اليهود المغاربة وموسيقى الروح والجسد.

اعتمرت الموسيقى المغاربية الكِبياه في لحظة إبهار من أجل نفخ روح جديدة ولترميم الخراب الذي طال الموسيقى في أوطانها، تهتز المطربة معلنةً عن نشوة الجسد بعد امتزاجها بموسيقى المغرب الكبير إذعانا للروح واستسلاما للحظة الصفوة، يكتبون تراث القدر شعرا ويجمعون كل ما هو فنّي أصيل ليذكرهم بالذات التي هُجِّرت وبقيت ألامها وأحزانها عالقة هناك في مسقط الرأس.

تصدح الكلمات بالشوق والحنين الى الأرض بنغمة يمكن أن ترى فيها ملامح قسنطينة وتلمسان ووجدة والدار البيضاء، وتهفوا قلوبهم لمعانقة روح أجدادهم، فهم يذكرون “زهرة الفاسية” التي صنعت أمجاد الفن المغاربي اليهودي، كمن يربط بين روح أورشاليم ومدينة فاس في المغرب، أن تغني أحزانك في القدس وتبكي أجدادك المغاربة بلغة فنونهم وأصالتهم في مشهد إبداعي تنقله للعالم، هذا ينم عن فخر يسكن أرواحهم وتشبثهم بقصائد أباءهم العريقة.

الغرابة والزين المَكمُول:

بملابس تقليدية وحلي أمازيغي تكتمل ملامح اليهودية بمغاربيتها فيما يشبه لوحة فنان عالمي تخط أنامله رونق المغاربية وهي في قمة الشوق، إذ تأسرك هذه اللوحة بمجرد أن ترتل ألحانها التي لا تقاوم في وسط مزيج من الأجناس القادمة من كل فجٍّ عميق يحافظ اليهود المغاربة على مُنَمنَماتهم وديكوراتهم كذلك ذوقهم الموسيقي ويورثونها لأحفادهم، بل فرضوا ثقافتهم ليُفخر بها داخل ذلك المزيج العرقي، فمن الغرابة صنعوا قداسة الفن وبسمراء غنجة العيون ارتقوا للكمال.

إن الإبداع خارج الوطن الأم كثيرا ما يدفع بالإنسان إلى التمسك بروح الأصالة وتفجر الطاقة الإبداعية، وما يقوي نشوة تذوق الإبداع أن لا تلاحظ فرقا بين صوت الجد والحفيد.

زهرة الفاسية صوت الأرض:

حين كان صوت المرأة يعتبر من طابوهات المجتمع ودخول المرأة إلى عالم الفن خِزّيا وعارا، ربما لذلك لم تُعرّف زهرة باسمها الحقيقي واكتفت بلقبها الفني ” الفاسية ” نسبة لمدينة فاس إذ تنحدر من عائلة يهودية، أتقنت الزهرة فن الملحون والأغاني الشعبية المتداولة قديما في المغرب وبرعت في الطابع ” الشكوري والتلمساني والغرناطي” كما ترجع شهرتها لأغنية ” حبيبي ديالي فين هو”. رحلت الفاسية إلى فرنسا في بداية الستينات ومنها إلى أرض الميعاد أين توفيت فيها.

ورد في كتاب أبو بكر بنور ” ضروب الغناء وعمالقة الفن” أن اكتشاف زهرة الفاسية كمغنية يعود إلى فنان اسمه إبراهيم باشا، حين انتقلت إلى الرباط واستقرت بها. يذكر البعض أن الفاسية تشبثت بمغاربيتها في فلسطين المحتلة إذ أنها لم تتخلّ عن لبس القفطان المغربي، وحتى بيتها كان مؤثثا بلمسة مغربية أصيلة.

الدين والأرض والموسيقى:

البشر جُبِلوا على الاختلاف وما يجمعنا هو الأرض، إذ لا يتفق الإنس فيما يدينون به كل وإيمانه، لكن تجمعنا الأرض التي توجب علينا حتمية التعايش. ولكن رفض الآخر المختلف عنّا تسبب في انقسامات وحروب من العصور الغابرة وما نعيشه اليوم من سفك لدماء سببه نزوات البشر، فقد لا يسمح الأغلبية لأقلية ما بالعيش معهم من منطلق ديني بحت ولو أن كل الديانات تدعو لتسامح والسلام في عمقها.

بالرغم من التفرقة والحروب والتهجير بقية الموسيقى تجمع البشر وتواسِّي جراح المُهجَّرين من أوطانهم وتجمع شتات الروح. اللحن المغاربي بأصوات يهودية في أورشاليم جزء من هذا التِّيه الجغرافي إذ تعمل على تذكير الأحفاد بأصولهم وتاريخهم في المغرب الأقصى.

قفطانك محلول يا لالا..الحب الأسود:

اشتهر بها المغني سامي المغربي واسمه الحقيقي “سالمون امزلاج” تعد أغنية ” قفطانك محلول يا لالا ” من التراث الشكوري البديع، وهي أغنية تخفي قصة حب بين “امزلاج” وامرأة مسلمة من سادة القوم في المغرب، يقال بأنه أهداها هذه الأغنية متغزلا بها، فقد كانت متزوجة بشخص من علية القوم. وبعد اكتشاف أمره من طرف أهلها هدّدوه بالقتل إن لم يبتعد عنها لينقذه محمد الخامس ملك المغرب وقتها ويطلب منه الرحيل.

صادفت هذه الأغنية في فيلم مغربي بعنوان “الزيرو” بمعنى “الصفر”، حيث شغلتها بطلة الفيلم في ماخور لترقص عليها ثم انضم إليها البطل بعدها، وكأن المشهد التمثيلي جاء ليرسخ قصة هذه الأغنية. فالبطلة كانت متزوجة من رجل آخر، ولكنها تتسكع مع البطل في سهراته ولياليه لتختفي بعدها ويكتشف “الزيرو” عودتها لحبيبها الأول مما يجسد فنيا رمزية القصة التي كانت نتيجة لهذه الأغنية التي ما يزال المغاربة يرددون ألحانها اليهودية على ألسنتهم.

الموسيقى هي رحم المغاربة الذي تتّفتق فيه الحياة، بالرغم من كل الهزائم التي منيت بها الشعوب المغاربية، إذ طالها التهجير والموت، ولكنها تأبى نكرانها واختارت أن تصدح بها في المسارح والبلدان الأجنبية التي مُزجت فيها الديانات بصوت الأرض.

تدقيق لغوي: سليم قابة.

كاتب

الصورة الافتراضية
Noreddine KHENICH
المقالات: 0

اترك ردّاً