تاريخ ‘الفلم’ – الجزء الأول: الفلم وليد خدعة بصرية!
تاريخ ‘الفلم’ – الجزء الثاني: الأخوان لوميير.
متى كانت آخر مرة سمعت فيها قصة جيدة؟ ربما بمسلسل تلفزي أثناء سهرك، فلم بقاعة سينما مع أصدقائك، أو ربما من كتاب غير نظرتك لنفسك بشكل كامل. جميعنا لدينا شغفٌ في خلق معنى للعالم، إما بإخبار قصص أو بالاستماع لشخص يرويها. وهذا ما بدأت الصور المتحركة -فلم- فِعلهَ بحلول القرن العشرين.
كانت مشاهدة أي فلم أمرا مشوقا في البداية، حتى ولو كان عرض فودفيل (أفلام إديسون)، أو وصول قطار للمحطة (فلم الأخوان لوميير). لكن بعد مرور بضعة سنوات، بدأ المشاهدون يملّون من تلك الأفلام القصيرة النمطية، باحثين عن شيء يُلبِّي رغبة المشاهدة لديهم، شيء أكبر من تلك الأفلام، لذا توجَّب على صناع الأفلام “محاولة” إيجاد شغف جديد.
كان العالم مُجهزا للفنانين لإثبات أن هذه الأداة أكبر من مجرد موضة عابرة، وهنا قَدِم راوي القصص الذي سيصنع سحره الخاص، يأخذنا إلى القمر، خالقا أول ثورة مؤثرات خاصة، مغيِّرا مما كان يؤمن صناع الأفلام والمشاهدين أنه ممكن، كان ذلك زمان جورج ميلييس – George Melies.
مع بداية القرن العشرين، اِنطلق العديد من الفنانين والمهندسين، بل وحتى غير الخبراء في محاولة لكسر حدود الفلم. ابتكارات تقنية مثل “عقدة ليثام” سمحت لصناع الأفلام باستعمال أشرطة أفلام أطول في الكاميرات، دون الخوف من تشابكها داخل الكاميرا أو تمزقها، ومنه على خلق أفلام أطول وأكثر تعقيدا، مسهِّلة عليهم التجربة الأولى للمونتاج Editing وهو جمع/مزج لقطات من أجل خلق نوع من الترابط المنطقي -من ناحية الرواية، الفضاء، الوقت، رمزيا أو بشكل موضوعي-.
توجد عدة طرق لجمع لقطات مع بعضها البعض (أو الاِنتقال من لقطة إلى أخرى)، يمكن مثلا استعمال انتقال بين اللقطات بـ التلاشي Fades، مسح جانبي Wipe، البزوغ Dissolves، أو يمكنك القطع مباشرة من لقطة إلى أخرى، تفاصيل المونتاج تحتاج موضوعا مستقلّا بحد ذاته، لأنَّها لها أبعاد أخرى، سيكُولُوجِيّة، شعورية… . حاليا كل ما يجب معرفته هو أن صناع الأفلام بدؤوا بجمع اللقطات مع بعضها البعض، ليشقّوا الطريق نحو أفلام تسرد لنا قصة ما. واحد من صناع الأفلام هؤلاء كان جورج ميلييس الذي ولد بباريس سنة 1861، اكتسب شهرة كبيرة في بداياته كساحر مسرح؛ من الجدير بالذكر أن تلك الفترة كانت فترة عطاء وقوة لسحرة المسرح، لدرجة أنهم كانوا يُعتبرون من المشاهير.
قدَّم سحرة المسرح عروضا ترفيهية للوهم والخدع السحرية لجموع غفيرة من الحضور، مزيّنين عروضهم بتجهيزات وأزياء وحتى شخصيات مُعدَّة خصيصا للعروض، أما ما ميز عروضهم على نحو هام، فكان نسجها على شكل قصص.
بكل تقدير، كان جورج ميلييس موهوبا وناجحا، امتلك وسَيَّر مسرحَه الخاص “مسرح روبرت هودان Theatre Robert-Houdin”، حيث كان يقوم بالتمثيل، الكتابة، الإنتاج، الإخراج وتصميم الموقع والأزياء بنفسه.
في الوقت الذي كان فيه ميمبردج، إديسون والأخوان لوميير يقومون بإضفاء لمساتهم الخاصة بـ”أجهزة الصور المتحركة -الفلم-“، كان ميلييس يُطوِّر خدعا سحرية، اِنطلاقا من وسائل وأدوات مبتكرة لصناعة مؤثرات خاصة.
أحد تخصصاته شملت استخدام تقنية العرض الضوئي لعرض مؤثرات ضوئية على الحضور، جاعلا الأمر يبدو كسقوط الثلج أو المطر داخل المسرح -أشبه بالهولوغرام-.
