تأثير الفراشة

مع نهاية سنة 2019، يتناول أحدهم في مقاطعة صينيّة تدعى ووهان Wuhan طبق حساءٍ يُقال أنّه حساء خفاش، أو ربّما مجرد حساء أسيوي، ثم فجأة يجتاح العالم وباء سرعان ما يصبح جائحة عالمية، وعلى إثرها ينهار اقتصاد دولٍ، ويتغير نمط حياة سكان كوكب الأرض، ناهيك عن ملايين ممّن ماتوا جوعاً في دول العالم الفقيرة أو تلك التي تعاني حروباً. 

إذاً حساء يصنع جائحة! فراشة ترفرف جناحيها في جانب من العالم لتسبب إعصاراً في الجانب الآخر من العالم. أعني أنّ الأشياء الصغيرة في نظامنا المعقد تكون لها تأثيرات عظيمة، فـالأنظمة حولنا معقدة وحتمية، ومعرضة للتغيير المفاجئ.

نظرية تأثير الفراشة التي هي جزء من نظرية الفوضى، تحاول تفسير الأحداث الكونيّة بطريقة منطقيّة، تقترح هذه النّظرية أنّ هناك روابط خفيّة بين الأحداث المختلفة حيث لا وجود للصدف. وهي نظرية فلسفيّة فيزيائيّة ضاربة في العلم والقدم، تسربت إلى الثقافة الشعبيّة حتى صار يُساء استخدامها بعض الأحيان، ولابد لنا من الوقوف بشكل موجز على تاريخ طرح النّظرية في المجتمع العلمي.

بدأ الأمر عندما بحث عالم الرّياضيات والأرصاد إدوارد لورنز Edward Lorenz عن وسيلة للتنبؤ بالطقس بعيداً عن النماذج الخطيّة غير الفعالة خلال خمسينات القرن الماضي، إذ ابتكر في الستينات كمبيوتر يتألف من مجموعات كثيفة من الأنابيب المفرغة والتوصيلات الكهربائيّة التي احتلت قسماً كبيراً من مكتبه، دأب الكومبيوتر على إصدار أزيز مزعج بالإضافة إلى توقفات مربكة، وكانت ذاكرته ليست كافية ولكن  بفضل هذا الكمبيوتر البدائي أوصل لورنز المناخ إلى أكثر عناصره أساسيةً، كما يقول جيمس غليك  مؤلف كتاب الفوضى وعلم اللامتوقع. وكانت بيانات الطقس  تٌطبع على هيئة سلاسل طويلة من الأرقام (رقمي واحد وصفر )، سريعاً ما أدرك لورنز أنّه يطبق قوانين نيوتن في الفيزياء، والتي تلائم مثلاً صناع الساعات الميكانيكية فيستخدمونها في صنع آلات تعمل بصورة تكرارية ( في الساعات مثلاً تتكرر الأشياء بانتظام ثابت). ثم لاحظ لورنز أن التكرارات لا تأتي على الشكل نفسه كلياً،  يوجد نمط ولكن مع اضطراب، نظام اللانظام. ما فعله لورنز لاختبار هذه الملاحظة، أنّه أدخل بيانات سابقة إلى الكمبيوتر حيث من المتوقع أن تظهر النتائج نفسها، أي أن يُكرر النمط نفسه (البيانات والنتائج يعرفها سابقاً وكان من المتوقع أن تظهر نفسها) لكن ما حدث أنّ النتائج كانت شديدة الاختلاف، ” اختفى التكرار بدل أن يكرر نفسه”. إنّ ما أدخله لورنز كان الأرقام التقريبيّة التي تمثل أحوال الطقس ظناً منه أنّ الفرق صغير يكاد لا يُلاحظ، ممّا يعني أنّه لن يحدث فرقاً مهماً. فتوصل لورنز إلى أنّ التغييرات البسيطة وغير الملحوظة تؤدي إلى نتائج كارثيّة.

قبل ملاحظة لورنز، كانت النظرية الشائعة، بأنّ الأشياء تميل ‘لى حالة الاستقرار، بمعنى آخر، “نستطيع إغفال التأثيرات الواهية، ثمة تظافر في عمل الأشياء لذا لا تتجمع التأثيرات الهينة لتولد تأثيراً قوياً”، فمثلاً يتم إدخال بيانات تقريبية إلى الكمبيوترات التي كانت توجه سفن الفضاء، وبالتالي الحصول على نتائج تقريبيّة، وهو الأساس نفسه الذي كان يعتمد عليه رواد علم المناخ عند التنبؤ بالطقس قبل ملاحظة لورنز. وبعد عدّة تجارب وملاحظات قام بها لورنز، تمكن في العام 1972 في اجتماع الجمعيّة الأمريكيّة للعلوم من طرح نظريته وطرح سؤال في ورقته البحثيّة المعنونة بـإمكانيّة التنبؤ، ” هل تتسبب رفرفة أجنحة الفراشة في البرازيل بإعصار في تكساس”. كان هذا السؤال بداية تسرب مصطلح تأثير الفراشة إلى الثقافة الشعبيّة والعودة إلى التحقيق في كتاب الخيال العلمي (صوت الرعد) لراي برادبري، والذي يطرح فيه قصة رجل يسافر إلى الزّمن لقتل ديناصور ثم بعودته يجد بقايا فراشة عالقة في حذائه قتلها دون قصد ليدرك أنّه بقتلها قد خرج عن مساره وغير مستقبل العالم. وقد استخدم لورنز الفراشة كتمثيل رمزي للإشارة إلى كمية غير معروفة، إذ وبعكس النّظام القديم لا يمكن معرفة ما يميل إليه النّظام بالضبط.

