الارتباطات الخادعة للأسباب الخفية للواقع


كل من يأكل الطماطم يموت في النهاية، ارتباطٌ مثاليٌّ، لكننا نعلم من خلال التجربة أن تناول الطماطم ليس قاتلا وأن الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى الموت لا علاقة لها بتناول الطماطم، في حين يمكن للاستهلاك المُفرط للطماطم المصنَّعة أن يؤدي إلى تقليل متوسط العمر المتوقع.


البحث عن قوانين السّببية هو جوهر العلم، من يؤثر على من؟ وكيف نميز السببية الحقيقية بين شيئين بينهما ارتباط بسيط؟

في التسعينات، تم إستعمال خوارزمية على مستوى المستشفيات لتتبع حالة الأشخاص الذين يتم إدخالهم إليها. حددت تلك الخوارزمية أن المرضى الذين يعانون من الإلتهاب الرئوي فقط قد نجو بنسبة اقل من أولائك الذين يعانون من الإلتهاب الرئوي والربو معا، لكن حتى وإن كانت الإحصائيات واضحة قد يعلم أي طبيب أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا. حيث يكمن حلُّ هذا التناقض الواضح في حقيقة أن مرضى الربو المصابين بالالتهاب الرئوي يتم نقلهم فورا إلى وحدة العناية المركزة، مما يضمن لهم معدل بقاء أفضل من أولئك الغير المصابين بالربو والذين يتم علاجهم في بيئة المستشفى العادية. و منه فإن الخبرة والحس السليم عاملان قويان يسمحان لنا في أغلب الأحيان بالتمييز بين الارتباط والسببية.
المصدر

مثال الجدل المحيط بالدكتور راولت والكلوروكين:

يمكننا أن نربط المثال السابق بقضية الرعاية ضد كوفيد 19من خلال الجمع بين هيدروكسي كلوروكين وأزيثروميسين، تلك القضية التي ارتبطت باسم الدكتور راولت (2)، حيث خلق جدلا مثيرا في سياق فاسد وبسبب فاسد، وكذا تصعيد وسائل الإعلام والمصالح المالية لبعض الجهات الفاعلة في العمل: إنشاء روابط سببية (فعالية العلاج أم لا) من الارتباطات الملحوظة التي لا معنى لها طالما لم يتم أخذ جميع المعلومات بعين الاعتبار، بما في ذلك التحيزات الإجرائية وطريقة إنشاء تلك البيانات.

من خلال الميتا-دراسات (دراسات الدراسات) التي تحاول استنساخ نتائج الدراسات السابقة، توصلنا إلى كون العديد من “الأسباب” هي في الواقع تحليلات ضعيفة ومجرد روابط قائمة بين الارتباطات (الحقيقية) والسببية (الخاطئة) وأحد أهمّ أسباب ذلك هو الإحصائيات الكلاسيكية التي تم تطويرها منذ بداية القرن العشرين والتي لاتزال غير مهيأة للتمييز بين السببية والارتباط.

حدود الإحصائيات و تأثير اللقلق:

تسعى الإحصائيات في الأساس إلى تحديد درجة الارتباط بين الأحداث المختلفة من خلال البيانات المتوفرة، وغالبا ما يتم اعتبار الارتباط العالي كمؤشر لعلاقة سببية، لكن لا يُعتبر ذلك “مؤكدا” على الأرجح في “zététique” أو ما يسمى “علم الشك“، نتحدث عن “تأثير اللقلق”:

