التشبث بأكتاف العمالقة.

كتب إسحاق نيوتن رسالة إلى زميله العالِم روبرت هوك سنة 1675 مُعترفًا: “إذا استطعت قنص مسافات طويلة بنظري، فهذا لوقوفي على أكتاف العمالقة”. 

من السهل جِدّا النظر إلى عظماء العباقرة أمثال نيوتن والاِعتقاد بأن أعمالهم وأفكارهم هي مُستخلص عقولهم وزُبدة أفكارهم هُم فقط، أو أنهم النسخة الأصلية الحقّة، ولكن الأمر ليس كذلك دائما. 

على الأفكار الخلاقة أن تأتي من مكان ما، فمهما بدا المُنتَج مُميز أو لم يسبق له مثيل، احفر بعمق وستجد أن صاحبه قد وقف على كتفي شخص آخر وأتقن أفضل ما توصل إليه هذا الأخير، ثم نسب المهارة لنفسه. وبإعادة كل هذا مِرارًا، كان له أن يرى بشكل أفضل -وأبعد- وكان على وفاق تام مع فكرة أن الأجيال القادمة ستفعل به المثل؛ الوقوف على أكتافه. 

يُعتبر الوقوف على أكتاف العمالقة فرضًا من فُروض الإبداع والابتكار والتطور وجزءًا لا يتجزأ منها، وهو لا يُقزِّم من قيمة ما تفعله أبدًا، لذا وجب عليك احتضانه. 

لكلٍّ منّا جولته.

من عجائب التقادير أن جُملة نيوتن المشهورة هذه لم تكن له كُليا، إذ يُمكن تتبّعها إلى القرن الثاني عشر عندما كتب المُؤلف الإنجليزي جون السالسبيري (John of Salisbury) أن الفيلسوف برنارد الشارتريسي (Bernard of Chartres) قد شبّه الناس بأقزام تتشبث على أكتاف العمالقة إذ قال: “يمكننا النظر إلى ما هو أكبر وأبعد مما استطاعت أعين أسلافنا أن تطاله، ليس لأن لنا نظرة ثاقبة وطُولًا فارِعًا بل لأننا محمولون عاليا فوق قاماتهم الضخمة”. 

في مُقدمة فرانكشتاين، عبرت ماري شيلي في القرن التاسع عشر عن الإبداع بهذه الطريقة: “علينا الاعتراف بتواضع أنه لا يتضمن إيجاد الشيء من عدم، بل من فوضى”. 

يوجد عمالقة في شتى المجالات، لكن لا داعٍ من التخوّف والرهبة منهم؛ هم يُفصِحون عن وجهة نظر مثيرة، مثل التي يُقدمها المُخرج جيم جارموش على طبق من فضة: “لا وجود لشيء أصلي. اسرق من كل مكان يُلهمك أو يُغذي خيالك. افترس الأفلام القديمة والجديدة، الموسيقى، الكُتب، اللوحات، الصور، القصائد، الأحلام، المُحادثات العشوائية، الهندسة، الجسور، لافتات الشوارع، الأشجار، السحب، المسطحات المائية، الضوء والظلال. اختر من تلك المصادر التي تُناشد روحك، فإذا نجحت في فعل ذلك، حينها فقط سيكون عملك (وسرقتك) أصيلًا. لا تُقدَّر الأصالة بأي ثمن، في حين أنه لا وجود لما هو “أصلي”. ولا تأخذ عناء التكتم على سرقتك بإخفائها، فلك حتى أن تحتفي بها إن كان ذلك ما أردت. وعلى كل حال، تذكر دائمًا ما قاله المخرج الفرنسي جان-لوك غودار: ‘لا يهم من أين تأخذ الأشياء، بل إلى أين’ “. 

قد يبدو هذا مُحبِطًا، إذ سيصرخ البعض: “أغنيتي، كتابي، تدوينتي، شركتي الناشئة، تطبيقي، ابتكاري؛ بالتأكيد إن كل هذا أصليٌّ؟ فلم يسبقني أي أحد إليها!” ولكن الأمر على الأغلب ليس كذلك، وهذا لا يعني أبدًا أنه أمر سيّئ. في محادثة على منصة TED، أوضح المُخرج الكندي كيربي فيرغيسون بأن: “مُصارحة أنفسنا بهذا ليس رفعًا لراية الاستسلام أمام أن نكون أناسًا عاديين أو دون الوسط أو أن نكون مجرد اشتقاقين، وإنما في هذا خلاص من مفاهيمنا المغلوطة وحافز لكي لا نطلب المستحيل من أنفسنا ونركز على خط الاِنطلاقة بدل ذلك”. 

