أزمة الكتابة الإبداعية: مشاكل الكتابة والعملية الإبداعية والتعليمية منذ المراحل الثانوية والجامعية.

لا شك أن بعالمنا العربي أزمة واضحة  في الكتابة الإبداعية. أزمتيْ نشر وكتابة، كما أن هناك مشاكل قرّاء، وتتشابك مشاكلنا كلها بشكل يجعلنا في خطر جديد كل فترة يحتاج لمناقشته كي لا تنهار العملية الإبداعية بشكل كليّ إلى الأبد. فلنتذكر النهضة الفكرية والثقافية التي سكنت مجتمعاتنا، ولنضرب مثالاً بمصر؛ فبعد رفاعة الطهطاوي شد الولاء العديد من الشخصيات مرورًا بطه حسين وغيرهم، حتى رأينا نهضة فكرية وثقافية وتعليمية لحد كبير، فلقد تطورنا في تلك الفترة وإن لم يكن بنفس شكل دول غربية أخرى لكن نشاطاً كبيراً قد شبّ، وصل الأمر إلى بروز عشرات الأسماء من كتّاب الرواية حتى حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل فظهرت حركات أدبية عديدة. أما الآن فلا حركة أدبية، إنما ركود وقلة في الإنتاج الجيد. كما أن هناك مشاكل مسابقات وبرامج ثقافية، مشاكل نشر، ومشاكل نفسية ومجتمعية بدورها تؤثر على حركة الكتابة الإبداعية وتقلل من إمكانية بروز العديد من الأسماء بشكل متوسع، ونحن هنا نهتم بمعالجة أزمة الكتابة الإبداعية لدى الشباب في المراحل الثانوية والجامعة، حيث من هنا قد نحصل على جانب لا يناقش بشكل متوسع أحد أهم أسباب تردّي العملية الإبداعية والثقافية ومدى إرتباطها بالنهضة والسقوط في التقدم والتطور التعليمي.

قد يتعرف الشاب على القراءة في مراحل مبكرة مختلفة، لكن ذروة نشاط القراءة يكون في الفترة الثانوية، لأن مرحلة المراهقة المبكرة تتميز بنشاط مختلف الجوانب ونشوب حماس لدى الشخص، وقد يجعله هذا الحماس والاندفاع الطبيعي ينشط في هواية المطالعة إن كان لها في حيز هواياته مكان، ويستمر الأمر للجامعة باختلاف عوامل المراهقة وتأثيرها على القراءة، ثم قد يتجه الشخص لمحاولة الكتابة والتعرف على مهاراته الإبداعية في الصفوف الثانوية أو في فترة الجامعة، وهنا تكمن المشكلة، وهي إنتاج لا يعبؤ به أحد، نموذج كاتب لا يمكن تطويره بل قد يتم هدمه بشكل تام.

يرجع ذلك لعدم وجود برامج ثقافية وإبداعية حقيقة أو جانب اهتمام حقيقي بالأدب أو التفكير النقدي في عملية التعليم. يوجد لدينا مسابقات وعروض مسرحية على مستوى المدارس في الطور الثانوي، كذلك في الجامعة. لكنها غير فعالة ولا تسير على وتيرة صحيحة، حيث هي لا تنتج تطويراً أو نمواً في مهارة الطالب، ولا في عرض إنتاجه على مستوى حقيقي قد يفيده بالنقد أو بالتشجيع والتثمين اللذان يستحق، بل يقتصر الأمر على مسابقات.. ولنكن منصفين، يديرها ناس لا علاقة لهم بالقراءة ولم يفتحوا أي كتاب خارج نطاق دراستهم وعملهم، أو أنها تتم بشكل غير منصف إذ أنها بنظر المؤطرين مجرد مسابقة شكلية ولا يوجد برامج إبداعي حقيقي. تتم في أحيان نادرة بشكل منصف ولكنه غير شائع البتة، ويتجه البعض لاختيار عشوائي -هذا إن لم تتدخل فيه الرغبات الشخصية والمحسوبية، خصوصاً في الجامعة أين تمثل هذه النقطة الشائكة موضع جدل مستمر، حيث لو تقدم ابن دكتور للجائزة فاعلم بأن الابن قد فاز وإن قدم صفحات بيضاء. إذاً، يقتصر الأمر على مسابقات لا يسمع عنها الطلاب أصلا ولا تقدم تقديراً معنوياً ولا مادياً، ولا أي تقدير على بهدف الاحتفاء بالمتميزين وسط الطلاب في المراحل الثانوية أو الجامعة. أي: لا يوجد شيء.

