الفن والفلسفة والحقيقة.

هل يمكن للفن أن يساعد الفلسفة على طرح أسئلة أكثر أهمية؟

أندرو بووي:
أستاذ فخري في الفلسفة واللغة الألمانية، كلية روايال هولواي جامعة لندن، مؤلف: مقدمة قصيرة جدا (الفلسفة الألمانية)، والأبعاد الجمالية للفلسفة الحديثة.

 إن الأشكال السائدة للفلسفة “التحليلية” الأنجلو أمريكية المعاصرة تميل إلى استمداد توجهها من نجاح نموذج العلوم الطبيعية في توليد النظريات التي تمكِّن من التنبؤ بالأحداث والتحكم فيها  في الكون المادي. وفي مواجهة هذا النجاح للعلوم، كانت معضلة الفلسفة تكمن في إنشاء الدور الذي يأخذ بعين الاعتبار قوة العلوم بينما يبرر حق الفلسفة في الوجود.

اقترح مارتن هايدجر استجابة متطرفة لهذه المعضلة، و الذي ادعى في عمله الأخير، وخاصة مقال: “نهاية الفلسفة ومهمة التفكير (1969)؛ أن العلوم الطبيعية قد أصبحت ما كانت الفلسفة تسعى لتكونه، من خلال شرح طبيعة ما هو موجود. 

هذا يعني أن الفلسفة آلت نوعا ما إلى “النهاية”.  وكخليفة للفلسفة يدعو هايدجر للـ”التفكير”، الذي يُعنى ب”عدم الإخفاء”؛ أي حقيقة أن يكون للعالم معنى في النهاية، قبل أن يصبح محلاّ للتنظير وأحكام أخرى. ويربط مثل هذا المعنى بالطرق التي تغير بها الفنون الكبرى علاقتنا بالعالم.

لطالما كانت مثل هذه الآراء مُتجاهلة بشكل كبير في تيار الفلسفة التحليلية، حيث التركيز على نظرية المعرفة وإحياء الميتافيزيقا المعنية بـ”ماهية أنواع الأشياء الرئيسية في الوجود وما الخصائص والعلاقات التي تمتلكها” (تيموثي ويليامسون) نادرا ما تضمَّن التفكيرَ في مدى فشل محاولة إنشاء أسس فلسفية للمعرفة العلمية التي تحدد الطبيعة التي كان عليها عالمنا. و يبدو الاتفاقُ في نظرية المعرفة والميتافيزيقا محليًّا وقصير الامد، على خلاف الاتفاق على العديد من النظريات العلمية الأساسية التي تقوم عليها التكنولوجيا الحديثة.

كيف ينبغي على أحدنا الاستجابة لهذا الوضع؟ لا يجب النظر إلى تاريخ نظرية المعرفة على أنه تاريخ من الأخطاء فحسب: إذ أن لديه آثار حقيقية على طريقة فهم العالم وكيفية تصرف الناس في العالم واستجابتهم له. فلا يزال مفهوم ديكارت الثنائي للفصل بين العقل والعالم المادي مثلا يؤثر على الممارسات والنظريات الاجتماعية في العديد من المجالات.

على الرغم من ذلك يجب النظر لتاريخ نظرية المعرفة من منظور كيفية تكون المعنى في العالم، ذلك المعنى الذي يتغير مع التاريخ. وهذه احدى الأسباب التي ادت الى ان يحتل الفن أهمية اكبر، فيما يخص نوع الفلسفة التي تثير اهتمامي، مما يفعله التفكير فيما يجعل النظريات العلمية حقيقية، أو بناء نظريات الأخلاق، والميتافيزيقا وما إلى ذلك.

لا يعني هذا أن مثل هذا البناء للنظريات لا جدوى منه: بل يجب أن يتضمن تأملاً عميقاً في أهمية الادعاءات التي تنتج عنها في الواقع. تتمثل مشكلة إيلاء المزيد من الاهتمام الفلسفي بالفن في حقيقة أن تاريخ الموسيقى الحديثة -وهو ما يظهر بشكل خاص في التطور السريع للجاز-  يمكن رؤيته من ناحية الطرق التي من خلالها تصير النوتات والأصوات التي لا معنى له في حقبة ما، والتي كانت “خاطئة” بالنسبة لتلك الحقبة، “صحيحة” لعصر آخر.

يمكن ملاحظة بعض الأمور المماثلة في كل الفنون، حيث، عن طريق وضعها في أشكال وسياقات جديدة، كانت فيما مضى مواد ممنوعة أو لا معنى لها، وفي أساليب تعبير وصياغة جديدة، تصبح معايير لتطورات جديدة في الفنون التي تساعد على تأطير كيفية فهمنا للعالم.

ترانا الصورة هنا كجزء أساسي من العالم بطرق تُحُوّل باسم صناعة معنى جديد. و يمكن اعتبار الأساطير والدين كجزء أولي لهذه الصورة، لأنهما يُشركان الناس أيضا في العالم من خلال تعاليم وممارسات أخرى (على الرغم من أنهما لا يشتملان على التغييرات الديناميكية المُمَيِّزة للفن في الحداثة).