يسمى الخلط بين الارتباط والسببية في علم الشك بتأثير اللقلق (يشير إلى الارتباط المضلل بين عدد أعشاش اللقلق وعدد الولادات البشرية) وحتى في العلم وخاصة في الإحصاء، يتم التعبير عنه كمغالطة منطقية بعبارة “الارتباط لا يعني السببية”، (مع هذا، ولكن ليس بسبب هذا).
الخطأ الشائع هو الاعتقاد بأن معامل الارتباط العالي يؤدي إلى علاقة سببية بين الظاهرتين المقاستين. بينما في الواقع، يمكن ربط كلا هاتين الظاهرتين بظاهرة المصدر نفسها بمتغير ثالث غير قابل للقياس، يعتمد عليه الآخران. مثلا عدد حروق الشمس التي لوحظت في منتجع ساحلي، يمكن أن يرتبط ارتباطًا وثيقا بعدد النظارات الشمسية المباعة، لكنّ أيًّا من هاتين الظاهرتين ربما لا يكون سببًا للآخر.
المصد
ر

القيمة الاحتمالية الشهيرة (رو)، التي غالبا ما يتم الاستشهاد بها في التحقق من صحة “حقيقة” اكتشاف جديد أو تأكيد فرضية علمية، هي حساب للارتباط وليس السببية. لكن وقَعَ تشكيكٌ في استخدامها المسيء في السياق الطبي في بعض الأحيان، أما في سياق الفيزياء، نتحدث عن 3 سيغما أو 5 سيغما، وهو حساب إحصائي يعطي قيمة لاحتمال أن النتيجة ليست في الواقع بسبب علاقة سببية، “ولكن لمصادفة أو لخطأ آخر ليس محددا”، عندما نقول أن نتيجة ما قد تجاوزت 5-سيغما على سبيل المثال، فإننا نعني بذلك أن احتمال حدوث خطأ هنا هو 1 في 3.5 مليون. يبدو الأمر مطمئنًا، لكنه يبقى على نحو مقياس للعلاقة، وليس مقياسا للسببية، لأنه في الواقع لا توجد مثل هذه الأداة لقياس السببية البحتة، على الأقل ليس ضمن صناديق الأدوات الرياضية المعتادة.

نظرية الاستدلال السببي:

تمت معالجة هذه المشكلة الأساسية في التسعينات من قبل عالم رياضات يهودا بيرل من جامعة كاليفورنيا، بهدف إضافة عامل “فعل” إلى صندوق الأدوات، وهو أداة تجعل التمييز بين الأسباب والآثار المترتبة ممكنا بوضوح.
على سبيل المثال، سيؤدي تطبيق عامل “فعل” على الضغط إلى تغيير القراءة على جهاز البارومتر، أما من الجهة الأخرى فتطبيق عامل “فعل” على جهاز البارومتر لا يغير من الضغط، منطقيٌّ جدا، لكن يتمثل هذا المبدأ في محاكاة ما الذي يمكن الحصول عليه باستخدام “فعل” من حصيلة تجربة عشوائية مثالية، غير أن الاختيار لن يكون عشوائيا إذا كانت التجربة ستتم عن طريق بيانات مرصودة، وهذا ما يعيدنا إلى مثال الكلوروكين والنقاش حول ما إذا كانت التجارب العشوائية ضرورية أم لا دون تهميش  خطورة استخدام مرضى حقيقيين لإجراء تجارب عشوائية لأن ذلك قد ينطوي على إخضاع بعض المرضى للعلاج الوهمي “بلاسيبو”، وآخرين لدواء “حقيقي”. لطالما رفض الدكتور راولت القيام بالأمر ، وأدخل أولئك الذين ادّعوا ذلك تحيزات لصالح فرضياتهم. (انظر هنا ورقة بحث Surgisphere التي نشرتها مجلة لانسيت، قبل أن يتم حذفها من قبل نفس المجلة بسبب الانعدام الكبير للمنهجية).