تمت دعوة ميلييس لأحد العروض الخاصة بـ “السنيماتوغراف” للأخوان لوميير قبل إعلانهما الرسمي عن جهازهما للعالم، فشعر بالذهول التام. لدرجة أنه حاول شراء أحد أجهزتهما بتلك اللحظة، لكنهما لم يكونا على استعداد لذلك.
لم يستسلم ميلييس، خاصة أنه كان يرى احتمالية تأثر عروض السحر بكاميرا الصور المتحركة وأداة العرض، والعكس كذلك، بعد مشقة كبيرة، تمكن ميلييس من اِقتناء أحد أجهزة العرض وقام بما نسميه حاليا “الهندسة العكسية” لمعرفة كيفية عملها، لتصبح بعد ذلك تعمل كالكاميرا الخاصة به. بحلول شهر أبريل من سنة 1896، كان يصنع ويصور أفلامه الخاصة على مسرحه الخاص.
كانت أفلامه في بداياتها أشبه بأفلام إديسون والأخوان لوميير -لقطات متتابعة لمونولوج، خدع سحرية أو مشاهد من الحياة اليومية. وفي أحد الأيام وبشكل كما نطلق عليه “محاسن الصدف” قدمت قفزة نوعية للسينما، كأحد تجاربه. في سيرته الذاتية، حكى ميلييس عن أحد الأيام التي كان يقوم فيها بالتصوير بأحد الشوارع الباريسية عندما علقت جهاز الكاميرا خاصته، بقليل من العبث بالذراع اليدوية للكاميرا أصلح العطب وواصل التصوير مجددا، بعد اِنتهائه من التصوير وتحميضه الفلم في مخبره، قام بمشاهدة ما صوّره، ليتفاجأ بما رآه، بدأ المقطع برجال يمشون، أطفال واقفون، وعربة مارة تحمل عمالّا، وفي رمشة عين تغير كل شيء، تحوّل الرجال لنساء، استُبدِل الأطفال بأحصنة، والأكثر إخافة تغيّر العربة التي كانت تحمل عمالا إلى عربة تحمل نعشا. سرعان ما استوعب ميلييس ما حصل، عندما علقت الكاميرا توقفت عن التصوير للحظات لتواصل التصوير مجددا بعد أن أصلحها. عند عرض الفلم بكامله امتزج المشهدان ليصبحا واحدا، كان أشبه بالسحر أمام عينيه.
لقد اكتشف ميلييس وسيلة لإحداث سحر حقيقي بالمونتاج Editing، لخداع الحضور بإنجاح الوهم، لم يكن ليستطيع فعل ذلك على منصة المسرح.
بدأ بصنع “أفلام خداع” باِستخدام قوة المونتاج والمؤثرات الخاصة لفعل “المستحيل” على الشاشة، كفصل الرأس عن الجسد، جعلِ أشخاص يختفون، تغيير حجم أو شكل مُجسَّم ما..
كان ميلييس أول من اِبتكر العرض المزدوج Double Exposure سنة 1898، وذلك بتمرير شريط الفلم بالكاميرا مرتين قبل تحميضه. عند القيام بذلك بشكل صحيح، ستظهر كلتا الصورتين في آن واحد، الصورة الثانية تظهر غالبا بشكل باهت أو شبحيْ. هذه التقنية سمحت له باِبتكار “الشاشة المنقسمة Split Screen”، التي يُغطِّي فيها نصف الصورة الواحدة Frame، يصور مشهده، يعيد تحميل الشريط من جديد ويغطي النصف الآخر ويصوره المشهد الجديد. عندما يتم تحميض الفلم، تظهر كلتا الصورتين جنبا إلى جنب أثناء العرض، استعمل هذه الخدعة مرارا وتكرارا، غالبا ليسمح للممثلين في القيام بأداءات متعاكسة لأنفسهم، إنها تقنية رائعة لا يزال يستخدمها العديد من صناع فيديوهات اليوتيوب في عصرنا.
قام بتطوير هذه الخدعة بعملية أسماها الماتي أو الطبقة Matting، وفيها يتم دهن أشكال بالأسود على طبق زجاجي يوضع على عدسة الكاميرا، تلك الأشكال السوداء تمنع تعرض الضوء على أماكن محددة بشريط الفلم خلال تصوير المشهد الأول، وبعدها يدهن المناطق التي صور عليها من قبل بدلا عن التي كانت مدهنة من قبل، ويعيد تصوير المشهد بإعادة استعمال الشريط السابق، سيمتزج المشهدان على نفس الشريط. يطلق على هذه التقنيات بـ تأثير كاميرا ضمني In-camera effects، لأنها تحصل داخل الكاميرا وليس بعد الانتهاء من تصوير الفلم. استعمل ميلييس هذه التقنية -إضافة لتقنيات أخرى عديدة- ليتفنّن بالمؤثرات.