كما انعدمت منافذ كتابة الرأي في الجامعة المصرية على وجه الخصوص، وعلى سبيل المثال؛ بعد أحداث الجامعة في عهد رئاسة جابر نصار لجامعة القاهرة، حيث تم إطلاق النار على المتظاهرين والطلاب وتم تجنيد بعض الطلاب كمخبرين على طلاب آخرين، مما أدى إلى إلغاء أي تواجد ثقافيٍّ كان أو سياسي في قلب الجامعة، مثال مبسط من جامعة القاهرة التي تعد أحد أهم الجامعات العربية في عراقتها وفي الحركة الثقافية. ألغت أي تفكير أو أي رأي يمكن أن يقال وإن كان بعيداً عن السياسة، ناهيك عن سلطة دكتور الجماعة ليباشر تهديده ووعيده في قمع الآراء والمناقشات حتى في إطار المادة العلمية، مما يجعل الطالب دون رأي أو قدرة على التفكير والتحليل النقدي، ما يؤثر سلبًا على كتابته الإبداعية وتطور عقليته وشخصيته الثقافية والفكرة، ولنناقش تلك النقط على حدى.

البرامج الإبداعية في المرحلة الثانوية.

لقد كنت في مدرسة مصرية ضخمة عريقة تم إنشاؤها منذ أكثر من قرن من الزمن، وهي مدرسة السعيدية الثانوية العسكرية، وهي مدرسة حكومية عريقة في تاريخها الطويل وفي جمال مبانيها وشكلها ومساحتها المهولة. تقدمت أثناء وجودي بقصتين من ضمن مسابقة يفترض وجودها، لكن انتهى بتلك الأوراق في سلة القمامة في نهاية المطاف، ولم يضمن الأمر أي نقاش أو أي وجود لمعايير للمسابقة، تشرف عاملة المكتبة على ذلك، وهي موظفة لا يشترط كونها مهتمة بالكتب، اتضح هذا حين سألتها في مرة عن كتاب لطه حسين، لكنني فهمت من حديثنا بأنها لا تقرأ وليست ذات معرفة عميقة عن الكتب والمطالعة، فينتهي الأمر بالإشراف السريع والذي قد يتم بمساعدة مدرس لغة عربية أقصى معرفته هي الدراسة الأكاديمية العقيمة للغة العربية وتدريس مناهج الثانوية التي لا تجعله مؤهلًا لتطوير طالب أو نقده، وبعد عدم توفر أي إمكانيات يقومون باختيار نص عشوائيًا أو لمعرفتهم بأهل صاحبه أو غيره كما أوضحت مسبقًا وليس بناءً على أي شيء يخص الكتابة نفسها، وقد لا يتم الاختيار إلا في حالة وجود مشرف من الوزارة أو مديرية التربية والتعليم بهدف عرض إنجازاتهم وإهتماماتهم الثقافية والفنية، فمن حفظ قرآن ومن كتب قصصية وغيره من المسابقات التي يبرز فائزيها فجأة بشكل غير منظم في حالة الكتابة الإبداعية، على نمط غريب، يشبه الأمر دخول مشرف مادة الفصل في وجود مدرس وحالة الرغبة في إبهارهم والقيام بأشياء لا يتم الإهتمام بها طوال العام. الفائز ربما يتم الإعلان عنه على صفحة الفيسبوك كخبر عابر، أو يتم لصق ورقة كشكول كأنها إعلان، وربما لا يتم الإعلان عنه أصلا، وفي حالة رغبة إبهار مشرف فسيتم في أغلب الوقت الإعلان عن فائز في وسط الإذاعة المدرسية.

