رواية ثلاثية نيويورك – مطاردة الذات.

 بطاقة تعريفيّة بالكتاب:

الاسم: ثلاثية نيويورك.

سنة النشر: ما بين 1985-1986 (حيث نُشر كل جزء منفصل قبل أن تجمع في كتاب واحد).

دار النشر: Penguin  – بنجوين.

بطاقة تعريفيّة عن الكاتب:

بول أوستر هو  من أشهر الكتّاب الأمريكيين، عمل بالإخراج والترجمة، ويعد من أهم كتّاب ما بعد الحداثة في أمريكا. حصلت رواياته على عشرات الجوائز، وترجمت لما يقارب 40 لغة. بدأت شهرته الروائيّة بثلاثية نيويورك وتلتها العديد من الرّوايات كقصر القمر، ومستر فرتيجو، وكتاب الأوهام، وحماقات بروكلين،  4321 التي رشحلت للبوكر,، وغيرها من الأعمال الأدبيّة.

عن الكتاب:

قرأت الرّواية بلغتها الأصلية وجذبني شيء واحد لمحاولة كتابة مراجعة عن هذا الكتاب المعقّد، وهو حرفيّة الكتابة. الرّواية مبنيّة ومصاغة بشكل صعب ومقّعد، فهي مبنيّة على رمزيات، ومصادفات وإشارات  تجعلك أمام عمل صعب بعض الشيء، ويتحداك في نفس الوقت، بناءُ عملٍ كهذا يشبه بناء عمل هندسي. تنقسم الرّواية لثلاث أجزاء.

مدينة الزجاج.

الرّواية تتحدث عن شخص يدعى كوين، وهو كاتب روايات تحرٍ، يكتب تحت اسم وهويّة زائفة تسمى ويلسون، وهو لاعب بيسبول واسم بطل رواياته هو ماكس، وفي نفس الوقت يتلقى مكالمةً غريبة من شخص يصرّ على محادثة المحقق بول أوستر، في النهاية ينجرف ويدعي بأنّه بول أوستر ويذهب لمقابلة ذلك الرجل المدعى بيتر ستيلمان. هناك يتعرف على قصة بيتر ومخاوفه لأنّه مهدّد بالقتل من أبيه الذي بدوره اسمه بيتر ستيلمان أيضًا. الابن لا يعرف اسمه الحقيقي. وتكمل الزّوجة القصّة وتحدّثه بأنّه حبس طفله لسنوات واكتشف بعض حريق وذهب الأب للسجن، والآن هو في الخارج وهو يهدّد بقتل ابنه، ثم تعطيه شيك به مبلغ من المال عليه اسم بول أوستر، ثم يتجه بول أوستر الآن لمتابعة بيتر ستيلمان ومحادثته ثلاث مرّات بثلاث أسامي (كوين، هنري دارك، وبيتر ستيلمان الابن) وتدوره بينهم محاوارات حول الهويّة واللّغة، وعن أمريكا بنفهسا وكيف هي مدينة المكسورين وعن الهويّة الغامضة لأمريكا، وبيتر سيتلمان لديه مفكرة حمراء يكتب بها عن مشروعه اللّغوي الجديد، وابتكاره الذي أعطى له مثال وهو بأنّ الشمسية تكتسب صفتها واسمها من قيامها بدور الحماية لك من المطر، لكنّ حين لا تقم بذلك وتفقد دورها فكيف تسمى بنفس الاسم. المحادثات تدور حول هويّة اللّغة وقوّتها في التّعبير وتجاوز حدودها. بول أوستر لديه مفكرة حمراء يكتب بها هو الآخر، ويقرأ كتاب بيتر ستيلمان وهو كتاب له شخصية تدعى هنري دارك يتم إدعاء بأنّه كاتب فقدت كتبه ووجد بيتر تلك النسخة الوحيدة من كتابه وهي تتحدث عن برج بابل والفردوس وفكرة أنّ أمريكا هي من ستوحد العوالم كلها. تتشابه القصة مع ما فعله بابنه ووضعه في ذلك العالم المظلم.

