ليز مايتنر: الفيزيائية التي لم تفقد إنسانيتها

ليز مايتنر Lise Meitner واحدة من أبرز رواد الفيزياء النووية، حتى إنها لُقبت بـ (أم القنبلة الذرية)، رغم أنها رفضت مساعدة الحلفاء لتطوير السلاح الذري، والمفارقة أنها تعرضت للتجاهل عند تقديم ورقتها البحثية عن ميكانيكة الانشطار النووي.

إن حياة ليز بكل تفاصيلها الحزينة ملهمة، فقد ولدت في 7 نوفمبر عام 1878، في فيينا، لعائلة يهودية ليبرالية، كانت ثالث ثمانية أطفال، والدها المحامي فيليب مايتنر   Philipp Meitner الذي شجع أولاده على التعليم كان ملحداً. وقد  أصبحت اثنتان من شقيقات ليز كاثوليكيات وأصبحت هي نفسها بروتستانتية.

كانت والدة ليز، هيدويغ سكوفران مايتنر Hedwig Skovran Meitner، موهوبة، عازفة البيانو التي علمت أطفالها الموسيقى وقد أصبحت أخت ليز الكبرى عازفة بيانو ومؤلفة موسيقية، واكتسبت ليز شغفها بالموسيقى من والدتها، إضافة إلى شغفها في الفيزياء والطبيعة منذ طفولتها حينما كانت تتساءل عما يحدث حولها من ظواهر طبيعية، مثل بركة الماء المليئة بالألوان، وقامت بتجربة انهيار السماء حينما كانت طفلة، إذ كانت جدتها تخبرها بأن الخياطة يوم السبت تسبب انهيار السماء، فقامت ليز بإجراء اختبار، وضعت إبرتها على القماش، ووضعت رأسها في الداخل ونظرت بقلق إلى السماء، وأخذت غرزة، وكررت عدة غرزات أخرى، مما شكل لديها التساؤل والشك حول الثوابت.

في فيينا آنذاك، لم يكن مسموحا للنساء بدخول المدارس الثانوية فضلاً عن الجامعات، أي أن الدراسة تنتهي عند سن الرابعة عشر، وقد كانت ليز وقتها قد تعلمت الفرنسية والحساب والدين والتربية “ما يكفي لإدارة الأسرة وتربية الأطفال، والتحدث بشكل ساحر مع الزوج”، إذ حتى العلماء أنفسهم كانوا يعارضون تعليم النساء، وقد كانت ليز منزعجة من عالم فيزيولوجي مشهور نشر كتب ضد النسوية زاعما أنها تدمر الاسرة.

واستمر الحال حتى العام 1899، إذ تم السماح للفتيات بارتياد المدارس الثانوية والجامعات، إلا أن الوقت كان متأخراً بالنسبة إلى ليز، لذلك قررت أن تدخل إلى الجامعة بدراسة مواد ثماني سنوات خلال سنتين فقط،  لم تأخذ حتى استراحة خلال اليوم مما عرضها إلى سخرية اخوتها “لقد مرّت للتو في الغرفة دون أن تدرس! “. في العام 1901 تمكنت ليز من دخول جامعة فيينا مع ثلاثة نساء أخريات من أصل أربعة عشر امرأة بعد اجتياز امتحان القبول، وبذلك كانت أول امرأة تسجل في قسم الفيزياء قبل بضعة أشهر من عيد ميلادها الثالث والعشرين، لتنتهي “سنواتها الضائعة”  من عام  1892 إلى عام 1901 .

من الجدير بالذكر أن ليز لم تظهر اهتمامًا بالزواج، مما دفع والدها إلى القلق بشأنها,،ولضمان مستقبلها اشترط عليها الحصول على شهادة تدريس الفرنسية ثم التقديم إلى الجامعة – قسم الفيزياء الذي اعُتبر حلماً مجنوناًَ وقتذاك،  فالفيزياء تُعد مادة ميتة ولا توجد وظائف للفيزيائين-.