تتباين هذه الصورة عن أنفسنا وعن العالم بشكل حاد مع الصورة التي تنتج عن العديد من اعتبارات الفلسفة الحديثة. في الأخير، يتباين النجاح الهائل للعلوم بشكل لافت للنظر مع الهوس الحديث بالشك المعرفي الذي يلعب دوراً في الفلسفة منذ عصر ديكارت. و الافتراض الأساسي في هذه الحالة هو أن هناك فصلا أساسياً بين “العقل” و”العالم” يجب التغلب عليه بواسطة نظرية فلسفية تبرر ما نعتقد أننا نعرفه.

-“إن جذور الشك ليست في  مشكلة ما إن كنا نعرف حقا أي شيء، ولكن في كيفية تعايشنا مع العالم بشكل حداثي”

اقتراحي الذي قد يبدو مستفزاً هو أنه و بالنظر إلى الفشل التاريخي للمشروع الأخير حتى الآن، من المناسب أكثر القول بأن جذور الشك ليست في مشكلة ما إن كنا نعرف أي شيء، وهو ما تقوم العلوم الحديثة بوضعه موضع التساؤل من خلال قدرتها المطلقة على حل المشكلات، حتى لو لم تدحض الشك المعرفي بواسطة نظرية فلسفية، بل بدلاً عن ذلك من خلال سلسلة أوسع من المشكلات المتعلقة بكيفية تعايشنا مع العالم بشكل حديث.

 من منظور رومانسي، يُنظر لفشل محاولة ترسيخ المعرفة في نظرية موجبة كجزء من انعدام وجود أساس أكثر عمومية، يشير إليه نوفاليس وآخرون أحيانا بمصطلح “التشرد”. اذ يعتمد تقدم العلوم وتنظيم المجتمعات الحديثة على أنماط من التشييء والتي تعطي الأولوية للأشكال العالمية على خصائص الأشياء والناس. 

تمكنت العلوم الطبيعية القائمة على الرياضيات والبيروقراطية الحديثة والقانون من تحقيق تقدمات كبيرة في الحضارة، ولكن الثمن هو ما يدعوه ماكس ويبر بـ”خيبة الأمل”. فالقيم التي كانت ترتكز في السابق على أشكال معقدة من التبادل والتفاعل بين الأشخاص أصبحت على نحو متزايد كمية رقمية أساساً. و إن التحول المعني يفتح جميع أنواع الإمكانيات الجديدة لتحسين نوعية الوجود البشري، ومن المهم عدم الاستهانة به.

في نفس الوقت، يثير التحول قلقاً أيضاً بشأن العلاقات النوعية بين الموضوع* والعالم التي يمكن لها أن تُطمس و تتآكل من خلال التشيؤ (تحول العلاقة إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء، تجسيد بسيط ومجرد) و تشير نقاط القلق هذه، على سبيل المثال، إلى الآثار المدمرة نتيجة للتشيؤ على البيئة وعلى حياة الناس. . .

إذن كيف لهذه المسائل أن ترتبط بالأسئلة المتعلقة بالحقيقة والفن؟ السؤال الفلسفي الذي يعنيني ليس الذي يُطرح حول العلاقة بين الحقيقة والمعنى دلالياً، الذي يقود على سبيل المثال إلى نظريات تدعي أن فهم معنى الكلام يكمن في فهم شروط مصداقيته.

يميز هايدغر بين “الحقيقة” التي تعني في سياقها التقليدي”انسجام المعرفة مع الكائنات”، وبين “الإفشاء وعدم الاخفاء”، وتسبق هذه الأخيرة سابقتها الأولى “الحقيقة” في الأولوية: فدون أن تصبح الأشياء جليّة وتامة الوضوح في سياق العالم اليومي، من غير الممكن أن تُطرح أسئلة حول حقيقة الشيء الذي سيصبح جلياً.

إذا افترضنا أن صلتنا بالعالم لا ينبغي تفسيرها فقط من ناحية معرفة ما هو موجود، ولكن يجب أن تشمل جميع الطرق التي تجعل للعالم معنى، و تكشف صوراً مختلفة له، فالموسيقى على سبيل المثال تصنع الإحساس بالعالم الذي ينعكس بوضوح على أولئك المنخرطين في أقسامها المختلفة. وعندما يُنظر إلى الموسيقى كما هي غالباً على أنها لغز فلسفي فعادة ما يكون ذلك نتيجة لمحاولة تحديد ماهيتها. لكن إذا رأينا الموسيقى من منظور المشاركة فيها، فلا تبدو على أنها لغز وإنما لها معناها الخاص، لدرجة أن الكثير من الناس سيجدون صعوبة في العيش من دون هذا المعنى.