يتعرف بول أوستر على بول أوستر الحقيقي ومن هنا دعونا نتحدث عن كوين بدلًا من هويته المنتحلة. يجد بأنّ ابن بول أوستر اسمه نفس اسم كوين، ثم تدور أحداث يتتبع فيها كوين بيتر ستيلمان، ويفقده ثم يأتيه خبر من بول أوستر يخبره بأنّ الشيك لم يتمكّن من صرفه، وبأنّ بيتر انتحر وذلك الخبر منشور في الصحف. يعود كوين لمنزله ليجد بسبب تأخره عن الإيجار أتّه قد تم طرده، وسكنت فتاة مكانه فيذهب لبيت بيتر سيتلمان الابن الذي فشل في التواصل معه ومع زوجته، فيجد البيت خاوياً، ثم يذهب في حالة ليخلع ملابسه ويجلس عاريًا ثم ينام في منتصف الغرفة ويستيقظ ليجد الطعام. يتدخل الرّاوي ويأتي مع بول أوستر الحقيقي للشقّة لكي لا يجد كوين ويلوم بول أوستر بأنّه لم يلعب دور أفضل من ذلك.

الرّواية الأولى تحدّثنا عن العزلة، و التي يقع فيها كوين الذي فقد ابنه بيتر والذي يملك نفس أوّل اسمٍ لبيتر ستيلمان، وينتقل بنا لانعدام واهتزاز هويته، حيث يكتب باسم منتحلٍ، وينتحل شخصية بول أوستر لكي يقوم بالتّحري وكأنّه يصير بطل رواياته ماكس، حيث يصبح ما كان يكتبه بشكل ما ويعيشه وينخرط في عوالم تشابه في طبيعتها تلك التي كان يكتبها. البطل الغرائبي المليء بالتغييرات يدور بنا في أحداثه في المدينة، ومنها نرى بعضاً من ملامح المدينة وهوية نيويورك وأمريكا، المدينة الصخابة التي تتميز بالانعزال الاجتماعي وانمساخ الهوية للعديد من النّاس وتحطهم في خضم الحياة. الصخب والتكسر هما الصبغة الأساسيّة. ثم يدور حول ألعاب روائيّة بارعة كتلك القصة التي تنتهي بشكل غامض كالعديد من أحداثها، وكأنّ كل شيء يصير في دائرة، فهو أب لبيتر الذي مات ثم يجد بول أوستر نفسه ثم يصير بول أوستر الذي يملك ابناً له نفس اسم كوين. تدور نقاشاتٌ حول دون كيخوت ونظرية بأنّ الكاتب قد اخترع شخصية ادّعى سيرفانتس بأنّها فقدت الكتاب وهو قام بترجمته، ومن خلال تلك الحبكة أقنع القارئ بأنّه لم يكتب الرّواية لكي يتخفى خلفها، ويشير بول أوستر لرواياته خلال تلك القصة.

الحلقات الغرائبيّة قد تبدو هناك رمزيات ودلالات نفسيّة ومعاني خلال الكتاب. فالكتاب يدور حول الكتابة وحول الكاتب وهويته وكيف يتخفى وينعزل عن هويته كما حدث لبول أوستر، بل تشعر كأنّ الراوي الذي تدخل في النّهاية قد تدخل مع شخصيات هو كان بطلها أيضًا وبأنّ الموضوع حيلة وحبكة ولعبة فنيّة غريبة. لعب روائيّة ومهارات مبتكرة لبثِ المتعة، فلو كُنت على علاقة مع فنّ الكتابة ستدرك بأنّه لايشترط وجود تفسير لكل شيء، بل ربمّا عليك تقبل الغرابة والجنون والسير معهما لكي تصل لعمق المتعة وعُمق المعنى.

الأشباح.

الرّواية عن بلو وبلاك. رواية من 98 صفحة. لم يستخدم فيها أسماءً حقيقيّة، حيث ربّما يكون هناك دلالة عن فقدان أو سؤال عن الهويّة، أو رغبة في عدم جدوى الأسماء، حيث يشير لكتاب يحدثنا بأنّ الكاتب يفقد هويته حين يكتب وينعدم وجوده، وإن خرج لا يعود كما هو، كأنّه شبح، وهنا نفس المقاربة لذلك العمل. نشير أيضًا بأنّه في نهاية الرّواية الثالثة له أشار بأنّه قد صنع مدينة الزجاج والأشباح لخلق نفس القصة، ولكن على مراحل وطبقات مختلفة، وهنا نجد الإجابة للتشابه بين أوّل روايتين في الحالات والتيمات المتعددة. بلو يـُكلف بمراقبة بلاك وكتابة تقارير وإرسالها لوايت. ينخرط في تلك العملية حتّى يفقد نفسه وينعزل. يجلس في شقته يراقب من الشرفة بلاك الذي يقرأ في كتاب والدن ويكتب.

