مدينة أبي – عدائية الوطن وانهزام التاريخ

بطاقة فنية عن الكتاب:

اسم الكتاب: مدينة أبي.
اسم الكاتب: كفى الزعبي.
نوع الكتاب: رواية.
دار النشر: دار الآداب للنشر والتوزيع.
سنة النشر: الطبعة الأولى، 2020.

عن الكاتبة:

كفى الزعبي، أردنية مقيمة بروسيا. ولدت سنة 1965 في الرمثا، وحصلت على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة سانت بطرسبرغ الحكومية للهندسة المدنية. أصدرت أربع روايات بالعربية، ورواية بالروسية  “عد إلى البيت يا خليل”. ترشحت روايتها “شمس بيضاء باردة” لنيل جائزة البوكر لعام 2019.

عن الكتاب:

حينما تنهي رواية “مدينة أبي” سيصيبك دهشة. بداية تلك الدهشة تنبع من النهاية بحد ذاتها، ومن قدرة العمل على الإحاطة بموضوعه من جوانب مختلفة. فكرت طويلاً كيف يمكن اختصار الحالة الشعورية للعمل أو التعبير واختزاله في جملة. وجدت بأن الأقتباس الذي سبق الرواية لصاحبه أدونيس هو الأنسب:

“ورأيت التاريخ في راية سوداء يمشي كمنهزم”

تبدأ الرواية بجملة “سأعود للمضارب“، تلك الجملة التي ستكتشف قيمتها في آخر صفحات الرواية. فتعاودك رغبة في استرجاع جميع الأحداث وجميع النقاط، ومراجعة فهمك ونظرك لها. حتى يخيل لك بأن العمل قد كُتب من نهايته، أو ربما كُتب من منتصفه. ثم تفهم بأنه من الصعب الجزم بالمرحلة التي كتب منها. سرد الرواية حيوي شبيه بدوائر أو خطوط متداخلة ببعضها وأزمنة تسيل في طيات أزمنة أخرى. ثم تجده يقودك إلى نطاقات منظمة، فتغرق في إبداعه وتكف عن محاولة فصل التشابك وتسلم نفسك لبحر السرد.

الراوي نبيل يحدث أمه عن رغبته بالعودة للمضارب وطن والده، الذي دفن هناك على أطراف المدينة. بينما نرى خوف الأم من فقدان ابنها نهائيًا برحيله عنها وغيابها في حزنها وتجرعها للخمور. وينتابك استغراب وانهداش من تناولها للخمور بسلاسة إن حق أنها في مدينة عربية، لكننا نفهم بأنهم في مدينة غربيا التي تشكل المجتمع الغربي بعاداته. حيث لجأ إليها الأب لها بعد اضطهاده سياسيًا، فرحل عن وطنه بجسده وعاش هناك وأسس أسرته.

يكشف لنا السرد عن التعلق الشديد بين نبيل وأبيه، وحالته الشعورية التي تثيرنا لنفهمها، ويتجلى هذا في مشهد الشارع الذي يضج بصوت الفرح والضحك بينما نبيل غارق في اكتئابه وحزنه، الأم المعذبة لرحيل ولدها، ولوحة لسناء والتي قد تبدو في البداية كمشهد عابر. ثم ندرك بأن سناء لغز آخر، وكذلك اللوحة. وستظل الكاتبة تكشف عن تلك الألغاز فتعتقد بأنك فهمت ما ترمز له اللوحة مثلا وما هي قصته مع سناء، اللوحة التي بها امرأة تبدو وكأنها طائر في نزهة، وأي نزهة؟ ولكن ستختلف المعاني والتأويلات في طيات دوائر النص، ولن تعي شيئا إلا في آخر السطور.

نتابع سر مدينة الأب حيث الحروب مندلعة عن آخرها في كل مكان حولها، وتخوف الأم من العالم الشرقي الغريب هناك. وتبرز إشكالية مهمة في الرواية وهي “هنا” و”هناك”، من خلال المقارنات التي يعقدها الراوي في نفسه وفي تمزقه بينهم بشكل مباشر وبشكل خفي طوال الوقت. هو تربي وترعرع “هنا” في مدينة الأم، بينما حكايات الأب تربطه بـ “هناك”، تلك الحكايات العذبة عن جمالية “المضارب” وطبيعتها الخلابة، وتعلق روح الأب بها حتى بعد رحيله الإجباري والهجرة عنها. بل حتى ذكريات طفولته هو القصيرة “هناك” وبيت العائلة الذي ينشب بسببه صراع بين الأب والعم الذي يبغي سرقة حصة أخيه.

وتتجلى لنا طبيعة المضارب طوال العمل مع فهم الراوي لها، حيث اضطهاد المرأة والتضيق على حريتها وعلى حركتها بشكل مفزع كالسخرية من اللباس والاعتداءات اللفظية، ومع الوقت تتحول تلك الإعتداءات لقناعات تتداولها النساء فيما بينهن.

