قيصر أمين بور: لا يمكن للوردة أن ترسم لنا خطا بيانيا لأريجها

منذ سقوط نظام الشاه وحلول نظام ملالي بإيران، شهدت الساحة الأدبية الإيرانية ثلاثة أجيال من الشعراء. ويعتبر “قيصر أمين بور” من شعراء الجيل الأول للثورة، إذ ولد عام 1959 في مدينة دزفول بمحافظة خوزستان وحاز على شهادة الدكتوراه في الأدب الفارسي من جامعة طهران.

وعلى الرغم من أن مسيرته الشعرية تعتبر قصيرة بالنظر إلى سنه عند وفاته (توفي عام 2007 إثر أزمة قلبية مفاجئة) إلاّ أنه ترك عدداً مهما من الدواوين الشعرية كما أصدر في النثر عدة كتب.

يُعتبر من أشهر الشعراء في إيران المعاصرة ويُعرف عنه الابتعاد عن الضجيج والأجواء، فهو لم يكن يجري لقاءات صحفية ولا كان على استعداد للإطلالة من وسائل الإعلام العامة، بل ظل يفضل دوماً تكريس وقته لينهمك في أعماله وعطائه ليعيش حياته بشاعرية أوسع وأعمق وإضافة إلى التدريس في جامعة طهران.

تولى الدكتور قيصر أمين بور رئاسة تحرير مجلة “سروش” الخاصة بالناشئة.

أما عناوين أهم مجموعاته الشعرية فهي على التوالي: في زقاق الشمس/ تنفس الصبح/ مرايا الفجأة/ الزهور كلها عباد الشمس/ كالينبوع… كالنهر (للأحداث والناشئة)/ على حد تعبير السنونو (الناشئة).

ولأنه شاعر مغموس بماء الشعر فإنّ إجاباته عن أسئلة متواترة وعادية لن يكون أبداً عادياً. فلنر إذاً كيف أجاب عن أسئلة حول الشعر والبدايات والطقوس. وهي الإجابات التي نشرتها مجلة إيرانية ونُشرت ترجمتها في مجلة عالم الكتب المصرية قبل فترة.

فعن ماهية الشعر يجيب الشاعر فيقول: “نخال أننا بحاجة للعقل والمنطق والقواعد والعلوم والمعارف عند الإجابة عن الأسئلة وحسب، بينما طرح الأسئلة أيضاً بأمس الحاجة إلى هذه المعايير. نظن أن الإجابة الصائبة هي وحدها الصعبة بينما طرح الأسئلة الصائبة قد يكون أحياناً أصعب منها بكثير. كيف يمكن السؤال بكل هذه البساطة: ما هو الشعر؟ ما هو الفن؟ ما هو الجمال؟ ما هي الروح؟ ما هو الإنسان؟ ما هو العدم؟ ما هو اللاشيء؟ ما هو الماهو؟ ثمة الكثير من الأشياء لا يمكن تعريفها، مثل الوجود ذاته”.

يُروى أن مجنوناً رمى حجراً في بئر، ولا زال آلاف العقلاء مجتمعين حول البئر لاستخراج ذلك الحجر من دون أن يفلحوا. ذلك المجنون وحده بمستطاعه استخراج ما ألقاه في قعر البئر. فلماذا وقعت القرعة باسمي لاستخراجه، هذا ما لا أعلمه؟ وبالطبع فإني لا أتمتع بعقل كامل، إلا أنني لا أزال أتدرب على الجنون ولم أتخرج نهائياً من مدرسة العقل. وإذن لا يقوى على استخراج ذلك الحجر الكريم إلاَّ أولئك المجانين أنفسهم وإذا تخطينا هذا الحديث، أريد أن أعرف أصلاً ما معنى هذا التجاهل الصوفي الذي يدفعنا لنكون أطفالاً فضوليين أو كباراً متبرمين، نضع قبل كل ما نصادفه عبارة “ما هو” صانعين منه لغزاً، ثم نتطلع بعد ذلك بنظرة متعاقلة سفيهة لأن نسمع جواباً جامعاً مانعاً؟

ثم هو يجيب عن سؤال “نقطة البداية في رحلتك الشعرية” بجواب على قدر من المهارة اللغوية والذكاء: “الحق أنني لا أدري ما هو تعريفكم للنقطة! إذا كانت ذلك الشيء الذي لا طول له ولا عرض ولا ارتفاع، فهذا شيء لم يخلقه الباري عز وجل. وإذا اعتبرتم النقطة محل التقاء خطين، ربما كانت نقطة بدء الشعر منطبقة على محل التقاء خط الخيال وخط العاطفة ـ هذا لو كان للخيال والعاطفة خطوط ـ ثم إنني لا أدري في أي تاريخ وأية ساعة التقى هذان الخطان لأول مرة وقدح منهما شرر الشعر. ربما كان هذان الخطان متوازيين ولن يلتقيا أبداً أو أنهما لم يلتقيا لحد الآن، أو لعلهما خطان متطابقان. ربما لم تكن للشعر نقطة بداية أصلاً، إنما له خط بداية. والإنسان يدرك أنه يقول الشعر حينما يقع على خط البداية، وربما لم يدرك ذلك حتى حينما يكون هناك، إنما في نقطة النهاية فقط يفطن إلى أن الحماقة التي ارتكبها أو الحجر الذي ألقاه في البئر يسمونه شعراً. ولعل الشعر ليست له لا نقطة بداية ولا خط بداية، بل له حجم بداية. وأساساً حينما تكون النقطة لا شيء، يكون الخط أيضاً حاصل جمع اللا أشياء، أي أنه بدوره لا شيء. وربما كان الشعر خطاً بلا بداية ولا نهاية. لأننا لم نر الشعر يوماً يأخذ موعداً مسبقاً من سكرتيرة الشاعر قبل أن يفد عليه. ربما لأن الشعراء ليست لهم سكرتيرات أصلاً، هم أنفسهم “سكرتيرون”، سكرتيرو أنفسهم، أو سكرتيرو غيرهم، سكرتيرو قلوبهم. لا يدخل الشعر فجأة. بل يدخل بهدوء بعد أن يفتح الباب بهدوء ويأخذ الشاعر على حين غرة بحيث لا يفهم الشاعر إلا بعد ذهابه، أن الضيف سار على سجادة الغرفة بحذائه ولم يبق منه إلا آثار أقدامه. الشعر قطار شغّال يزحف من أعماق نفق طويل مظلم. جزء من هذا القطار يبقى مخفياً في العتمة والدخان والضباب. الشعر دهشة وتفتّح. هل بالإمكان أن نطلب من الوردة أن ترسم لنا خطاً بيانياً لأريجها في أوعيتها وشعيراتها منذ كانت برعماً إلى أن تفتحت؟