تكمن هنا حقيقة مهمة، فالوقوف على أكتاف العمالقة يُخولنا إلى النظر بعيدًا جِدّا، حتى أبعد من ذي قبل. عندما نبني فوق ما كان مشيد سابقا، نحن نقوم بصقل وتحسين جودته وينتهي بنا المطاف إلى أخذ البشرية نحو آفاق جديدة. فمهما يبدو عملك أصليا، ستجد بأن التأثيرات هناك قابعة داخله، إلا أنها ليست واضحة للعيان أو مُوثَّقة. وكما تثبته لنا طبيعتنا الاِجتماعية: التقليد صفة بشرية بامتياز، فهو الأداة التي نتعلم من خلالها كيف نتصرف. 

يتحدث نسيم نيقولا طالب في كتابه: Antifragile: Things that Gain from Disorder عن كل الاِبتكارات والأفكار التي صمدت في وجه التاريخ وذلك من خلال مشهد وصفي يقصد فيه مطعم ما (والمطاعم تتواجد منذ حوالي 2,500 سنة)، مُرتديا حذاء يشبه في تفصيله الأحذية التي عُرفت منذ 5,300 سنة تقريبًا. يستعمل طالب لتناول وجبته أوان فضية صُممت من قبل سكان بلاد الرافدين، وعندما يحل المساء يحتسي شراب نبيذ العنب الذي تعُود وصفته إلى حوالي 6,000 سنة، مُستعملا كأسا صُنع وصُمِّم قبل 2,900 سنة مضت، ثم يُتبع النبيذَ بجُبنٍ لا يتغير على مر العصور. يستحيل تحضير وجبة العشاء دون استخدام أحد أقدم الأدوات التي عرفتها البشرية: النار. يتم كل هذا بمساعدة أدوات المطبخ البسيطة التي طورها وصقلها الرومان. 

لا يمكن لأحد إنكار حقيقة تغير المُجتمعات والثقافات الدائمة، لكننا لا نزال واقفين، في خضم حياتنا اليومية، على أكتاف من سبقونا مُستخدمين اختراعاتهم وأفكارهم تارة، ومُطورين لما جاؤوا به تارة أخرى. 

 متلازمة غير المُخترَع هنا.

عندما نُشكك فيما جاء به من هم قبلنا أو نُحاول إعادة اختراع العجلة أو نرفض إمكانية التعلم من التاريخ، نحن بهذا نُعيق أنفسنا. تصف عبارة “غير المخترع هنا” المواقف والحالات التي نتجنّب فيها استعمال الأفكار والمنتجات والمعلومات التي أتى بها شخص آخر إلى العالم، مُفضلين بدل ذلك ما يُمكنه أن ينتج منا وعنا (حتى لو عنى هذا وقتا وجهدا وجودة أقل). 

تتجلى هذه المُتلازمة أيضًا، وبوضوح، عندما يتردد أحدنا في اللجوء إلى مصدر خارجي مُساعد أو الاكتفاء بتلقي التعاليم،  إذ يعتقد الناس عمومًا أن النتيجة ستكون دائما أفضل إذا أشرفوا على العملية بالكامل، مما يدفعهم إلى الشعور بفرط من الثقة بقدراتهم. فعلى كل حال، من ذا الذي يحب من يأمره وينهاه؟ حتى لو كان هذا الآمر شخصا أرفع خبرة؟ من ذا الذي لا يُريد أن يُعرف في أنحاء المعمورة على أنه ذلك العبقري الذي أعاد اختراع العجلة؟ 

إن الإتيان بحلول جديدة لمشكلة ما أكثر إثارة من استخدام أفكار شخص آخر، لكن الحلول الجديدة لا تنفك تخلق مشاكل جديدة هي الأخرى. يمزح البعض، وعلى سبيل المثال، بأن أعتى الشركات في مضيق السيليكون ليست إلا عبارة عن حاضنة ارتجالية لأشخاص سينشئون شركاتهم الخاصة، مُعتقدين بأن عملهم سيكون الأفضل دون شك. 

تُعتبر متلازمة غير المخترع هنا وجها من أوجه مُغالطة التكاليف الغارقة، فإذا استثمرت شركة ما الكثير من المال والوقت في محاولة منها لإنجاح دوران عجلة مربعة الشكل، سوف تُقاوم استخدام العجلة العادية التي أتى بها شخص آخر تحت كل الظروف. ستكون الخسائر هائلة، سواء المادية أو المعنوية. وبالرغم من أنها تنبعث من شعور الفرد بثقته في إمكاناته، إلا أنها لن تقوده إلا إلى المزيد من الخسارة. من الأفضل لك إذًا استعمال أفكار شخص آخر والظهور لشخص غيره بصفة العملاق. 