هذا مثال لعرض بسيط لمظاهر لاجدوى وانعدام قيمة المسابقات، حيث لا وجود لنقد أو احتفاء، لا يوجد رأي أو تعليق من صاحب الاختيار عن سبب اختياره للفائز. ربما هو فخر ذاتي لصحاب الفوز، لكن ذلك لا يضمن بأنه سيكتب بشكل جيد أو أنه سيلقى اهتماما بما يكتب. في حالة المقال، ربما تتم المسابقة عن طريق فرض موضوع والحديث فيه مثل: اُكتب مقالاً عن أهمية مياه الشرب، اُكتب مقالاً عن الجيش المصري ودوره الإنشائي في مصر، وغيرها من مواضيع مقيدة كأنه موضوع تعبير، ولا توجد مسابقة واحدة تتضمن كتابة عمل أدبي، أو عن رؤية فنية أو غيرها. وفي النهاية، لا يوجد أي فرصة لتنمية التفكير النقدي أو التحليل، ويبقى مجرد كلام يشبه كتابة موضوع تعبير، يخضع للتقييم اللغوي وحسب _إن خضع_ أتذكر أن صديقاً لي قام بطباعة بحث من موقع ويكيبيديا مع العديد من المواقع الأخرى ولصق النتائج ببعضها البعض، وقام بتقديمه ليحصل على الجائزة وهي رحلة  لحديقة! مسابقة تحتفي بمن يقدم مطبوعات ليحصل على الرحلة، ومن صاحب أكبر عدد من الأوراق التي تمت طباعتها!

 من ضمن المشاكل وجود برامج تتم على شاكلة: تعلن المدرسة عن برامج لتعلم الشيطرنج، الجوالة، فريق كرة القدم، القصة، المقال. إن تقدمت في قسميْ القصة أو المقال فلن تجد شيئاً مهماً يُذكر، لا يوجد برنامج أساساً، هي مجرد show أو عرض يتم خلقه، وقد يخبرك بأن تقدم قصصك وتصبح _لو حالفتك كل الظروف وحب المسؤول، وعدم وجود ابن مدير أو مدرس، ممثلاً عن المدرسة في أي مسابقة دون أن يرى أحد إن كنت تكتب أصلاً أم أنك تقدم ورقاً أبيض مخطوطٌ عليه اسمك. كل تلك الأمثلة وأكثر توضح لك عدم وجود أي إهتمام بالكتابة الإبداعية في المرحلة الثانوية، خاصة مصر التي أستقي منها أمثلي لعيشي فيها.

فلنلقِ نظرة على الجانب الغربي للمسألة، هناك حقاً مسابقات وبرامج إبداعية، يتم تدريس الأدب واللغة وطلب مقالات رأي ومقالات فلسفية وفنية وغيرها عما يتم تدريسه ومناقشته، كما يتم مناقشة تلك الأعمال المقدمة، وتقديم رد وتحليل لأعمال الطلاب حتى يتم زيادة وتطوير قدرتهم على تحليل ومناقشة المادة العلمية، والنزعة النقدية والتحليلية وهلمّ جرّاً. قد يتقدم طالب بقصيدة فيتم مناقشتها أو قرائتها، ويعطى فرصة ليعبر عنها أمام الجميع باحترام واهتمام, تتم أيضا مناقشات أدبية، وبالطبع هناك برامج مخصصة للموهوبين في الكتابة لمتابعتهم وتطوير قدراتهم وعملية الكتابة لديهم، يوجد ببعض المدارس مجلات وصحف تعطي فرصاً لمحاولات الكتابة وتقوم بنشر أعمال الطلاب وتطويرهم بشكل جاد عن طريق الاهتمام الحقيقي غير المفتعل والطبيعي من المدرسين والإدارة المدرسية، وذلك لأن كل هذا ضمن عملية التعليم في الأساس. تجد مكتبةُ بها طلاباً، وليست للزينة ولا يزورها أحد.