تبرز سناء حبيبة الراوي. فنانة بها غضب على أهل المدينة وأحوالهم، لا تشبههم بل تشبه الراوي، ذلك الذي جاء من “هناك” إلى “هنا”.

تبرز شخصية رئيسية أخرى “المغدور به” وهو مثقف ثائر يمثل جزءا آخر من جوانب الوطن. حيث نادى طيلة حياته بحرية الناس وكرامتهم ودخل السجن عشرات المرات ولم يشعر بفقد حريته وظل يدافع عن الغير. الغير الذي يبرز كمفهوم وإشكالية أخرى في العمل، فما جدوى الدفاع عن غيرك؟
تقود الصدفة “المغدور به” لحضور ندوة دينية. ولما وجد تفاهة وضحالة ما بها رنت منه ضحكة تسببت في إعلانه كافر وتهديده. ثم تم قتله على يد أهل المدينة، وظلت سيرته المتبقية هي سيرة لعنات وإعلان لكفره. قُتل على يد من دافع عنهم، وتوسخت المدينة بدماءه. فتبرز جدوى الدفاع عن ناس يفضح الرجل بأنهم يفقدون للوعي والحكمة، فما جدوى الدفاع عنهم؟ فيتحول الأمر لعبث حين تجد في النهاية بأن حياتك ضاعت على من أفنيت الظهر لأجلهم.

تفصح رواية “مدينة أبي” عن قسوة “المضارب” وتناقضها مع الصورة المتخيلة التي حكاها الأب عنها، فيظن الراوي بأنها جنة فيجد -حين عاش بها- بأنها قطعة من الجحيم.

“النهار حار، مشرب بصفرة الخريف، وأبي لا يجيبني. صمت مطبق، وظل صغير تلقيه شجرة الصنوبر التي نمت على مدار عام ببطء إلى جانب القبر. ولا شيء آخر. لم يتغير شيء خلال الشهر الذي غبته. أبي، أيضًا ينمو في موته ببطء”.

الرواية تسير على مدار فصلين متوازيين، المضارب والمدينة التي لا تعرف البحر. في الفصل الأول نرى مسيرة الراوي وحياته وذكرياته عن أبيه والمغدور به وصراعاته مع عمه وتجولاته في المدينة وعلاقته بسناء. بينما في الفصل الثاني نرى النص الذي يعكف على كتابته. وهو نص كابوسي يبدو وكأنه يوازي مسيرة المغدور به ثم يتضح بأنه يعكس الحالة النفسية والشعورية للراوي عن المدينة، ويبدو وكأنه إنعكاس للحكايات الثلاث: حكاية الراوي وسناء، حكاية الأب، حكاية المغدور به، وما هو إلا ظلهم.

“إن من الأفضل للمرأة بأن تأكل الخراء وأن تسكت على أن تحظى بمسمى مطلقة”.

بتلك الجملة نرى قيودا تفرضها المدينة على سناء التي طلقت من زوجها الشاعر المنافق للسلطة المعادي لموهبتها. يتضح لنا بأن تلك القيود الدينية والسياسية ما هي إلا هموم وقيود واقعنا المعاصر، ونرى الأبطال يسيرون وسطها وتتشابك مصائرهم ويسعون للنجاة. لكن النجاة أمل ومن السهل أن ترسمه، فيصير أثر الاصطدام بقسوة المدينة ووقاعها صعب التحمل على نفسوهم الضعيفة.

في حديث بين الأب والأم، يتضح له بأن مدينة الأم “هناك” مُستعمِرة، وبأنها هي من تسببت في الواقع المرير لـ “هنا”.

“هنا” و”هناك” ليسا ثابتين، فهو ربما يكون “هنا” في المضارب أو “هنا” في مدينة الأم والعكس دواليك. وتبقى إشكالية المقارنة بين تلك المدينتين في نفسه المشتتة الهائمة تتجلى في تشكيله وفي أفكاره المتحررة التقدمية، أمام الثبوت والتخلف الذي يصطدم به في المضارب.

الأم نفسها نشأت في بيئة صعبة، حيث هجرهم والدها وهي صغيرة، وأدمنت أمها الخمر فصارت هي كأنها أم لأمها تعتني بها. ومدينة الأم لا تبالي وباردة كشمسها التي تسطع بخفة عليها، عكس “المضارب” الحارقة سمراء اللون في بشرة أهلها وفي ضباببيتها.