عامل “فعل”، من النظرية إلى التطبيق:

عامل بيرل “فعل” الذي جعل منه الحاصل على جائزة تورينج عام 2011 والتي تعادل جائزة نوبل لعلوم المعلومات، حيث أسس نظرية الاستدلال السببي التي تمكنه من معالجة هذا النوع من المشاكل، أين تعد الحاجة إلى ضمان روابط السبب والنتيجة  أمرًا أساسيًّا في العالم الحديث وفي شتى المجالات: الصحة، السياسة المالية، البيئة، وما إلى ذلك، من هنا تولد الاهتمام الكبير لـ”فعل” بيرل. لكن ولسوء الحظ، يصبح التدريب الرياضي معقدا بشكل رهيب بمجرد أن يصبح الوضع معقدا فقط إلى حد ما. فالترابط بين الضرائب على التبغ والصحة على سبيل المثال، يضطرب بمجموعة من العوامل المساعدة المتعلقة بالعمر والجنس ونمط الحياة وغيرها. ففي تقييم العلاقة السببية بين مستوى ضرائب التبغ وصحة المجتمع يعني تحديد مجموعة من البيانات أين تظل جميع العوامل المساعدة ثابتة بينما المتغير هو قيمة التسعير وبالتالي مستوى الضرائب، مما يقلل من حجم العينة النهائية لدرجة أنها لم تعد تمثل الكثير.
والأكثر من ذلك، أن حساب الاستدلال السببي هذا لا يمكن أن يتم دون معرفة مسبقة لعلاقة بين السبب والنتيجة. نحن نعلم أن كل دواء له تأثير، ولكننا بحاجة إلى “فعل” لتقييم تأثيره بشكل مستقل عن العوامل أو التحيزات الأخرى، وهذا يجعل من الصعب للغاية تطبيق هذه الطريقة على الحالات المعقدة لأننا ببساطة لا نعرف ما إذا كانت هذه العلاقة السببية موجودة أم لا.

في مواجهة ذلك، قام بعض الباحثين بعملية مطاردة سببية عبر البيانات الضخمة Big data: بتطبيق تقنيات تنقيب البيانات Data mining على قواعد البيانات الضخمة، مثلا، على جميع الدراسات الطبية التي أثبتت كل منها وجود السببية بين هذا المنتج ومثل هذا التأثيرالمعين ..

إن ربط هذه الدراسات ببعضها البعض يجعل من الممكن العثور على روابط جديدة: لنبسّط ذلك، إذا أظهرت دراسة وجود صلة بين “أ” و “ب” ، وأخرى بين “ب” و “س” ، فإن هذه التقنية تجعل من الممكن إثبات وجود ارتباط بين “أ” و “س” ومنه يمكننا تطبيق طريقة الاستدلال السببي من أجل تقييم قوة هذا الارتباط وحتى استخلاص تطبيقات جديدة إن لزم الأمر.

في البحث عن الأسباب الخفية:

يذهب باحثون آخرون إلى أبعد من ذلك، في البحث عن أسباب غير معروفة داخل الكم الكبير من البيانات المراقَبة، سواء الطبية أو غير ذلك، من خلال تحديد الأنماط. نحن نعلم أن زيادة الضغط الجوي يتسبب في ارتفاع القيمة على شاشة البارومتر، و هذا بغض النظر عن موقع القياس أو نوع البارومتر. إذن يمكن أن تشير هذه الأنماط إلى وجود روابط سببية.

يكشف الاختبار عما يمكن أن يتسبب في تحديد معدل معين من الخصوبة في بلد معين. يؤكد هذا الاختبار علميًّا أن معدل المواليد في بلد معين يعتمد بشكل أساسي على معدل وفيات الرضع. يتسبب ارتفاع الثاني في ارتفاع الأول.

يجد منهاج الكشف عن الأنماط والاستدلال السببي هذا تطبيقا طبيعيا و فوريا في دراسة تغير المناخ. فيما لا يزال تحديد الأسباب الحقيقية وقياس آثارها أمرا معقدا. على سبيل المثال، إلى أي مدى يعكس الارتباط الملاحَظ بين مستوى ثاني أكسيد الكربون ودرجة حرارة الغلاف الجوي في وجود العلاقة السببية بين الظاهرتين؟ الواقع أن زيادة درجة الحرارة تتسبب أيضا في حد ذاتها في زيادة ثاني أكسيد الكربون بسبب التبخر الناتج عنها.