ولابد من الإشارة إلى أنّ ملاحظات لورنز الثوريّة قام باختبارها علماء آخرون في ستينات القرن الماضي، مثل رصد عالم فرنسي أمراً مماثلاً في مدارات الكواكب السيّارة، كما أنجز مهندس ياباني الأمر عينه باستخدام نماذج إلكترونيّة. وبالرّغم من الأصل الرّياضي والفيزيائي للنّظرية إلاّ أنّها سرعان ما انتشرت على المستوى الشعبي والعلمي، وتقريباً أصبح لكل حقل معرفي تصوره عن تأثير الفراشة أو نظرية الفوضى. ولا أدري إن كان يعتبر الأمر مبالغة حين يقوم بعضهم بربط أصل  تأثير الفراشة الفيزيائي والمخترع الأمريكي  بنجامين فرانكلين  الذي اعتاد على دراسة البدايات والعمل عليها.

نظرية الفراشة وتغيير العالم 

“كان يُعتقد أنّ الأحداث التي غيرت العالم كانت أشياء مثل القنابل الكبيرة، أو السياسيين المهووسين، أو الزلازل الضخمة، أو التحركات السكانيّة الهائلة…” ولكن بحسب نظرية الفوضى والعودة إلى تأثير البدايات كمحفز يُحدث فرقاً رهيباً في الهيئة التي يُصبح عليها حدث ما. ومن أبرز الأمثلة على ذلك نورد:

  • هتلر ومعاداة السامية 

الشاب الذي تم رفضه عام 1905 مرتين من كلية الفنون الجميلة، لينشأ في الأحياء الفقيرة ثم يتقدم كجندي في الجيش الألماني، ليقوم ذلك الشاب نفسه بعد حين بغزو أوروبا.

  • كارثة نازاكي 

كانت الولايات المتحدة تعتزم استهداف مصنع الذخيرة في مدينة كوروكو، وفي يوم الهجوم كان الجو غائما الأمر الذي حال دون رؤية العسكريين للمصنع، مما جعل الطيارين بعد محاولات فاشلة إلى اختيار نازاكي وتفجير القنبلة النوويّة التي تسببت بكارثة إنسانيّة وبيئيّة، يتصور بعضهم أنّ كوروكو محظوظة ونازاكي عكس ذلك بسبب تأثير الفراشة.

  • كارثة تشرنوبل 

حيث كان الخطأ في بعض التجارب النوويّة الرّوسية سبب في انفجار أسفر عنه  إشعاع أكثر 400 مرّة من اشعاع هيروشيما ويقال أنّ ثلاثة من الشبان تبرّعوا لاغلاق الصمّامات تحت الماء  لمنع حدوث انفجار ثاني ولو لا ذلك العمل البطولي لأصبحت نصف أوروبا غير صالحة للسكن مدّة نصف مليون سنة كذلك روسيا وأوكرانيا.

بالتأكيد، لا يعني ذلك إلقاء اللّوم على عامل واحد فقط أو تبرئة الأشخاص مما يقترفونه، لكن إرجاع الأحداث إلى بداياتها تعني تتبع الحدث بشكل متقن أكثر من ناحية، ومن ناحية أخرى التأكيد على ضرورة تهيئة ظروف الأوليّة المناسبة للتحكم بالنتائج بطريقة ما. لتوضيح ذلك، نجد في سيكولوجيا الإنسان، أنّ حتّى أصغر المواقف والتي ربّما لا يتذكرها الشخص في طفولته تحدث فرقاً في شخصيته، ففي المثلية الجنسية خير مثال على ما يحصل، تعرض الطفل إلى التحرش من نتائج كارثيّة حينما يصبح بالغاً.

وينسب عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، ما وصل إليه وما حققه إلى والدته حينما قررت إرساله إلى المدرسة. وعلى الأساس نفسه يركز رواد التنمية البشرية على أهمية القرارات الصغيرة التي تؤدي إلى نقاط تحول محورية. كل شخص بإمكانه أن يساهم بتغيير العالم أو جعل الأرض مكاناً افضل، خصوصاً مع  توقع كثير من العلماء بأنّ الأرض مقبلة على الانقراض السادس نتيجة الأفعال الفرديّة التي يقوم بها البشر. 

ومن الجدير بالإشارة، أنّ هناك عدّة أعمال سينمائيّة وتلفزيونية تناولت تأثير الفراشة، آخرها كان مسلسل Dark الألماني حيث أنّ حدثاً واحداً، أدّى إلى سلسلة متشابكة من الأحداث. وفي مجال الأفلام يوجد  فيلم The butterfly effect وفيلم   Mr nobody و About time.

المراجع:

  1. Britannica: Chaos theory
  2. Springerlink: butterfly effect 
  3. موقع life and business 
  4. نظرية الفوضى علم اللامتوقع: جيمس غليك

تدقيق لغوي: ميّادة بوسيف.

كاتب

الصورة الافتراضية
Zahraa Majid
المقالات: 0

2 تعليقات

اترك ردّاً