قوانين الفيزياء لم يكن لها وجود بالفن الناتج عن كاميرا ميلييس ومؤثراته الخادعة، كان بإمكانه التلاعب بالزمن، التلاعب بالفضاء، ربط بين الفلم والوهم، جاعلا من خدعه أكثر قوة.
منذ زمن بعيد، بدأ ميليس بإدراج عناصرا من عروضه الفنية في أفلامه -أزيائه المفصلة، تجهيزاته واَكسسواراته الوفيرة، وبالطبع قصصه-. في حاضرنا قد تبدو لنا أفلامه بها جودة “عرض مسرحي” بارز. نقصد بذلك، الكاميرا ثابتة بشكل دائم أمام “العرض”، تلتقط المشهد بكامله في لقطة واحدة، أشبه بمنظور حضور بعرض مسرحي. يسمى هذا النوع من التأطير التصويري -Framming- بـالقوس المسرحي أو فتحة البروسونيوم Proscenium Arch، التسمية من القوس الذي يقع أمام مقدمة المنصة بقاعة العرض. هذه التقنية قليلة الاِستعمال في الحاضر، ولكن يمكن ملاحظتها في أفلام المخرج ويس أندرسون.
بالنسبة لنا، المشاهد في أفلام ميلييس قد تبدو ثابتة بشكل كبير، فبغض النظر عن كل مؤثراته الخاصة المونتاجية فالسبب هو أنه يقوم بالقطع بين المشاهد فقط. دون أن ننسى أنه يمكن أن تبدو شخصياته أحادية الأبعاد.
ضع نفسك في محل أحد مرتادي السينما بباريس سنة 1901، لم تشاهد أي شيء غير مقتطع من الحياة اليومية في “أحداث الساعة Actualités ” وعروض فودفيل على شاشة العرض.
الرؤية الطموحة المحنكة نسبيا، والمؤثرات الخاصة القوية لأفلام ميلييس ستكون مشوقة باِمتياز. لكن ميلييس لم يكن صانع الأفلام الوحيد في بدايات السينما، أليس غي بلاشاي Alice Guy-Blaché التي عملت في بدايتها سكرتيرة في شركة الاِنتاج الفرنسية غومونت ،Gaumont Film Company، وأصبحت لاحقا أحد أهم صناع الأفلام بالشركة، بل وأول صانعة -امرأة- أفلام معروفة، أخرجت أكثر من ألف فلم، كانت رائدة في تلوين الأفلام، من أوائل من قام بمحاولة مزامنة الصوت والصورة، وفتحت استوديو الأفلام الخاص بها. بلاشاي عملت كذلك على طليعة الخيال السردي، مثل فلمها الجنية الملفوفة The cabbage، قبل أن تخسر شركتها وتوقفها عن صنع الأفلام سنة 1920.
سنة 1902 أطلق ميلييس تحفته “رحلة إلى القمر A trip to the moon” المقتبسة من رواية لجول فيرن Jules Verne، ذلك الفلم ذو 14 دقيقة يحكي قصة مجموعة من العلماء يقومون برحلة إلى القمر، يقومون خلالها بالنوم تحت النجوم، ومحاربة بعض الفضائيين، إلى غاية هربهم عائدين إلى الأرض منتصرين. حتى وإن لم تكن قد شاهدت القصة كاملة، من المحتمل أن تكون هذه الصورة الأيقونية لـ”رجل القمر The Man in the Moon” قد مرت عليك من قبل.
تم استخدام شريط فلم يقارب طوله 250 مترا من أجل “رحلة إلى القمر”، أي أكثر بثلاثة أضعاف عن المعتاد في أفلام الأخوان لوميير و إديسون ذلك الزمن، جسّد الفلم العديد من اِبتكارات ميلييس -أساليبه في التصوير، إعداداته المبهرة، سرده القصصي الرائع- كلها بشكل كبير، معقد نسبيا، فلم خيال قصصي.
لقد كان نجاحا عالميا عظيما، في الواقع، جنى إيرادات كثيرة جعلت إديسون -وغيره العديد- يقومون بنسخ غير قانوني للفلم، وعرضه على أنه يخصه، محققا إيرادات منه، ياله من شخص! لم يكن للفلم وقع مالي فقط، بل كان له تأثير قويٌّ على صناع الأفلام الآخرين بزمنه، موسِّعا ما كان يعتقده الناس ممكنا، قصصيا وجماليا. ليس لأن الأفلام يمكنها أخذنا إلى الفضاء وجعلنا نتقاتل مع الفضائيين فقط، بل كونها تمتلك القدرة في كسب اِنتباهنا لما يقارب ربع الساعة، وإخبار قصص عن طريق مجموعة مشاهد.