كما تظهر العديد من الاهتمامات حتى خارج نطاق عملية الكتابة، كالصحافة، أو التصوير، أو الرياضة، أو التمثيل.. تحظى كلها بنفس القدر من الاهتمام، ويدخل البارزون من الطلاب مسابقات يمثلون فيها مدارسهم ويحصلون على احتفاء وتقدير جيد، ومنه تحصل المدرسة على دعم بسبب ذلك، ويتم تقدير المدرسة وتقييمها بعدد النابغين ومستوى تقدم الطلاب في دراستهم وأنشطتهم على حد سواء . أي أن القائمين على عملية التعليم أدركوا بأن تطور العملية التعليمية ينتج عن طريق تطوير العقلية الثقافية والفكرية للطالب، وتطوير قدراته وشخصه، كي يسمح بصنع نموذج تعليمي مترابط يقدم وعياً ومهارات أكبر له، إذ تضع له حجر الأساس الكافي لكي يشق طريقه في بيئة عادلة قدر المستطاع، مما يشعره بالكفاءة والقدرة على تطوير الذات.

ولا ننسى بأن التعليم عملية شاقة، لذا فإن وجود اهتمام بجوانب أخرى كهوايات أو أنشطة تجعل الطالب يصب اهتمامه في كليها ويوازن بين التعلم وتلك الأنشطة، مما يحسن نفسيته وعقليته لتقبل المواد العلمية، بل اكتشاف ذاته وشغفه، فقد تقرر بأن تصير رياضياً، أو ممثلاً، أو كاتباً، وتلتحق بمكان مناسب لك بعد المدرسة الثانوية، ويسهل تقبلك للمناهج بشكل أكبر. تسمح المناقشة ومناخ الحرية بعرض الطلاب رأيهم، مما يطور نظرتهم للعلم ونظرتهم للحياة عموما، ويعطيهم دفعة فكرية وحرية ليكتبوا ويدونوا رأيهم الإبداعي والنقدي بشكل أكبر. أي أن الأمور منظمة تتم ببرامج ودراسة واهتمام، هناك إهتمام بربط كل شيء عن طريق المنظومة، بينما لا يوجد لدنيا أساس واحد أو قطعة حديد تساعدنا في البناء في عالمنا العربي، من هنا يخرج الطالب العربي للجامعة غير مثقف أو واعٍ، لا يعلم اسم أشهر أعلام أدبه حتى، ليس لديه رأي علمي حتى فيما يدرسه، يخشى الحديث أو طلب الفهم، شخص بلا أساس فكري أو ثقافي، بل تم قمعه منذ الصغر وتجهيله ومحوه، فهذا يؤثر سبباً على طاقاته ومواهبه وإن كان مهتمًا بالقراءة أو غيرها.

لا يمكنك البوح برأيك بجرأة وقوة في المنهج أو غيره تحت قواعد احترام المدرس، مما يجعله خائفاً، جباناً، في حال وجود مدرس يهتم بالشرح في الأساس، لدينا ظاهرة الدروس وتردي المنظومة، وعدم نيل المعلم أي مال يكفيه، وغيرها من مشاكل تجعل المدرس -في حالة شرحه المادة العلمية بضمير- لا يعبأ برأيك ولا بالمناقشة، يمكن أن تسأله عن إعراب كلمة، لكن لن تدخل معه في مناقشة عن قصة الأيام لطه حسين على سبيل المثال! أنت تمتحن القصة حتى عن طريق الإجابة عن حفظك للنص وللحوارات ومن قائلها، وليس لنظرتك ورؤيتك وتحليلك للنص ومدى استفادتك منه. تُربى وتنشأ على عدم وجود أساس علمي، ووجود برامج وهمية ومسابقات إبداعية شكلية.