ينخرط بلو ويتتبعه حيث يدخل مكتبة خلفه أو مطعماً، ويتابع حياته، وتتابع الصدف حتّى ينسى من هو ويصير مهووساً ومنخرطاً في عملية المتاعبة، وأرسل في مرّة بأنّه لم يفعل بلاك شيء ليوبخه وايت على الكذب، ثم يصل ليحاور بلاك بشخصيات منتحلة مختلفة وتدور بينهم حوارات شيّقة بنفس متعة حوارات بيتر ستيلمان وكوين ( بول أوستر) في رواية مدينة الزجاج. تتشابه الحياة مع أوّل رواية، حيث تشعر بأنّ بول أوستر يعكس الوجه لبعض الحالات الشعوريّة وكأنّه يظهر الوجه الآخر لها، ونجد في النّهاية بأنّ تقارير بلو تذهب لبلاك، حيث أنّ كلاهما يراقب الآخر وسنجد شيئاً مشابهاً لذلك في آخر الرّواية، حيث كوين سيراقب فانشو الذي بدوره يعلم مراقبة كوين له، ويستغله في ذلك ليدخل في خِضم تجربة سفر وترحال وتنقل، يبتعد بها عن حياتِه وهويته، ويدخل بعض الإثارة لها، حيث ترك زوجته وطفله وأعماله الأدبيّة خلفه، وجعل من كوين شخصاً يلاحقه ويترك له الأدلّة.تتشابه القصّتانِ لحدّ بعيد وكأنّ بول أوستر صنع دوائراً وعقداً يُشير بعضها للبعض وتكمّل بعضها، وكأنّ هناك حالاتٍ قام بخلق أشكال مختلفةٍ وصفات ومعاني متباينةٍ لها. بلو يصبح شبحاً في نهاية ذلك العمل، كنفس الإشارة التي أشار لها بول أوستر في بداية العمل الصغير.

رواية مبتكرة تشبه تجربةً صغيرةً، رغم صغرها لكنها ربّما تعتبر الجزء الأقل متعةً في الرّواية، لأنّه يتشابه مع العديد من الأشياء كما أشار بول أوستر لكن بطبقة مختلفة تخدم غرضه.

الغرفة الموصدة.

الغرفة الموصدة تتحدّث عن فانشو Fanshawe، الذي يترك زوجته وأعماله الأدبيّة ويرحل بشكل غامض. لم يرغب في أن ينشر أعماله من قبل، وسيشرح لنا بول أوستر الدوافع في نهاية العمل. قبل غيابه أخبر زوجته بأن تعرضها على صديقه وهو الرّاوي ولو أعجبته فلنيشروها ولو لم تعجبه فليدمّروها، وكان هذا العرض رغبةً منه لوقف إلحاحها على نشر الأعمال وليجد لها زوجاً بعد رحيله، حيث أنّه أخبرها لو رحل في يوم بأنّ تقوم بعرض الأعمال. رحل ودخل الرّاوي لمجرى حياة الزّوجة صوفي ويقع في غرامها ويتزوّجها، ويصبح أباً لابن فانشو ثم ينجب طفلاً آخر، تعكس تلك القصّة لهذا الحد الوجه الآخر لقصّة كوين، الذي فقد هويته وفقد ابنه وزوجته، هنا شخص يترك هويّته وزوجته وابنه وكل شيء، وهنا شخص يحصل على كل شيء، كأنّه يعكس حالة كوين ويرينا أوجهاً مختلفة لتلك الحالة الوجدانيّة. فانشو يرسل لصديقه رسالةً يحذّره بالقتل لو حاول البحث عنه. ينشر أعمال فانشو ويتبع حياة فانشو عن طريق محاولة الكتابة عنه وأن يعتبره ميتاً. ينبش في ذكريات طفولتهم سويًا ثم يزور أم فانشو ويمارس معها الجنس بعد أن أخبرته بقصة فانشو مع أخته إيلين، وكيف أنّ كتاباته قد دمرت حالتها النفسيّة في فترة وتسبب ذلك في رغبة دفينة له بعدم النشر وترك جامعة هارفارد.