في جامعة فيينا درست الفيزياء تحت إشراف لودفيج بولتزمان Ludwig Boltzmann الذي شجعها على مواصلة حلمها في تعلم المزيد حول الفيزياء، حصلت على الدكتوراه عن أطروحتها التوصيل في المواد غير المتجانسة عام 1905 (وبذلك هي ثاني امرأة تحصل على الدكتوراه في جامعة فيينا).

قامت مايتنر بأول تجاربها في الفيزياء باستخدام الراديوم التي تبرعت به ماري كوري Marie Curie إلى جامعة فيينا، لاظهار أن تدفق جسيمات ألفا من المواد المشعة ينحرف قليلا خلال السفر عبر المادة. كما وشرحت أيضًا تجربة البصريات بإشراف اللورد ريلي وهو جون ويليام سترت John William Strutt فيزيائي إنجليزي حاصل على جائزة نوبل عن اكتشافه غاز الأرغون.

لم تتخلَّ مايتنر عن حلم “سنواتها الضائعة”، لذلك قررت مغادرة فيينا إلى أحد مراكز العلم فرنسا أو ألمانيا،  وقد حصلت على موافقة من ماكس بلانك Max Planck  لدراسة الفيزياء في برلين، مركز الفيزيائيين الحائزين على جائزة نوبل مثل ألبرت أينشتاين   Albert Einstein وماكس بلانك، وقد اعتقدت ليز التي غادرت فيينا في العام 1907 في التاسعة والعشرين من عمرها أن برلين أنقذتها من النسيان العلمي، فهل كانت برلين محطة يسيرة؟

لم يكن ماكس بلانك نسوياً بالطبع، ولم يكن من اليسير للنساء التواجد في محاضراته، إلا أنه لحسن الحظ اهتم بشكل خاص بـمايتنر حتى أنه دعاها إلى العشاء في منزله وحينها سألها عن سبب رغبتها بمواصلة  بدراسة الفيزياء رغم حصولها على درجة الدكتوراه فأخبرته ” أود الحصول على بعض الفهم الحقيقي للفيزياء”.

كان الحصول على مختبر لإجراء التجارب هو العقبة الأولى التي واجهتها ليز، في الوقت ذاته كان الكيميائي الألماني أوتو هان Otto Hahn يبحث عن مساعد لإجراء تجاربه، التقى الثنائي الذي استمر التعاون بينهم ثلاثون عاماً في خريف1908، هان الذي يصغرها بأربعة أشهر كان حدسياً، غالبًا ما كان يفعل الأشياء دون معرفة السبب بدقة ومنطقية؛ هو ببساطة كان لديه شعور بأنها قد تكون مفيدة في وقت ما، لقد كان يريد اكتشاف عناصر جديدة,على العكس من ليز التي تميل التفكير المنهجي والتساؤل بشكل دائم، كانت تريد فهم طبيعة الإشعاع وكيفية حدوثه.

أما المختبر نفسه، فقد كان قبواً رطباً في معهد كيمياء البروفيسور إميل فيشر Emil Fischer, ماينتر لم يكن مسموح لها بالتواجد في المحاضرات فكانت تختبأ تحت المقاعد للاستماع الى المحاضرات بالاضافة إلى العمل بدون أجر وعدم الدخول الى أي مبنى يستخدمه الرجال، فلم يتوفر لها حمام اذ كان يتوجب عليها الذهاب الى فندق خارج مبنى المعهد, لكن معاناة  مايتنر الأساسية كانت في عدم قدرتها على مشاهدة تجارب هان في الطابق العلوي. بالرغم من ذلك نشروا في السنة الاولى فقط من تعاونهم ثلاثة مقالات في الوقت الذي كان فيه هان أستاذاً و مايتنر مبتدئة.