لماذا أفكار ستيف جوبز مسروقة؟ 


ما الإبداع إلا ربط الأشياء ببعضها. عندما تسأل المُبدعين كيف قاموا بفعل شيء ما، سيرافق إجاباتهم بعض من الشعور بالذنب لأنهم لم يقوموا بإنجاز الأمر فعلا، بل كل ما فعلوه هو إمعان النظر إليه حتى اعتادوا عليه وأصبح بديهيا؛ لقد قاموا بضم خبرات سابقة واستخدامها لتركيب أخرى جديدة“. 

ستيف جوبز


في كتابهما: The Runaway Species: How Humans Creativity Remakes the World، تتبع أنثوني براندت وديفيد إيجلمان المسار الذي قاد إلى ظهور الآي فون، وبالتالي تتبع من هم أولئك العمالقة الذين تشبث ستيف جوبز فوق أكتافهم. نحن غالبًا ما نُصنف جوبز كأيقونة غيّرت مسار التكنولوجيا إلى الأبد؛ من الصعب أن يتجاهل من عايش سنة 2007 الجلبة التي أحدثها هذا الهاتف، فقد بدا جديدا كليا ولم يُرى له مثيل من قبل. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من هذا. 

ظهرت شاشات اللمس قبل نصف قرن تقريبًا من ظهور الآي فون، إذ تم تطويرها من قبل إدوارد جونسون (E. A. Johnson) كوسيلة لضبط وتنظيم الخطوط الجوية. قام مهندسون بعده بتطوير عمله واستخدام نماذج أخرى، محصلين بذلك براءة اختراع سنة 1975. في نفس الوقت تقريبًا، طورت جامعة إلينوي طرفيات مُستقلة ذات شاشات لمسية لفائدة طلابها. سبق شاشاتُ اللمس في استخدام هذه التقنية القلمَ الضوئي، وظهر أول حاسوب تجاري بشاشة لمس سنة 1983 متبوع بعد مدة قصيرة بساعات وألعاب فيديو ولوحات رقمية، جميعها بشاشات لمس أيضًا. أطلقت Casio حاسوبا كفيا بشاشة لمس سنة 1987 (تذكر، حدث كل هذا قبل 20 سنة من ظهور الآيفون). 

وقف ستيف جوبز على أكتاف العديد من المهندسين والطلبة والعلماء المجهولين الذين عملوا لعقود على تطوير التقنيات التي استخدمها وطوّرها فيما بعد. وبالرغم من أن آپل لها تاريخ طويل من شن دعوات قضائية لا ترحم ضد أولئك الذين “يسرقون أفكارهم”، إلا أن هذه الأفكار لم تكن لهم ومنهم وحدهم من الأساس. خلص كل من براندت وإيجلمان إلى أن: “الإبداع لا يأتي من عدم، فنحن نعتمد على تجاربنا وعلى كل المواد الخام المحيطة بنا لبلورة العالم من جديد. معرفتنا لأين كنا وأين نحن هي ما سيحدد وجهتنا نحو الصناعات الكبرى القادمة”. 

من أين أتى شكسبير بأفكاره؟ 

“لا شيء يأتي من عدم”.  

ويليام شكسبير، الملك لير

اعتمدت معظم أعمال شكسبير، إن لم نقل جميعها، بشكل كبير على أعمال سبقتها لدرجة تدفعنا إلى التساؤُل ما إن كان بإمكانه الإفلات من قبضة حقوق الملكية الفكرية التي نعرفها اليوم. 

استلهم هاملت من كتاب عن التاريخ الدانماركي ألفه المؤرخ والشاعر ساكسو غراماتيكوس في القرن الثاني عشر بعنوان الأعمال الدانماركية، إذ تضمّن ستة عشر مجلدا لاتينيّا. من المُريب أن يكون شكسبير قد قرأ المجلدات أو حتى صادفها، إلا أن الباحثين وجدوا تطابقات لا يمكن نفيها وخلصوا إلى أنه من الممكن أن يكون قد قرأ مسرحية مأخوذةً عن المجلدات حيث ألهمته، وبالتحديد، قصص تصف مآزق الأمير آملث (Amleth)؛ يتضمن الاسم هنا نفس أحرف الإسم هاملت وتتطابق الأحداث إلى حد كبير. 