فانشو كان يرسل لإيلين رسائلاً تتبعها الراوي لفرنسا حيث قابل بيتر سيتلمان الابن، وفي خضم سكره إدّعى بأنّ بيتر هو فانشو وظل يلاحقه حتى ضربه بيتر بقوة وعنف. قابل صديقة قديمة لفانشو، ثم عاد للبيت حيث هناك كانت صوفي التي تشعر بأن زوجها سيرحل منها لو أكمل الكتابة عن فانشو، حيث تخشى فقدانه كما فقدت زوجها الأول، بل تريد وضع الغبار على فانشو ورحيله، رغم أنهم كسبوا أموالاً طائلةً من كتب فانشو الأكثر مبيعًا، وهي من شجعته على الكتابة عن صديقه بحجة أنّه أفضل من يستطيع القيام بذلك. ينخرط الراوي في الأمر حتّى يفقد نفسه ويلهث وراء المتابعة والتلصص ويتشابه ذلك مع أول روايتين، حيث في كل منهم كاتب يراقب كاتباً آخر، بل جعل في ثاني عمل كاتبين يراقبان بعضهما البعض، وأحدهم يستخدم الآخر لغرضه. المراقبة والتلصص والتشابه الكبير يدخلك في خضم لغز صعبٍ ومحير، وهو بناء بول أوستر لعوالم ثلاثيّة نيويورك.

يرسل فانشو رسالة لصديقه يدعوه لبوسطن وهناك يخبره خلف الباب بأن لا يدخل لكي لا يقتله، ويحدثه عن قصة كوين وعن رغبته في الابتعاد، وبأنّ حياته لا تعني ما تعينه حياتهم، وأن زوجته لم تكن السبب ولم تذنب بل تعمد اختيار زوج لها، ولقد استاء وغضب في عدّة مرات من نشر أعماله، ومن عدّة خيارات تمت، وعن تنقله وترحاله، ويتضح كيف أنّه قد دمّر حياة صديقه وهويته، فلقد صار صديقه يحتل مكان فانشو بل يتبعه أيضًا! فانشو في ضمن سرده لقصة تنقله أخبره بأنّه تجاوز السنة بدون أن يرى أحداً وكيف دبّر أمر أحواله الماليّة وأكله وغيرذلك. يترك له مفكرة حمراء بالخارج كتلك في مدينة الزجاج، وينبه بأنّه بلع سم وسيموت.  نعود لإشارة الرّاوي بأنّه هو كاتب أول روايتين وهو صنع نفس القصة على طبقات مختلفة، ونربط بينهم وبين التشابه في حلقات هذا العمل، فالكاتب صنع لقصصه طبقات مختلفة كأنّها تدور في دوائر وتتشابه رغم التغاير لتحيل إل حالات شعوريّة ونفسيّة مختلفة لكل قصة. حيلة بول أوستر الروائيّة غريبة وذكيّة كأنّه كتب آخر جزء ثم كتب أول جزئين من ثلاثية نيويورك.

في النهاية تجد التلصص والعزلة والوحدة وسؤال الهوية للذات وهوية نيويورك نفسها. قد تجد الغرائبيّة وتقبلها، أمّا محاولة فك شيفرات الرواية فهو أمر مرهق، وقد لا ترغب في فك شيء، وتقبل العمل على أنّه ممتع، غرائبي به معاني مختلفة متشعبة، صنعت بحكبة فنيّة عالية الدّقة والترابط في الصنع كبناء هندسي، في كل الأحوال جميع الطرق ستؤدي بك لنفس النقطة وهي معاني الأحداث والقصص وحالات الشخوص، وليس القصّة نفسها كشيء مجرّد، من كل شيء ينبثق لغز تتم محاولة فكه، بل ما وراء اللّغز وما وراء القصة من معاني.
يضع أوستر مفارقة للحياة والموت بين طيات عمله ويبقى السؤال، من نطارد؟ هل ذواتنا وهويتنا أم ماذا؟

تدقيق: ميّادة بوسيف.

كاتب

الصورة الافتراضية
Marwan Mohamed Hamed
المقالات: 0

اترك ردّاً