. وعلى الرغم من كونه قاتلا، فإن Covid-19 ليس الطاعون المتخيل من رواية كامو، ولا يمكن مقارنة عالم اليوم بعالم الأربعينيات. مع مواردنا الهائلة، ومعرفتنا العلمية المحسنة والهيكلة المعلوماتية العالمية، لا نحتاج إلى اتباع نموذج ذلك العصر الذي مزقه الحرب، وضيعه انقسامه، وظلمه الشديد. لا يوجد الكثير مما يمكن الاحتفال به خلال هذه الجائحة ونحن نتجنب التأمل الذاتي الصادق الضروري للنمو والتحسين الفعلي.

ومع ذلك، في الصفحات الختامية للرواية، يحتفل المستعمرون الناجون باختفاء الطاعون – من خلال الغناء والرقص في الشوارع، حتى مع استمرار ظلم الاستعمار.
ونحن الآن مسلحين بالإدراك المتأخر، هل يمكننا أن نفعل أفضل مما كان في وقتنا الحالي؟

إن اندلاع الاحتجاجات والاضطرابات، في الأيام الأخيرة، في الولايات المتحدة الأمريكية رداً على وحشية الشرطة ضد الأمريكيين السود يشير إلى أن المجتمع، على الأقل، ليس في وضع أفضل.

مثل كامو وزملائه من “الأقدام السوداء”، تجاهلت النخبة الأمريكية (وأنا من بينهم) لفترة طويلة ألم هذه الطبقة المستضعفة في وسطهم، متجاهلين مطالباتهم للإصلاح، على الرغم من النداءات المتكررة. هنا أيضًا، تقدم قصة كامو دروسًا غير مقصودة ولكنها مفيدة.

“تمزيق أنظمة القمع”

بعد سبع سنوات من انتشار الطاعون، أطلق الجزائريون الثورة التي من شأنها إسقاط المشروع الاستعماري لفرنسا. تلك العقود من المحو والتهميش من قبل الاستعماريين كانت سبب واضحا في قيام الانتفاضة. الأقل وضوحا هو كيف أن هذا المحو نفسه مكن نجاح الثورة.

من خلال محو الجزائريين الأصليين من صورتهم الذهنية للجزائر، جعلهم المستوطنون الفرنسيون منبوذين، غير مرئيين، مما سمح للجزائريين بالتنظيم سرا. في مذكراتها “داخل معركة الجزائر “، تسلط بطلة التحرر الجزائرية زهرة ظريف الضوء على كيفية قيام الجزائريين بدراسة الفرنسية عن كثب، في حين لم يبذل الفرنسيون جهداً يذكر لفهم الثقافة الجزائرية.

“الجهل العميق والازدراء الذي احتجز فيه الفرنسيون شعبن، مكن المقاتلين الجزائريين من شن هجمات لفتت الانتباه الدولي لقضيتهم وغيرت مسار الحرب.

A crowd of Algerians celebrate independence in Algiers in 1962 (AFP)
جمع غفير لجزائريين يحتفلون بالإستقلال سنة 1962

أطاحت تلك الحرب بالعالم الذي كان يعرفه كامو وزملاؤه المستعمرون، وكل ذلك بفضل العمى والتجاهل الذي شعروا به تجاه الجزائريين ومعاناتهم. اليوم، من الحكمة ألّا يحذو الأمريكيون وغيرهم حذوهم، وبدلاً من ذلك لابد أن يحاكوا تجربة النبلاء مثل “موريس أودين” و”فرناند إيفتون” وآخرين انضموا للجزائريين في الدفاع عن قضية العدالة.

أي الاستماع إلى الأمريكيين السود وغيرهم ممن يعانون من الألم؛ للعمل لفهم معاناتهم؛ والانضمام إليهم في إصلاح أو تمزيق أنظمة القمع. هذا لا يعني القول بأنك “لا ترى قيمة لاِختلاف الألوان”، هذا مجرد شكل آخر من أشكال العمى والمحو والتهميش. بدلاً من ذلك، ابدأ بالقول بصوت عالٍ: “حياة السود مهمة”. ثم شمر عن سواعدك واعمل على تأكيد تحقق ذلك.

قبل أن يصبحوا مقاتلين من أجل الحرية بوقت طويل، وجدت “زهرة ظريف” وصديق جزائري أنفسهم في ساحة نزاع مع زملائهم في الأقدام السوداء أكثر من كامو.
في مذكراتها، تروي كيف أن الطلاب الفرنسيين روجوا لمقترحاته الضعيفة لتعديل أنظمة الوجود الاستعماري. صرخت ظريف وصديقتها: “يجب عليكم يا طلاب الأدب اختيار كاتبا مفضلا جديدا … ثم ستدركون لاحقا أنه في اللحظات التاريخية الحاسمة حقًا، أولئك الذين يقاومون أو “المتطرفون”، كما تسمونهم، هم من كانوا على حق.”

المصدر: هنا

تدقيق لغوي: عمر دريوش.

كاتب

الصورة الافتراضية
sara rezig
المقالات: 0

اترك ردّاً