نحن عادة لا نهتم بالموسيقى كلغز عندما “نعيشها” كمستمعين أوعازفين أو راقصين، على الرغم من أنه يمكننا تقديم مطالب صارمة فيما يتعلق بـ”الحصول عليها بشكل صحيح”. و هذه إشارة لكيف أن بمقدورنا التفكير فيما يتعلق بالحقيقة في هذا السياق، لأن الممارسة الناجحة للموسيقية تتطلب إحساساً أساسياً مسبقاً بالصحة. يمكن صقل هذا المعنى وتمييزه بلا حدود، ولكن بدونه لن يكون لأي موسيقى أي معنى، حتى لو كان ما يبدو اليوم صحيحاً لم يكن كذلك في الماضي وقد تغير تاريخياً و حتى فردياً في بعض المقاييس (رغم أن تأثير العوامل الاجتماعية يعني أنها ليست “شخصية” بشكل عشوائي).

يمكن للموسيقى أن تضيء العالم لكن ليس بالشرح الموضوعي للموسيقى (كما نقول في علم الأعصاب) فحتى لو كان هذا الشرح صحيحاً، فهو كذلك في بعض النواحي فقط.

يظهر بالنسبة إلي أن مثل هذه التفسيرات خاطئة، عندما يحاولون التقليل من شأن الموسيقى كادعاء ستيفن بينكر أنها “كعكة جبن سمعية” واعتبارها طريقة لتحفيز الدماغ. وما يثير اهتمامي على العكس من ذلك هو تفوق الموسيقى في وصف علاقتنا بالأشياء، مثل الطريقة التي يخلق بها الإيقاع أشكالاً من المعنى في حياتنا.

إن الطرق الخاطئة تصبح صحيحة، في تاريخ الموسيقى نعم يمكن ذلك، ومن ثم تُخلق الأسئلة حول كيفية تصورنا للحقيقة التي غالبا ما كانت الفلسفة تنزاح بها إلى الهامش نوعاً ما، على سبيل المثال: اختزال الحقيقة في مجرد مفهومها الاستدلالي من ناحية الحداثة في الفن، التي تعيش على كفاءته في كل من تحويل ما لا معنى له إلى شيء ذي معنى من جهة، وتشويه الأشكال السائدة للمعنى التي يمكن أن تخفي الجوانب الحيوية للعالم من الجهة الثانية، ولا وجود لنظرية فلسفية حاسمة لما يعنيه هذا، إلا تلك التاريخية التي تخص كيفية حدوث هذا التحول في حالات معينة فقط، فيضيع جوهر ما يلهمه الفن لنا.

ونظرا لأن العلوم تشغل أكثر فأكثر المنطقة التي كانت تشغلها الفلسفة سابقا، فإن نوع الفلسفة الذي لا يسعى فقط إلى اقتراح نظريات بطرق تحليلية يمكن أن يصبح أكثر أهمية للحفاظ على موارد الحس التي لا توفرها العلوم ، لذلك يمكن فهم “فلسفة الفن”، ليس فقط كنوع من الفلسفة التي تسعى إلى تفسير الفن من الناحية المفاهيمية كموضوع له، ولكن أيضا كفلسفة تنبثق هي نفسها من الانخراط في الفن، يمكن القول إن الأخيرة هي إحدى هذه الفلسفات التي ينخرط فيها كثير من الناس بالفعل، وهو أمر منطقي في حياتهم بطرق لا تستطيع أنواع الفلسفة الحديثة الأخرى في كثير من الأحيان القيام به.

إن التوتر بين هذه الأنواع من الفلسفة هو في حد ذاته مظهر من مظاهر القضايا الحاسمة التي يجب التفاوض بشأنها بطرق جديدة، في حين يلعب العلم والتكنولوجيا دورا متزايد الأهمية في حياتنا، سواء في اثراء هذه القضايا او ربما في نفس الوقت تعتيم الموارد الحيوية للمعنى التي لا يمكن للثقافة البشرية أن تزدهر من دونها.

هامش:

الموضوع: هو كائن ذو وعي فريد و/أو تجارب شخصية فريدة من نوعها، أو كيان على علاقة مع كيان آخر موجود خارج ذاته (يُسمّى «شيء»).

يُعد الموضوع مراقِبًا بينما يُعدّ الشيء مُراقَبًا. تتجسّد أهمية هذا المفهوم في الفلسفة القارّية خصوصًا، حيث يُعتبر «الموضوع» مصطلحًا جوهريًا في النقاشات المتعلّقة بطبيعة الذات. تعدّ طبيعة الموضوع أساسيةً في النقاشات المرتبطة بطبيعة التجربة الذاتية ضمن إطار التقاليد الأنجلوأمريكية للفلسفة التحليلية أيضًا.

يقابل الفرق الواضح بين الموضوع والشيء التمييز بين الفكر والامتداد في فلسفة رينيه ديكارت. يعتقد ديكارت أن الفكر (ذا الطابع الذاتي) هو جوهر العقل، وأن الامتداد (شغل المكان) هو جوهر المادة.

المصدر: مقال من العدد رقم 46 من مجلة “The Institute of Art and Ideas” فبراير 2016.

ترجمة: منال بوخزنة وإكرام بن مرايم.

كاتب

الصورة الافتراضية
ikram benmeuraiem
المقالات: 0

تعليق واحد

اترك ردّاً