إذا قبلنا فكرة أننا نعيش في عالم سببي، حيث أن كل ظاهرة هي تأثير سبب أوسبب لتأثير مستقبلي، فإن تطوير أدوات علمية تسمح بتحديد الأسباب العميقة والخفية بشكل مستقل وبتحديد ملاحظات الارتباط البسيطة، ستكون ذات طبيعة ثورية تقريبا، ومنطقةً يلعب فيها الذكاء الاصطناعي دوره الكبير. لكن إلى أي مدى يمكن أن تذهب؟

الانحراف عن أسس العلاقة السببية:


يعيدنا هذا السؤال إلى مؤلَّفين إثنين، ومقالَين يتناولان العلاقة السببية. أولا، اقتراح الفيزيائي لي سمولين استبدال الزمكان الخاص باينشتاين (حيث تكون السببية في الأساس مجرد وهم) بكونٍ سببيٍّ يعيد إنتاج وهم الزمكان:

لنقل بعبارة أخرى، أن الأحداث الناتجة عن التفاعلات بين الظواهر “الأم” (مثل الاصطدامات بين الجسيمات على مستوى مقياس الكم)، والتي حدثت خلال فترة زمنية معينة، وهذا لا رجعة فيه، والتي في نفس الوقت، تبني هذا الذي نسميه الآن الزمكان.

المفتاح لفهم هذا النمط هو مفهوم الأفق: لنعتبر أن الأفق هو كل شيء موجود في الماضي “لحدث معين” وهو كل ما نراه وراءنا. حتى يتفاعل حدثان، أي حتى نتمكن من التفاعل مع شخص آخر، يجب أن تكون هناك نقطة اتصال “نقطة تداخل” بين الأفقين فإذا لم يكن الأمر كذلك، فلن تكون لدينا معلومات يمكن بها المرور من أفق لآخر.
المصدر

ثانيا، اقتراح عالم الرياضيات ستيفن ولفرام الذي يقول فيه أن سبب كل شيء هو التكرار إلى ما لا نهاية لمجموعة من القواعد البسيطة التي تولّد بمرور الوقت تعقيدا هائلا نسميه الطبيعة، الحياة والكون:

مبدئيا، من الممكن إنشاء نماذج للكون على أساس تكرار القواعد البسيطة (نجد هنا مبدأ الأتمتة الخلوية التي تكرر نفس القواعد إلى ما لا نهاية)، وستبدأ بعض هذه الأكوان في الظهور كوجهين لعملة واحدة، أو الخصائص التي نسميها “النسبية” أو “ميكانيكا الكم”.

يصف الأول المقياس الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة ” المرئي”، والثاني المقياس المجهري. هذه الخصائص الناشئة ستصبح بعد ذلك نتيجتين عن تعقيد هائل ناتج مع مرور الوقت، وهذا كله بتكرار قاعدة انطلاق بسيطة للغاية.
المصدر

وفقًا للنهجين السابقين، اللذين يختلفان تماما لكنهما يشتركان في استخدام نوع من السببية الوجودية التي تتكاثر بمرور الوقت للوصول إلى الكون المرئي، فنحن حقا في عالم سببي من حيث المبدأ “أو الحتمية”، لكن دائما من حيث المبدأ، يجعل مستوى تعقيد الشيء استحالة تكوين أي توقع أكيد.

بعبارة أخرى، في عالم سببي معقد، يمكننا أن نعرف أن المستقبل محدد سلفا ولكن لا يمكننا معرفة ما الذي يحدده (ولا يمكننا العودة إلى الحالة الأولية)، يمكن فقط معرفة الروابط السببية البسيطة، وهو ما لا ينقص من أهميتها ويجعل كل شيء يمكننا أن نستخرجه أو نستفيد منه “نسبيا”.

المصدر: هنا

تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة.

كاتب

الصورة الافتراضية
ikram benmeuraiem
المقالات: 0

اترك ردّاً