نصوص عبد الله ناصر، احتفاء بالغرابة والدهشة.

«للبيع: حذاء لطفل، لم يُلبس قط».


قصة الست كلمات هذه تنسب إلى الكاتب إرنست هومنغواي، الذي لم يكن يعلم أنه بكتابتها قد فتح بابًا جديداً لولادة أحد فنون كتابة القصص القصيرة: فن تكثيف المعاني بأقل الكلمات، فن القصة القصيرة جدًا أو “الأقصوصة”.

تتجلى أركان القصة القصيرة جداً الأساسية في: القصصية، والجرأة، والوحدة، والتكثيف، والمفارقة، وفعلية الجملة، والسخرية، والإدهاش، واللجوء إلى الأنسنة واتخاذ الأشياء لمواقف، واستخدام الرمز والإيماء والتلميح والإيهام، والاعتماد على الخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة والمربكة، بالإضافة إلى طرافة اللقطة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها بلغةٍ تجمع بين الشعريّة والقصصية .

كما تعتمد على الثنائية، مثل: الخيال/الواقع، الحلم/اليقظة، المحسوس/الملموس، وتعدد أوجه النص الواحد في الفهم، بالإضافة إلى مرجعية “التناص” التي يعتمدها، مثلًا: كأن يترجم معاني لوحة فنية ما إلى كلمات في القصة. ويمكننا باختصار القول بأنها مصداق للمَثل الصوفي المأثور عن النفري: “كلما اتّسع المعنى ضاقت العبارة “.
تأثر كتّاب العصر بهذا الفن بصورة جليّة في العديد من المؤلفات، ومن بين الكتّاب العرب الذي نحن بصدد التعرف عليه، الكاتب والقاص السعودي “عبد الله ناصر ” الذي نشر كتابين من هذا النوع: “فن التخلي ” و”العالق في يوم أحد”. عندما تسأل محرّك البحث غوغل عنه لا يتعب نفسه كثيرا ويظهر لك أول صفحة للويكيبيديا باسم (عبد الله ناصر، لاعب كرة القدم السعودي)!

مبدئيًا لا فرق بينهما سوى أن أحدهما يراقص كرةً برجليه، والآخر يراقص قلمًا بيده!
قد يصادفك اسمٌ ثانٍ لقاصٍ سعودي، لكن بألف تعريف زائدة ل “ناصر” يربكك ويدخلك في متاهة الأسماء. هذا اللُبس الذي عرّج عليه كاتبنا المنشود بمقال خاص تحت عنوان: “الرجل الذي له رائحة التفاح” عن القاص السعودي الآخر عبد الله الناصر ليكتمل البعد الثلاثي لمتاهة القصاصين؛ فكما قيل: “شبيه الشيء منجذب إليه”، أو مصداقًا لبيت امرؤ القيس وهو يناشد فاطمة:
أجارتنا إننا غريبان هاهنا ** وكل غريبٍ للغريب نسيب!
تبحث قليلا أيضًا ؛ تجد تعريفًا لهُ على موقع دار التنوير للنشر، تجذبك مقولة الروائي حجي جابر: “نصيحة لوجه الله والفن والجمال، من استطاع الحصول على هذه المجموعة فليفعل.”!

ألا يكفي إطراء سماوي كهذا أن يحرك فيك فضولًا لتجرب القراءة له وتجربة هذا النوع الجديد من الأدب المعاصر؟!
تذكّر أنك لست مجبرًا على ذلك، أو ربما تكون خائفًا؛ أُذكّرُكَ إذًا أنّ الفضول والخوف لا يلتقيان في جوف قارئ واحد.
الرسام الهولندي -الخالد في ذاكرة الفن طويلاً- فنسنت فان كوخ في رسالته لأخيه ثيو يقول: “أريد أن أبتكر خطوطًا وألوانًا جديدة، غير تلك التي يتعثر بصرنا بها كل يوم.”

وعبد الله تلميذ وفيٌّ لفنسنت، ويعمل بنصيحته عندما يكتب، أليست الكتابة أيضا رسمًا لكن بالحروف؟!

ولأن الخيال يُولّد الإبداع وأفضل من المعرفة -بتعبير آينشتاين- فهو يبتكر أساليب وعبارات بألوان وخطوط جديدة تثير الدهشة والصدمة على حد سواء، في قوالب تجمع بين الفانتازيا والواقع لدرجة أن الخيط الرفيع الذي يفصلهما ينقطع. كلمات تحمل أكثر مما قد يبدو عليها، جماليات وتناص غريب لم تعتد أن تتعثر بها عينُ القارئ.

تتعدد أوجه النصوص ويتغير محتواها وأفكارها وحجمها أيضًا، قد تجد إعادة فكرة بين نص وآخر. شيء كهذا أنقص من جودة العملين قليلاً لكن جودة النص لم تُلمس.