يقبع الراوي في المضارب بحجة حل خلاف البيت مع عمه، الذي يجافي المنطق في صراعه وتمطاله عن حل البيت طمعًا في نهبه كله في بطنه. تبرز صراعات أبناء العمومة والإخوان في المضارب كأنها طقس مقدس. (فمن منا لا يعلم أو لم يعش قصة صراع في العائلة بين أخوين على ميراث وبيت قديم، فأنا من مصر وفي الصعيد حيث أصلي لا يوجد غير تلك القصة كأنها قصة جميع أهل المدينة وفي قدرهم).

لديه عمتان إحداهما متشددة بعض الشيء كما أبنائها، والأخرى لديها ابن متحرر قليلًا، وابن يبدو وكأنه مجنون وليس مجرد متشدد، وابنة تعاني من تضييق إخوتها عليها وعدم قدرتها على العيش بحرية.

تلك العمة التي ستحتضنه كأنه ابنها، وتحكي له عن ذكرياتها وواقع التناقض المرير للمدينة، وفي نفسها غاية منه وغايتها تتضارب مع حبها الصادق له.

ولدى سناء أخان، أحدهما متحرر هو الآخر لحد ما، والآخر نصاب متصعب ومتشدد.

في النص الموازي نرى بطل القصة المتخيل يرى الجميع بنفس الوجه ويصعب تمييزهم، وترشده سيدة متشحة بالظلال. تلك السيدة عايشت مصيره كله، وتقوم بدور الحكيم أو المرشد في الأساطير، حيث يرشد البطل في رحلته المنشودة أو ينقذه أو يصير كرفيق روحي له. يبحث البطل عن فكرة ضائعة وشخص ضائع. يعيش في كابوس لا يمكنه الاستفاقه منه، حتى هي تتعجب وهي العليمة بخبايا القادم. يطارده الناس بلا سبب ويلعنونه، وفي قصته الكابوسية التي هي انعكاس كما قلنا، نستشفي بأن المدينة وأهلها لا يمكلون سوى عدد محدود من الكلمات والأفكار، وطالما صمت فهو لا يبشههم، ولو تكلم سيبرز الاختلاف ويلاحقونه.

نرى هنا إشكالية أخرى تنعكس على المضارب فلو صمت المغدور به لما لاحقه أو قتله أحد، ولو صمت الأب الذي لم يكمل مقاومته كالأول لما اُضطر أصلا للرحيل، لكنه حين صمت وتوقف عن نضاله والكلام استطاع النجاة والهرب من البلاد ونيل بعض الحياة والحرية. الكلام الذي في كل موقف يبين رجعية الأفكار وعدم الجدوى من الاصطدام بالتخلف والتشدد أو التناقش أو التفكير، وبأن تبقى كمسخ تسير بينهم فتفقد نفسك، أو تتكلم فتبقى تحت التراب. لا مفر.

المدينة تفرض مصائر على جميع القابعين بها، بل تشكل أفكارهم، فالعمة المتحررة منغمسة في تقاليد المضارب وتوافق بأن “المغدور به” أخطأ حين ضحك وفتح فمه. حتى ابنة العمة التي كادت تموت لأنها جلست مع ابن عمها، فتلقت قسطا محترما من الضرب من أخوها. واللعنات والقصص الجانبية عن القتل والضرب في حال قول كلمة أو لمسة من رجل لفتاة. ونرى الممنوعات والأفكار تتقدم ومعها قسوة المدينة فيفقد البطل حبه للمدينة ولا يكرهها ولكنه ييأس ويكتئب ويرى هولها، ولا يبقيه ويجعله سعيدًا سوى سناء التي لا يمكنها الزواج منه فتبقى معلقة بحبها له خوفًا من فقدان حضانة الابن، فتحرمهم قوانين المدينة من الارتباط وتحرمهم العادات من البقاء معًا ويعذبهم الحب ويسعدهم، يميتهم ويحييهم.

الراوي يستعجب من أن تحيا المدينة والناس وينسوا “المغدور به” الذي قتلوه. ثم تتوالى الكوارث على يدهم وينسونها بسهولة وينسون ضحياهم. لا تتوقف الحياة في المضارب على أحد من ضحاياها، ويتواصل الدم والبكاء. بينما في القصة المتخيلة يعجز البطل عن سرد مفهوم الحزن، فلا تدور الأرض هناك ولا تسطع الشمس، لا يوجد سوى العتمة، وتفقد اللغة قدرتها على التعبير من الأساس.

ترى القصة المتخيلة والمدينة المعتمة كأنها الانعكاس الحقيقي لكابوسية “المضارب”. “المضارب” التي تتشكل قسوتها في شوارعها، ففي فقرها قد تجد حيوانا متفسخا على الأرض وتجد مجانين كثر وشحاذين، وترى أملا واهما، سراب يحوم حول الجميع. يطلب الجميع النجاة وينسون بأنهم مشاركون في الجريمة، فالجرم هنا والدم يتم بيدهم. ففي البداية نجد اضطهاد الحكومة “للمغدور به”، لكن تتواصل القصة باضطهاد الناس لبعضهم البعض. مات “المغدور به” بسبب مزحة ومصادفة أشبه بمصادفة كونديرا في روايته المزحة، ويبرز هنا الواقع على أنه ليس فقط كابوسي لمن يعيشه -وكلنا نعيشه- بل أيضًا بأنه عبث يدعوا للضحك والبكاء معًا.

