عالم كيركغارد، الجزء الثالث: قصة إبراهيم وإسحاق

يؤمن إبراهيم بأن الرب الذي يأمره بفعل أكثر الأشياء شناعة وقسوة هو نفسه الرب الذي يحبه

لقد توقع كيركغارد بأن يتم ترجمة كتابه المنشور سنة 1843  خوف ورعشة-Fear and Trembling  إلى مختلف اللغات وسيُخلد اسمه في التاريخ. وقد كان محقاً في ذلك. ولكن هذا الكتاب قد أدى في الكثير من الأحيان إلى تصوير كيركغارد كداعٍ لشكل من أشكال الإيمان الديني الفردي وغير المنطقي.

لقد كُتب هذا الكتاب تحت اسم مستعار وهو Johannes de silentio- يوحنا الصامت، والذي يناقش القصة الإنجيلية المتعلقة بطاعة إبراهيم لأوامر الله بالتضحية بابنه الوحيد، إسحاق. وقد اعتُبر إبراهيم “أب الدين” في التراث اليهودي-المسيحي بناءً على هذه القصة  في الغالب. وقد وفرت التأملات والأفكار في عملية استعداد إبراهيم لقتل ابنه كيركغارد بالفرصة لطرح عدد من الأسئلة الصعبة حول طبيعة وقيمة الإيمان المسيحي.

في محاضراته حول سفر التكوين في القرن السادس عشر، أثنى مارتن لوثر على إبراهيم لطاعته العمياء لأوامر الله- لـ”إيمانه الأعمى” الذي أبداه عن طريق رفضه للسؤال حول إذا ما كان من الصائب قتل إسحاق أم لا. وفي نهاية القرن الثامن عشر، أخذ إيمانويل كانط طرف النقيض من ذلك، مجادلاً أنه كان على إبراهيم أن يدرك أن مثل هذا الفعل غير الأخلاقي بشكل بديهي لا يمكن أن يصدر من قبل الله. بالنسبة للوثر، فإن السلطة الإلهية تتفوق على أي ادعاء منطقياً كان أو أخلاقياً. أما بالنسبة لكانط فلا يمكن لأي  شيء أن يتفوق على القانون الأخلاقي.

ويتبع كيركغارد في خوف ورعشة كانط في تأكيده على أن قرار إبراهيم مُنفِر أخلاقياً ولا يمكن تفسيره بشكل منطقي. على أية حال، يشير كيركغارد إلى أن إحدى نتائج وجهة نظر كانط هي، لو لم يكن هناك شيء يفوق العقل البشري، فيمكن الاستغناء عن الإيمان بالله. وعلى خلاف كانط ولوثر، لا يؤثر كيركغارد أي حكم بخصوص مسألة إبراهيم، ولكنه يستعرض بدلاً من ذلك معضلة لقرائه: إما أن إبراهيم مجرد قاتل، وبالتالي ليس هناك أسباب لتقديسه؛ أو أن الواجبات الأخلاقية لا تمثل أعلى قيمة في الوجود البشري. ولا يقوم خوف ورعشة بحل هذه المعضلة، وربما بالنسبة للأشخاص المتدينين فإنه ليس هناك من طريقة لحلها أبداً.

ولا تختص هذه المعضلة بموقف إبراهيم فقط. لقد كان كيركغارد يكتب لقرائه في القرن التاسع عشر والذين كانوا يعتبرون أنفسهم كمسيحيين- وهذا يعني، أنهم أناس يؤمنون بسلطة وطيبة الرب. وعن طريق التشديد على صعوبة فهم رد إبراهيم على القرار الإلهي، يشدد كيركغارد على صعوبة الإيمان ذاته. مضمناً في هذا التحليل لقصة إبراهيم، يلوح السؤال: هل ستكرر فعل إبراهيم لو وُضعتَ في نفس الموقف؟ كيف يمكنك القيام بمثل هذا الفعل؟ ويبدو أنه من غير المحتمل أن يتوصل أي شخص يفكر بهذه الأسئلة بشكل جدي  إلى أنه أو أنها سيتصرفون بنفس الطريقة. بالضبط كما يُختبر إيمان إبراهيم بالله في سفر التكوين، إيمان القارئ يختبر أيضاً عن طريق تأملاته الشخصية حول  هذه القصة الإنجيلية.