المرحلة الجامعية

نفس الأزمات لكن باختلاف المرحلة العمرية وشكل العملية التعليمية، الدكتور يمتلك سلطة أكبر، سلطة قمع أعظم، وأغلب حديثهم عن مدى فشل الطلاب، وتحقيرهم والسخرية منهم، ولا يوجد رأي غير رأيه حتى في الإمتحان، والواسطة والمحسوبية أكبر. نفس مشاكل البرامج موجودة، حيث أن العديد من المسابقات لا تتم بشكل عادل، ولا يتم الاختيار بواسطة شخص مؤهل، رغم أننا في الجامعة! أي يُفترض أن هناك أساتذة كبار لهم إنتاج إبداعي. لا يوجد كما في الغرب دراسة الكتابة الإبداعية، دراسة الأدب لدينا تتسم بالعقم، لا بوجود اهتمام بالكتابة أو منظور حديث لتعليم الأدب ومناقشة الفنون. حين تتقدم لمسابقة ستجد بأن الذي سيختار من يمثل كليتك، هو موظف! موظف في كلية ككلية التجارة، ما أدراه بالأدب! أتذكر اختيار الموظف للنصوص عن طريق وجود لغة قد تروق له، وينظر بسرعة لا يقرأ، ويحذرك من وجود أي مشهد ديني سياسي أو جنسي أو أو أو.. فتشعر برغبة أن تخبره بأن يكتب هو ما يريد بشكل أفضل. لا يفهم ما هي الواقعية، والواقعية السحرية ولا السريالية مثلا.. لا يدرك أي شيء، لكنه مجرد موظف إداري يختار النص الذي يفوز أو يمثل الكلية، ولو لم يجد أحد ليتقدم للمسابقة التي يعلن عنها بورقة صغيرة على أحد جدران مباني الكلية، فسيبعث برسالة لو يعرف رقمك، رغم إلقائه بعملك في المكب من قبل دون قراءته، لكنه يريد مشاركة وفقط. المحسوبية فعالة بالطبع، فابن الدكتور أو العميد هو الرابح. دعنا من فشل البرامج ومن عدم وجودها بشكل حقيقي، يفترض – وهذا حتى وقت قريب – بأن هناك مجلات وصحف في الجامعة، ووجود نشاط سياسي وثقافي وأخويات فكرية وغيرها.. كما أن هناك ازدهار لفكرة الثقافة بشكل كبير بين الطلاب، لكن على سبيل المثال في مصر، تم على حد حبي لتعبير “تنظيف الجامعة” من كل شيء، كأنها منزل تم إخلاؤه وجعله فارغاً، ليس به سوى جدران قديمة. لا توجد مجلات وصحف بنفس الظهور بل ربما لن تجد أيا منها في أغلب الكليات، لا نشاط ثقافي أو سياسي، لا اعتراض يتم عن طريق مظاهرات أو قول رأي. ببساطة بعد أحداث جامعة القاهرة تم إخلاء الفكر منها بشكل مطلق، بل إن إمساكك لكتاب يجعلك مثاراً للسخرية بين أقرانك، وبات ما هو طبيعي شيء غريب. لا يوجد فكر أو عقل، وبالتالي لو فرضنا أن الطالب الشغوف بالكتابة سيكتب، فإنه لن يجد احتراماً لهواية القراءة ويتم وصفه بالغريب والمجنون والملحد من طرف أقرانه، لن يحترم أحد من الطلاب كتابته أو يعبأ بها، وهنا نرى انخفاض القراء وأزمتهم، ونرى أزمة الكاتب الطموح. حيث لا يجد فرصة حقيقية لتنمية موهبته وقدراته العقلية والحسي، شخص يعتمد على نفسه بشكل كلي، معرض للإحباط ومحاصر بشكل تام، يعلّم نفسه ويؤهلها لسوق عمله بجانب دراسته، يفترض أن يبذل جهداً عظيماً ليطور موهبته وقدراته في الكتابة، فلا يجد منصة تعرض أعماله غير منصات الرأي الإلكترونية المعروفة، وقد لا يجد فيها فرصة لبروز اسمه أو الاهتمام بسبب نفس الأسباب حيث أن دائرته لا يوجد بها سوى قلة قد تحترم أو تشجع ما يقوم به. لا نقداً يلقاه أو أي تعليق يدفعه ليطور نفسه، قد ييأس من السخرية ويعجز عن تطوير ذاته بل يستغني عن كل شيء، خاصة وأنه مطلوب للقيام بأشياء عديدة دون توفير من قبل الجامعة والمدرسة شيء أو فرصة من خلالها ليهتم بموهبته وينمي قدراته. يخرج ليجد عملية نشر صعبة، قد