واقع “المضارب” المغالي في تشدده الديني وتدينه الزائف الذي يسمح بالقتل باسم الشرف وغيره، والسرقة والنصب، وكل الجرائم التي تتم تحت لوائه. المرأة المعذبة به، والأطفال الذي يترعرعون على قصص عن عذاب القبر تحكى بطرق مخيفة بحجة تدريس الدين لهم، فتبث الرعب في نفسوهم. موت من يدافع عن أهلها وعن عبثية قول الحق، حيث كل شيء يبدو وكأنه حقيقي من كل ما يقال من كذب باستثناء الحقيقة ذاتها.

” وشردت للحظات بسؤالها الذي طرحته ما إن جلست أمامي: ما جدوى أن ينذر شخص ما حياته لإنقاذ أخرين؟ بدا لي سؤالًا يكشف عن إشكالية عميقة. في هذه المرة، لم أقس الأمر بالرجوع للمغدور به أو بأبي، بل قسته بالرجوع إلي أنا، إلى نفسي”.

في المدينة التي لا تعرف البحر نرى كيف ينتهي مصير بطل القصة المتخيل بطريقة سيريالية تعكس الواقع. ونهاية الراوي وسناء وجميع الشخصيات. وفي آخر سطر نعود لنفهم قيمة أول فصل في روايتنا والمقصود بكل كلمة. النهاية التي تضعك في قمة جبل السعادة وتهوي بك للفاجعة. لم أتعجب من تلك النهاية. فقد قرأت من قبل ثلاث أعمال للكاتبة، كل عمل ينتهي بنهاية قوية تعكس حقيقة جديدة للعمل. حقيقة خفية وتجعلك في قمة حزنك ويأسك بعد أن توحدت مع النص بكامل جوارحك.

شيدت كفى جبلا سرديا قويا في “مدينة أبي” يوزاي الجبل السردي السابق لها “شمس بيضاء باردة“. إذ تجعلك تشم الحزن وتذوق طعمه بلغة وبناء سردي محكم. وقد تبدو لك الرواية سوداوية وحزينة. لكنها على عكس “شمس بيضاء باردة” لن تجعلك في أغلبها ترغب في البكاء أو الصراخ من فرط القسوة. حيث ترسم كفى المشاهد في “مدينة أبي” بحب، وبرقة، وبجمالية، فتبرز جمالية المدن في قلب قسوتها وعتمتها، وتبرز تناقضاتها بحرفية شديدة. ربما النهاية هي ما قد تجعلك حزينا، فكرت بأن هل من الممكن أن أتدخل وأغير مصير الشخصوص؟ هل يمكنني أن أجعل سناء تستمتع بالمطر وبنوم سعيد وكذلك نبيل؟ أو هل البطل المتخيل يمكنه أن يظل ينصت للغناء؟

“مدينة أبي” تقف بقوة فلسفية وتحليل نفسي برؤية مختلفة للمدينة والتناقضات بداخلها ومع “هناك”. فنرى الارتباط العميق بالمدينة وجذورها والوطن، ونرى مفاهيم مختلفة عن هوية المدنية وهوية أهلها والمصائر المختلفة.

رواية “مدينة أبي” تتحدث عن مدينة فتتناولها من أقصى ما يمكن تناوله، وقامت كالعادة بمسك فأس وتحطيم الأوثان. أوقعتنا الكاتبة أمام الحقيقة مرة أخرى بقسوة نقدية للمدينة ولجميع الشخصيات. تلك النزعة التي شاهدناها في أعمال سابقة وتجلت قوتها في آخر أعمالها “شمس بيضاء باردة”.

“أنظر للسماء بلا أمل، باحثًا فيها عن اتساع يواسيني. كانت مقتظة بغيوم سوداء وثقيلة جدا لدرجة أن المطر كان ينهال منها. أسمع سناء تقول لي  إن ارتفاع السماء نسبي، وإنه هنا يتهاوى ويطبق على الأرض ويسحقها”.

رواية “مدينة أبي” هي معمار أدبي يقف ويطل علينا بجمال وقسوة ممزوجة، ليحدثنا عن واقع مرير لا مفر منه.

تدقيق لغوي: كوثر بوساحية

كاتب

الصورة الافتراضية
Marwan Mohamed Hamed
المقالات: 0

اترك ردّاً