السؤال الآخر الذي يجيب فيه بالشعر عن الشعر وبكثير من اللعب في مسافات اللغة والجمال خذا السؤال القائل “ماذا ينتابك من مشاعر أثناء نظم الشعر؟”

إذا يرد: “هذا أيضاً سؤال من تلك الأسئلة نفسها؛ لسنا من الراسخين في المنطق والبراهين ولكن يبدو أن ثمة تكراراً يعشعش في هذا السؤال. كيف ذلك؟ لأننا نستطيع إعادة صياغته بالقول: “عندما تشعر أن شعوراً عميقاً ينتابك، فما هي المشاعر التي تنتابك؟” فالشعر هو الشعور وهو التلقي. إنه الشعور بالشعور. والشعر هو الحضور وهو الغياب. الحضور في الذات والظهور في الذات والغياب عن الذات. بأي علم حصولي أو حضوري يمكن إدراك الحضور في الذات والغياب عن الذات؟ من أجل أن يكون للإنسان شعوره، يجب أن يكون قريباً من ذاته إلى أقصى الدرجات، بل ينبغي أن يكون متوحداً بذاته، أي لا يكون إلا ذاته. ولأجل أن يدرك ما هو شعوره في تلك اللحظة يتعين أن لا يكون هو ذاته بل ينأى بعيداً عنها، حتى ينظر لنفسه من الأعلى، ويلمحها من بعيد جالسة تنظم الشعر، ويبقى محدقاً في نفسه من بعيد إلى أن يكتشف ما هو شعوره حينما يكون هذا شعوره. أي يجب أن يكون هو ذاته ولا يكون ذاته في الوقت نفسه، وهذا اجتماع نقيضين على حد تعبير المناطقة.

بالضبط كمن يريد أن يرى كيف يرى حلماً. فهو من أجل أن يرى حلماً يجب أن يكون نائماً، لكنه من أجل أن يرصد نفسه وهو يرى حلماً عليه أن يكون مستيقظاً. أو كشخص يريد أن يرى ما هو الظلام فينير المصباح ليرى الظلام. إنارة المصباح وهروب الظلام شيء واحد!

أو على حد تعبير جلال الدين المولوي الرومي كظلّ يعشق رؤية الشمس فإذا تراءت الشمس لم يكن ثمة ظل: الظلال التي ترنو إلى رؤية النور/ تزول إذا ظهر لها النور

وبالتالي من أجل أن نكون قد أجبنا على سؤالكم، أستطيع القول فقط: “مشاعري أثناء نظم الشعر تماماً كمشاعر شخص ينظم الشعر!”

وهكذا تلاحظون أنّ الحلقة المفرغة قد اكتملت!

فيما يلي بعض المقاطع من شعر قيصر أمين بور من ترجمة حسن حميد:

حلم الطفولة:

في أحلام طفولتي/كل ليلة/يعبر صدى صفير قطار من المحطة/وكأن مؤخرة القطار/لا تنتهي أبداً./ وكأن للقطار ألف نافذةٍ/وفي كل نافذة/أنت الوحيدة التي تلوح بالوداع/وآنذاك /يلتهب الليل /في أطر النوافذ /مع دخان شعرك المنثور في الرياح/على امتداد الطريق المفعم بالضباب/في الدخان والدخان والدخان.

ألَمِيّات:

آلامي /ليست ثياباً لأخلعها/ليست قصائد وأناشيد/كي أعيد صياغتها/ليست صراخا/كي أطلقها من أعماق روحي/آلامي لا تقال/آلامي دفينة./آلامي /لا تشبه ألم أناس زماني/لكنها ألم أناس الزمان /أناس تؤلمهم طيات جلود معاطفهم/أناس تؤلمهم ألوان أكمامهم الباهتة/تؤلمهم أسماؤهم/وتؤلمهم أغلفة هوياتهم القديمة!/ولكنني/كلّ عظام كينونتي تؤلمني/وكل لحظات إنشادي البسيطة./أنا الذي قد تحطم انحناء روحي/وأكتاف كبريائي المرهقة/ومرتكز قلبي دون الملاذ/أنا الذي قد جرحت أكتاف بكائي من دون الأعذار /وسواعد إحساسي الشعري/فأين آلام الجلود /من ألم الصديق.

تدقيق لغوي: حفصة بوزكري

كاتب

الصورة الافتراضية
SuperBlueDOT
المقالات: 0

اترك ردّاً