يسعفه الحظ وقد لا يرد عليه أحد، يعاني من جميع مشاكل الكتابة.. ننتظر أن نقرأ لأي شخص عدا الشباب، على فرضية أن الشاب لا يملك خبرة ولا يجيد الكتابةةويحتاج لممارسة. وهنا نقطة جوهرية، كيف للشاب أن يحتاج لممارسة وتطوير وقد قطعت عليه بنفسككل تلك الفرص مبكرًا! بالطبع سيستغرق الأمر عزيمة ووقتاً وتحدٍ لمصاعب الحياة ليصل للأساسيات، ثم يأتي عمر الثلاثين أو الأربعين ليقدم عملاً شبه ناضج أو جيد أو مميز، أي أن مستواه مبشر، ثم ينتظر لسنوات أخرى حتى يكتسب خبرة ونضوجاً أكبر. لكنني لا أتفق هنا، فلو توفر من البدء جميع ما سلفنا ذكره، لامتلك أضعاف ما امتلك بجهده في القراءة وحسب، ولربما امتلك رؤية اعمق للحياة ولنفسه في سن مبكرة جعلته يبدع بشكل أكبر، ويصير مستواه في عمر العشرين كما لو أنه في الثلاثين دون أي برامج إبداعية أو غيرها. تعتمد الكتابة بالطبع على الخبرة، لكن حياة اليوم ليست كالأمس، قد تطورت المصاعب وتعقدت وتطور العالم، ما جعل الأدب بدوره يتطور. نُذكر أنفسنا بحجم المأساة بقولنا أنه حين كتب العرب الرواية الواقعية، اتجه العالم للسريالية والواقعية السحرية، حين كنا في العهد الكلاسيكي، اتجه العالم لأدب الحداثة وما بعد الحداثة. تلك الأنظمة والبرامج موجود منذ خمسينيات أو قبل ذلك من القرن الماضي في دول مختلفة في الغرب، بينما نحن حتى الآن لا يمكننا أن نقدم أي من تلك الأشياء للطلاب والمراهقين ليكتشفوا العالم وذواتهم ويطوروا نظرتهم للأمور وللكون، ومنه يمكنهم أن يبدعوا في سن مبكرة. لو تقدمت لجامعة في أمريكا قد تكتب مقالاً ليكون من ضمن خطاب قبول منحتك، وقد يكون مقالاً إبداعياً. بينما الطالب لدينا لا يعرف بأن نجيب يكتب الواقعية، ولا يعرف بوجود السريالية ولا الواقعية السحرية، نخبره فقط بأن لدينا كتاب مشهورين وهم فلان وفلان ومن أهم أعمالهم هذا وذاك.. فقط هكذا درسنا الأدب وأدركنا القصص المقررة والأشعار التي ينبغي دراستها بنفس التحليل المعروض من الوزارة، وهذا التحليل هو أن تخبرنا عن الاستعارات المكنية، وعن موطن جمال هذا البيت كما هو منصوص عليه. هكذا ينبغي للطالب أو للكاتب أن يغير كل شيء ويحاربه بنفسه ويعدل من كل هذا بذاته ويبني ما كان يفترض بناءه منذ صباه، ويبدأ في مرحلة تطوير بنائه. كل هذا يسبب قلة وجود عدد الكتاب المميزين، يسبب عدم بروز أهل موهبة ورؤية هامة قد يخرج منهم إسهام عبقري، قد نربط العديد من العوامل الاقتصادية والثقافية في صعوبة الحصول على الكتب وثمنها والحالة الاجتماعية والمادية للطلاب.. وتردي المكتبات العامة ووجود وعي يدفعهم للقراءة وغيرها من الأمور، حيث علينا أن نعي بأن تردي شيء مربوط بتردي أشياء أخرى وعوامل مباشرة وغير مباشرة.

إننا نحتاج برامج حقيقية وأساليب تدريس فعالة وفرص لننتج كتاب مبهرين ونزيد من إنتاجنا الثقافي، حيث علينا أن ندرك بأن العالم لا يتذكر الجنود ولا الدماء في التقدم، بل يتذكر المفكرين والأدباء ويقيس تطور الأمم بهم، علينا أن نعلم بأننا ربحنا كتاب كبار كنجيب محفوظ، لكننا ربما دفنا عشرات بل مئات ممن قد يصلوا لمكانة كبيرة وأصحاب إنجاز ملائم لعصرهم، ليس من ناحية الأسلوب بل المكانة والقيمة الإبداعية. نحن ندفن كل يوم كتاب ونتسائل عن غيابهم.

تدقيق لغوي: حفصة بوزكري

كاتب

الصورة الافتراضية
Marwan Mohamed Hamed
المقالات: 0

اترك ردّاً