لا يزال يشتر إلى فلم “رحلة إلى القمر” في عدة أفلام، كفلم “هيوغو Hugo” للمخرج العظيم سكورسيزي Scorsese، وهو فيلم يعرض سيرة ميلييس مع خلق شخصية “هيوغو” ، وعلى الرغم من أن الفيلم لم يتعرض لحياته كاملة، بل كان التركيز أكثر على حياة الفتى اليتيم هوغو، فإنه أحيا التاريخ المنسي لجورج ميلييس ونقل حياته من مجرد صفحات في الأرشيف الفني الفرنسي، لنسخة حقيقية ذات روح تُلهم الأجيال الجديدة التي لا تعرفه أبدًا. بالإضافة إلى فيديو كليب أغنية ” Tonight, Tonight” لفرقة الروك الأمريكية ” The Smashing Pumpkins “.
لم يكن “رحلة إلى القمر” الفلم الوحيد الذي صنعه ميلييس، ففي أوجّ عطائه كان يصنع ما بين 25 إلى 75 فلما في السنة، أسَّس شركة إنتاج أسماها Star film، وبنى استديو كبيرا مونتروي Montreuil بفرنسا. كان الاستديو أشبه بدفيئة زراعية، أي بجدران وسقف زجاجي ليسمح لأكبر قدر من الضوء الطبيعي بالدخول، وكان كبيرا بما يكفي ليتّسع لتجهيزاته الرسومية العملاقة والخلفيات.
على الرغم من أن الأفلام الملونة لم تظهر إلا بعد عقود من أفلام ميلييس، إلا أنَّ مرتادي أفلام ميلييس كانو قد شاهدوا أفلاما بها ألوان، لتحقيق ذلك كان يتم تلوين الفرايم frames واحدة تلو الأخرى باليد -تلوين إنفجار بلون برتقالي، فستان بالأحمر أو شمس بالأصفر-. كانت العملية تأخذ وقتا طويلا، إضافة لتكلفتها، لرجل عروض مثل ميلييس لم يكن ذلك أمرا مفرطا. حتى أنه يٌقال أنه وظف عشرين امرأة لتلوين الـframes باليد.
للأسف، ارتفاع ميزانية الإنتاج، التحديات القانونية مع المنافسين، والخراب الذي حل بأوروبا خلال الحرب العالمية الأولى، أجبر ميلييس على إيقاف عمله بحلول سنة 1917.
في عشرينات القرن الماضي، كان يعيش كشخص غير معروف، يبيع الحلوى بدكان في محطة مونتبارناس بباريس، فرنسا، من شاهد فلم “Hugo” يعرف ذلك. هل اِنتهت قصته هناك؟ كان ذلك ليكون ترَاجِيديَا، ولكن هذه هي الصناعة السينمائية. ولحسن الحظ، بأواخر العشرينات، صحفيين وصناع أفلام كانوا قد تأثروا بأفلام ميلييس، تتبّعوه للاِحتفاء بإسهاماته العظيمة للفن السينمائي.
بحلول أكتوبر 1931، تحصل ميلييس على وسام جوقة الشرف، وهو أعلى تكريم رسمي في فرنسا. قُدم الوسام له من طرف لويس لوميير.
جورج ميلييس، رجل العروض الباريسي الذي أحضر لنا الخيال العلمي، المؤثرات الخاصة، والعديدة من القصص السردية الجميلة للفلم، كُرم من طرف أولئك الذين عرفوا عمله على النحو الأفضل.كلا معاصريه ومنافسيه اتفقوا على أن “وهمه” غير التاريخ، آخذا متابعيه لأماكن جديدة ومشوقة، أماكن كالقمر.
في هذا الجزء قدمنا جورج ميلييس، الساحر الذي أصبح فيما بعد صانع أفلام، الذي أثرت تجاربه وابتكاراته بشكل كبير في تقدم تكنولوجيا “الفلم”. ناقشنا كيف أن المؤثرات الخاصة والمونتاج يمكنهما تحسين وتطوير من طبيعة الفلم كشكل من الخداع أو الوهم، وكيف أن المتابعين كانوا متعطشين لأفلام أطول وأعقد سرديا.
المصادر:
– Georges Melies – Master of Illusion: Crash Course Film History #4
– Georges Méliès: French filmaker
– Georges Méliès: French magician, filmmaker
-Early Cinema: The Magical World Of Georges Méliès
تدقيق لغوي: عمر دريوش.