أن النقطة التي يريد كيركغارد إيصالها في خوف ورعشة ليست أن يؤكد على الإيمان الأعمى بالله، بل أن يزعزع إيمان قرائه الأعمى بأنفسهم. أي أنه يسعى لتحدي افتراضهم المتعجرف بأنهم مسيحيون. لقد آمن أنه فقط عند التخلي عن هذا الافتراض يمكن للناس أن يشرعوا في أن يكونوا مسيحيين.

على أية حال، فإن إبراهيمَ كيركغارد لا يوفر لنا نموذج الإيمان الديني فقط. فلو كانت شخصيته محط إعجاب بصرف النظر عن نواياه الإجرامية، فذلك لأنه يواجه خسارة الشخص الذي يحبه أكثر من أي شيء آخر بشجاعة تامة. فوفقاً لكيركغارد، فإبراهيم بطل ولكن ليس نتيجة فضيلته المتمثلة بإطاعة أوامر الرب، إنما لأنه حافظ على علاقته بإسحاق بعد أن تخلى عنه بالكامل.

إن رمزية رفع إبراهيم للسكين فوق جسد إسحاق تشير إلى أن جميع العلاقات البشرية مطاردة من قبل شبح الموت المحتمل. فالحب ينتهي دوماً بالموت، على الأقل في هذه الحياة. إحدى ردود الفعل لهذه الحقيقة الوجودية -وعلى الأرجح أكثرها شيوعاً- هي تجاهل موضوع الموت بقدر المستطاع. ورد الفعل البديل لذلك هو أن تواجه آلام الفقد المحتومة وتتخلى عن المحبوب مقدماً، وبعبارة أخرى، التخلي عن الأمل بالحصول على علاقة سعيدة في هذه الحياة.(ويوصف “فعل التخلي” بـ”الترهبن”، على الرغم من أنه لا يعني الانعزال بشكل حرفي. أنه فعل داخلي، تعديل في التوقعات) ففي وجهة كيركغارد، فهذا الشيء أكثر نبلاً من الخيار الأول، ولكنه بعيد شديد البعد عن شجاعة إبراهيم، الذي يستمر بحب إسحاق والاستمتاع بالعلاقة معه مع الإدراك التام للمعاناة التي سيجلبها موته عليه. هذا الجانب التفسيري في خوف ورعشة لإبراهيم يشير إلى أنه على الرغم من كونه فردانياً، إلا أن كيركغارد يعتبر العلاقات البشرية أساسية للحياة.

ففي هذا النص، يرتبط وبقوة السؤال حول كيفية التعامل مع المعاناة المرتبطة بالحب والفقد مع السؤال حول كيفية العيش في علاقة مع الرب. فكما أشار العديد من الفلاسفة -وكما اكتشف عدد لا يحصى من الأشخاص العاديين عن طريق تجاربهم الشخصية- فإن المعاناة البشرية تمثل تحدياً صعباً للإيمان برب عادل، محب، وكلي القدرة. ويرى كيركغارد أن اختبار إبراهيم يبرز هذا التحدي للسطح، ويوفر إبراهيم الإلهام  لأنه استطاع الحفاظ على مفهومين متناقضين ولا يمكن التوفيق بينهما: أنه يؤمن أن الرب الذي أمره بأن يقوم بأكثر الأفعال شناعة وقسوة هو نفسه الرب الذي يحبه. ومجدداً، وفقاً لهذا التفسير، فإن قصة إبراهيم تشهد للصعوبة الفائقة للإيمان الديني.

تدقيق لغوي: حفصة بوزكري

المصدر

كاتب

الصورة الافتراضية
Sajjad Thaier
المقالات: 0

اترك ردّاً