بعد خمس سنوات من العمل في القبو الرطب، سمح لها فيشر بدخول المبنى وتم إنشاء حمام خاص لها كما أنه أصبح من الداعمين لها.
في تلك السنوات كانت ليز تحصل على إعانة بسيطة من والدها، لتنقطع هذا الاعانة في العام 1911 أي بعد وفاة والدها.
عملت مع ماكس بلانك كباحث زائر بدون أجر بالاضافة إلى عملها كمساعد مكتبي لـبلانك مقابل أجر منخفض ومثل ماري كوري في أولى سنواتها في فرنسا، فقد اعتمدت مايتنر على الخبز والقهوة.
حصلت مايتنر فيما بعد على منصب في معهد القيصر فيلهلم الذي تم إنشاؤه في العام 1912، بعد عام حصلت على منصب دائم في المعهد.
خلال سنوات الحرب، تطوعت كممرضة أشعة سينية (مثل ماري وإيرين كوري) في الجيش النمساوي وبعد عودتها إلى برلين عام 1916 شغلت منصب رئيس قسم الفيزياء في معهد القيصر فيلهلم.

بعد عام من عودتها حصلت على ميدالية Silver Leibniz عن اكتشافها لنظير البروتكتينيوم بالاشتراك مع أوتو، وبحسب بعض المراقبين فإن هان لم يكن مشاركا فعليًّا، إذ أنه أبدى فقط ملاحظاته في الكيمياء وربما قد قامت مايتنر بذلك كونها لم تكن معروفة كفاية بالإضافة إلى تجاهل المجتمع العلمي للنساء آنذاك.

رغم التمييز الجنسي فقد ترشحت مايتنر في عامي 1923 و 1924 إلى جائزة نوبل مع هان بالتأكيد لعملهم على عنصر البروتكتينيوم الجديد.

ومن الجدير بالذكر، أن تأثير أوجيه الذي اكتشف من قبل الفيزيائي الفرنسي بيير فيكتور أوجيه   Pierre Victor Auger في العام 1924 كانت قد سبقته في الاكتشاف مايتنر ولكنها لم تحصل على الفضل في ذلك.

أما اهم أبحاثها والتي هي حول الانشطار النووي، فقد بدأتها في العام 1926 (أي بعد تدريس الفيزياء في جامعة برلين حينما تحولت ألمانيا القيصرية إلى الجمهورية وكانت عنوان أول محاضرة لها عام 1922 “أهمية النشاط الإشعاعي للعمليات الكونية ”  هي بذلك تُعد  أول أستاذة فيزيائية في برلين.)

إلا أن أبحاث مايتنر لم تكتمل بعد اضطرارها إلى مغادرة ألمانيا عام 1938 بشكل غير قانوني، حيث حال وصول هتلر اإلى السلطة عام 1933، أي في ذروة حياتها المهنية، دون ذلك. في البداية كانت مايتنر آمنة نوعا ما كونها بروتستانتية  نمساوية بالإضافة لكون معهد فيلهلم كان لا يزال تحت سيطرة العلماء.

لم تكن مغادرة ألمانيا بالأمر اليسير بالنسبة الى مايتنر، فقط قضت فيها أكثر من 30 عاماً، كما أنها كانت تعمل على مشروع انشطار اليورانيوم بالتنافس مع إيرين كوري وزوجها وآخرين في فرنسا (بالطبع دون أن يدركوا أنهم يعملون على الانشطار النووي إذ كانوا يعتقدون ان الذرة لا تنشطر بل تمتص النيوترونات فتطلق اشعاعاً). 

بذل أصدقاء مايتنر الكثير من الجهد لتأمين هروبها إلى منفاها الاختياري بدون تأشيرة سفر إلى الدنمارك، إذ غادرت  في 13 يوليو 1938 مع حقيبة صغيرة تاركة أوراقها العلمية وشريكها العلمي هان وهي تشرف على الستين من عمرها. 