عن الوحدة والمشاعر، الاختلاف، الروتين، السعادة، العائلة، الحب، الفراق، الخيال والواقع، الشيخوخة والعمر، الفن والجمال، الأمل واليأس، عن الزمن والوقت، عن الأيام والساعات والأسابيع، عن الموت والحياة وأشياء أخرى يكتب عبد الله.

في شقته الصغيرة بالطابق التاسع عشر، اعتاد أن يعيش وحيداً منذ زمن، وسيبقى كذلك حتى آخر يومٍ في حياته، لأنه كان يخلط بين الحب والألفة. كان يخلط أيضاً بين أصيص الزهور ومنفضة السجائر عندما يدخن للدرجة التي كاد يفقد معها القليل المتبقي من عقله إذ صار للرماد منظر الزنابق. وعندما بات يخلط بين الجدار والمرآة آمن بقدرته الخارقة على أن يكون لا مرئياً في بعض الأوقات. في يومه الأخير سيخلط بين السماء والبحر، وستعتريه رغبة عارمة بالذهاب هناك ولكنه للأسف سيخرج من النافذة التي صار يخلط بينها وبين الباب وسيتمزق جسده أمام دهشة المارة الذين سيخلطون بدورهم بين رغبته في السباحة والانتحار .

من كتاب: فن التخلي، لعبد الله ناصر

بعض النصوص تستمد حروفها من قلب لوحات الفنانين، كلوحات مارغريت رينيه، آنسات هوبر، ساعات دالي. وتذكر كلما صادفك اسم فنانٍ ما؛ ابحث عنه وعن أعماله ستجد ذلك التوافق والتناص العجيب بين ما كُتبَ في القصة وما رُسم في اللوحة!

نصوص العائلة تبدو ذاتيةً بشكل محزن وحميمية بشكل لافت، خاصة تلك التي تتعلق بالأب، مثل نص: في يوم الأب العالمي، أبوة، عقوق.
عبد الله مفتون بالزمن والوقت أيّما افتتان، مثل: “ساعات مفقودة”، “العالق في يوم أحد”، “حوادث الأيام”.

بالمعنى الحرفي للعناوين يخلق زمنه ووقته على هواه، يشكل أسبوعه ويومه وساعاته ودقائقه كما يشاء، هناك أيامٌ مستعملة وأخرى معادة أسابيع ناقصة وساعات زائدة أليس الوقت هو ما نشعر به وليس ما يمر بنا؟ واللحظات هي ما نستشعرها وليست ما تمر بنا؟

لا يزال عالقًا في الأحد، بينما انتقل العالم كله إلى يوم الإثنين. يخشى أكثر أن تختلط عليه الآحاد فلا يعود قادرًا على تمييز الأحد الذي يعقبه الإثنين، فتدوم الآحاد الملعونة أسبوعًا آخر.
كلما اقتربت الساعة من الثانية عشرة ليلًا، فكر في القفز من نافذة الأحد، وليحدث ما يحدث، غير أنه في الحقيقة يخاف أن يرتطم بالجمعة. إذا كانت الجمعة الوحيدة في الأسبوع لا تطاق، فما بالك بسبع جُمعٍ غليظة؟

من كتاب: العالق في يوم أحد، عبد الله ناصر

يقول قائل بأن هذا تفخيم جلي بفن لا يمتهنه غير كسالى الكتابة وحلاقو العبارة؛ فترد عليهم النصوص بأن في الإسهاب مللاً والقلب يميل لكل خفيف، بينما العقل يهوى ألعابه تيمنًا بقانون رفعت إسماعيل رقم 5 -بطل سلسلة ما وراء الطبيعة – “لو عقلك لاعبك، خده على قدّ عقله” .

بقي أن أنوه إلى أن كتاب “فن التخلي” نصوصه أقصر وأوجز فهي قريبة إلى نصوص القصة القصيرة جدًا بينما “العالق في يوم أحد” نصوصه أقرب إلى الأقصوصة التي لا تتجاوز الصفحتين .
تتعدد الآراء فيه وتبقى للنصوص سلطتها وللقراء أذواقهم حتى لا تبور السلع، وإن دلّت هذه النصوص على شيء فهي تدل على الذكاء الذي يتسم به الكاتب أولاً والمخاطرة التي يقبلها ثانيًا لخلق جوٍ عام يشفي فضول قارئه أو يدهشه.
رائدةُ الأدب اللاتيني -إليزابيث أليندي- في أحد اعترافاتها تقول:
” القصة القصيرة بالنسبة لي جنس صعب كالشعر، ولست أظن أنني سأعود إلى محاولة كتابتها، اللهم إلا إذا سقطت عليّ من السماء.”.

في زمن قلّ فيه التجديد، ألا يكفي اعتراف كهذا أن يجعلنا نقراُ نصوصًا تحتفي بالغرابة والدهشة كأنها سقطت من السماء في ظلّ التكرار الممل للأدب العربي خاصةً والعالمي أيضًا؟!

كاتب

الصورة الافتراضية
Laib Kaisse
المقالات: 0

اترك ردّاً