نسخ شكسبير بشكل حرفي أجزاءً من كتاب حياة بلوتارخ لمارك أنطوني في عمله “أنطوني وكليوپاترا“، كما أن شعر أرثر بروك “التاريخ المأساوي لروميو وجولييت” (The Tragicall Historye of Romeus and Juliet) كان حجر الأساس الذي اعتمده شكسبير لكتابة روميو وجولييت. مجددا، هناك أثر واضح لوجود عمالقة خلف الكواليس، إذ أن بروك نفسه نقل شعرًا آخر سنة 1559 عن الشاعر بيير بواستوي (Pierre Boaistuau)، والذي استلهمه هذا الأخير بدوره عن قصة كتبها ماتيو بانديلو (Matteo Bandello) وهكذا. اعتمدت -ولا تزال- الأعمال الأدبية والمسرحية والثقافية على أمثال بلوتارخ وتشوسر وكتب الإنجيل عندما يتعلق الأمر بالإلهام والأفكار الخلاقة. 

لكن لا يمكن لأحد أن ينفي ما الذي أضافه شكسبير للأعمال التي نقلها تارة وتعلم منها تارة أخرى من دراما ولغة وإحساس، إذ لا يمكننا أبدًا مقارنتها بجودة وعمق مسرحياته. العديد من هذه المصادر الرئيسية كان جافا وخاليا من كل آثار اللغة الشعرية التي تضفي الحياة على كلماتها. كتب المؤلف الإنجليزي ساكي سنة 1908 أن التاريخ المأساوي لروميو وجولييت: “يشبه جدولا طويلا وسط أرض غريبة وقاحلة، أما عمل شكسبير فهو بمثابة نهر جارٍ يعج بالحياة، يُغني مُزبدًا. يشع تارة تحت أشعة الشمس ويكفهر تارة أخرى تحت الغيوم آخذا معه جميع الأشياء بسىلاسة إلى أن تصل إلى جرفه فتقفز إلى أعماق المياه تحته”. لقد رأى شكسبير أبعد من أولئك الذين كتبوا قبله، وبمساعدتهم، أعلن عن بداية عصر جديد للغة الإنجليزية. 

زبدة الحديث هنا ليست بالهرع إلى سرقة الأعمال الفكرية حرفيًا بل إلى تهذيب حس العثور على العناصر القيمة التي تملأ الأعمال الغابرة وكذا إمكانية استخدامها والتركيب فوقها. فإذا قيدنا سيل الأفكار، سيخسر الجميع. 

لا تُصبح الفكرة الجديدة، مثل الأفكار التي طرحها نيوتن وجوبز وشكسبير، ممكنة، إلا عندما يفتح عملاق سابق بابا جديدا يمكنهم من الدخول إليها. ويقومون هم، بدورهم، إلى فتح أبواب أخرى وتوسيع نطاق ما هو ممكن. لا تصبح الفنون والعلوم والتكنولوجيا ممكنة إلا إذا أقام أحد (أو أشخاص كثر آخرون) بتشييد القاعدة التي تقف عليها: لا شيء يأتي من عدم. 

الأسئلة التي يجب علينا جميعا أن نطرحها على أنفسنا هي إذًا كالتالي: ما هي الأبواب التي يمكنني فتحها والتي تعود لعمالقة آخرين قبلي؟ ما هي الفرص التي يمكنني رصدها والتي غفلوا هم عنها؟ إذَا اعتقدتَ بأنه قد تم طرح واستغلال جميع الأفكار الجيدة ولم يتبق شيء، أنت مخطئ كثيرًا. فأفكار الناس الجيدة تفتح آفاقا أخرى بدل تقييدها. 

ومع مضي الوقت، يزداد العمالقة طولًا ويصبحون بذلك أكثر تسامحا كي يدعونا نتشبث بهم. خبراتهم تتراكم هناك داخل الكتب وعلى المدونات وفي البرامج ذات المصادر العلنية وعلى منصات TED وفي حوارات البودكاست وعلى الأوراق العلمية. ومهما تكن ماهية ما نريد تحقيقه، لدينا دائما خيار البحث عن عملاق مناسب كي نرى ما الذي يمكننا تعلمه منه وعنه. إن المعرفة تراكمية ولكل شخص فرصة النظر لما هو أبعد من خلالها. 

المقال الأصلي هنا.

تدقيق لغوي: عمر دريوش

كاتب

الصورة الافتراضية
BENZERGA Rokia
المقالات: 0

اترك ردّاً