عملت في معهد كوبنهاغن الذي كان يترأسه الفيزيائي المعروف نيلز بور Niels Bohr، وبالتأكيد استمرت المراسلات العلمية مع هان، الذي لم يكن معادياً للسامية لكنه ربما كان قومياً محافظاً، وفي في 13 نوفمبر 1938 التقى هان مايتنر في كوبنهاغن للنقاش حول مشروعهم العلمي غير المكتمل. 

 غادرت مايتنر الدنمارك إلى معهد ستوكهولم في السويد لتعمل مع فيزيائي حائز على جائزة نوبل.

في العام 1939 اكتشف هان وستراسمان (أحد أعضاء الفريق العلمي الذي يضم هان، مايتنر، ستراسمان وابن أخيها فريش مايتنر)، الانشطار النووي إلا أنهم لم يتمكنوا من فهم آليته حتى انهم لم يطلقوا عليه الانشطار النووي، اذ أن توضيح الآلية وابتكار المصطلح كان من قبل مايتنر وابن أخيها إذ أوضحوا أن الذرة قابلة للانقسام كما تفعل الخلية الحية عند تكاثرها (ومن هنا جاء مصطلح الانشطار). لجنة نوبل فشلت في فهم دور مايتنر في العمل خصوصاً بعد انفصال الفريق العلمي ونفي ليز و فريش، لذلك مُنحت جائزة نوبل إلى أوتو هان.

غادرت إلى انجلترا في العام 1960 لتُلقي المحاضرات في كامبريدج ثم محاضرات في عدة جامعات في الولايات المتحدة, لُتمنح جائزة فيرمي من قبل هيئة الطاقة الذرية الأمريكية (وهي أول امرأة تحصل على هذه الجائزة،, بالتشارك مع فريقها ربما كاعتذار لم تقدمه لجنة نوبل عن تجاهلها لـمايتنر

لاحقاً بعد وفاتها تم تسمية أثقل عنصر مكتشف على اسمها meitnerium (العنصر 109 في الجدول الدوري).

توفيت ليز في 27 أكتوبر 1968 في كامبريدج بإنجلترا، وكتب ابن أخيها فريش على شاهد قبرها (العالمة التي لم تفقد إنسانيتها). وقد توفي هان بعدها بعدة أشهر.

قضت مايتنر سنواتها التاسعة والثمانين بكفاح لم يهدأ، تارة كامرأة واخرى كعالمة بالاضافة إلى معاناتها مع النازية، بالرغم من ذلك فقدمت قدمت الكثير إلى الفيزياء، ونشرت ما يقارب 150 بحثاً علمياً، وحظيت بصداقات حقيقة لأشهر علماء الفيزياء آنذاك مثل ألبرت أينشتاين ونيلز بور وماكس بلانك وإيروين شرودنجر وماكس فون وعالمة فيزيولوجيا النبات إليزابيث شيمان وآخرون وقد أطلق عليها  إميليو سيغري لقب “ليز اللطيفة” وقد كان دفء تلك الصداقات عوضاً جيداً عن رطوبة قبو الفيزياء والزواج. 

المراجع:

  1. Women in science: rachel ignotofsky: 50 fearless pioneers who changed the world 
  2. nobel prize women in science : second edition Sharon Bertsch McGrayne
  3. Lise Meitner and the Dawn of the Nuclear Rge: John Rrchibald Wheeler
  4. Britannica
  5. Atomic heritage foundation 
  6. Atomic archive 
  7. The conversion: Lise Meitner – the forgotten woman of nuclear physics who deserved a Nobel PrizeFebruary 7, 2019 
  8.  APS physics 
  9.  Live science March 29, 2018 Lise Meitner: Life, Findings and Legacy

تدقيق لغويّ: أميرة بوسجيرة

كاتب

الصورة الافتراضية
Zahraa Majid
المقالات: 0

اترك ردّاً