جيمس جويس وصورة اللامنتمي في شبابه

“لن أخدم:NON SERVIAM: I WILL NOT SERVE:”

الجملة التي قالها إبليس مكلماً الرب.

في 1904 قدم جيمس جويس روايته “ستيفن بطلاً Stephen Hero” إلى أحد الناشرين والذي رد عليه بأنه لا يستطيع نشر شيء لا يفهمه. بعد ذلك سيعود جويس ليغير اسمها إلى “صورة الفنان في شبابه” ويبدأ سنة 1907 بإعادة كتابتها من الصفر. في النهاية ستنشر الرواية بشكل متقطع سنة 1914 بفضل مساعدة الشاعر الأمريكي عزرا باوند Ezra Pound  ونشرت في 1916 بشكل كامل في مجلد واحد.

يقدم جويس في روايته هذه صورته هو في شبابه، فالرواية نوع من السيرة الذاتية التي تنقل لنا حياة جويس منذ طفولته وحتى بدايات شبابه بدقة تامة. تنقل الرواية سيرة حياة ستيفن ديدلاس -جيمس جويس- بكل  التحولات والعواصف التي مر بها منذ طفولته وحتى شبابه وقراراه بتكريس روحه لمحراب الفن والأدب.

عن طريق تصويره لتجربته الشخصية يقدم جويس صورة براقة للفنان الحر وعملية تكونه. فالفنان متمرد وحر ولا مُنتَمٍ وفريد في ذاته، فهو شخص يكرس حياته لفنه ولقيم الجمال والإبداع فقط. وهذا ما نراه في تمرد ستيفن على عائلته وعلى المجتمع وقيمه المنافقة والسلطة الكنسية وكذلك على الحركات الثورية الوطنية الايرلندية. فهو لم يقبل أن يتم حصره أو تقنينه بمسمى أو صفة أو أن توضع القيود والقوانين عقبة في طريقه. كان قلبه يتوق شوقاً نحو السامي والمتعالي، نحو الجمال المطلق.

 “Et ignotas animum dimittit in artes.” تبدأ الرواية بهذه الجملة  اللاتينية من تحولات أوفيد والتي يمكن ترجمتها بـ “وحلق بأجنحته نحو أفاق الفن المجهولة”. وهي جملة تصف أسطورة ديدلاس وولده إيكاروس الشهيرة.

فأسطورة ديدلاس في الأساطير الإغريقية تشير إلى مهندس ونحات أسطوري قديم  قام ببناء عدة أدوات أسطورية وأشهرها هي المتاهة المعقدة التي بناها من أجل الملك مينوس لكي يحبس فيها المينتور وهو مخلوق نصفه بشر ونصفه ثور. ولكن لسبب معين سواء أكان بسبب كرهه لديدلاس أو لأنه لم يرد لمخططات المتاهة أن تُعرف قام الملك بحبس ديدلاس في المتاهة التي قام هو ببنائها برفقة ابنه إيكاروس الذي ساعده في بنائها. هناك قام ديدلاس بصنع أجنحة من الشمع له ولابنه وأستخدمها للهروب.

الرمزية الواضحة في اختيار هذا الاسم هي عملية خلق الفرد لحريته الخاصة وكذلك خلقه لسجنه الخاص. فالفرد هو المسئول عن تحرير ذاته سواء من السجون التي تُفرض عليه بالقوة أو تلك التي يفرضها الآخرون عليه. في الرواية يشبه ستيفن نفسه بالطائر المحلق بالسماء، وتحاول الكنيسة والحركات الوطنية وغيرها رمي شباك صيدهم عليه من أجل إمساكه ولكنه حسب تعبيره سيبقى يراوغهم أبد الدهر.

يستخدم جويس في هذه الرواية أسلوباً فريداً من نوعه في السرد وهو تيار الوعي، والذي يعتبر أداة جديدة بالنسبة لجويس في بدايات القرن العشرين.  تسمح له هذه التقنية أو الأسلوب بنقل خلجات وأفكار بطله بدقة وتحولاتها السريعة بين المواضيع مثلها مثل الأفكار في عقل أي شخص عادي. فأثناء قراءتك هذه المقالة لربما دفعتك أحد الكلمات أو الجمل نحو ذكرى أو فكرة معينة بعيدة عن الموضوع بل ربما شممت رائحة معينة دخلت وعيك وارتبطت بهذه الكلمات، وهكذا..

على الرغم من أن الرواية مسرودة من منظور الشخص الثالث وهو النمط الذي يهيمن على روايات القرن التاسع عشر بشكل عام، إلا أن الشيء الفريد بأسلوب جويس هو التطور الملحوظ في الأسلوب السردي واللغوي الذي يرافق الرواية.

ففي الفصل الأول حيث ما يزال ستيفن طفلاً نلاحظ لغة بسيطة ومباشرة وساذجة فمثلاً يصف والده هكذا: “نظر إليه من خلال النظارات: كان يملك وجهاً مشعراً.” فلا يمكننا اعتبار هذا وصف شخص بالغ بل هو أقرب لوصف طفل، على الرغم من أن المتكلم هنا هو الشخص الثالث والعليم بكل شيء وليس الطفل.

ثم من جديد في المدرسة الابتدائية نسمع عن عقاب شديد يطال عدة تلاميذ بعد الإمساك بهم يقومون بفعل معين، وبعد تخمينات سواء كانوا يسرقون أو يشربون النبيذ يعلن أحد الطلاب أنهم كانوا smugging وهي كلمة جديدة اختراعها جويس في الرواية، فبالنسبة لنا ومن السياق ومن طبيعة العقاب قد تشير إلى فعل جنسي مثلي بين الطلاب. ولكن لأن ستيفن كان يبلغ من العمر 6 أو 7 سنوات عندما سمع هذه الكلمة ولم يكن يعرف معناها، فلم ترتبط الكلمة بذهنه بأي تركيب لغوي منطقي، وهكذا نحصل على وصف غير منطقي. فنحن نرى ونعالج ونتابع الأفكار والمناظر التي يراها ستيفن فقط ومن وجهة نظر ستيفن فقط على الرغم من أن الراوي هو شخصية ثالثة كلية المعرفة ومن المفترض أن ينقل لنا الأحداث بصورة موضوعية ودقيقة.

 الفصل الثاني وهو فترة مراهقة ستيفن، نلاحظ العشوائية والتنقل السريع بين الأفكار والذكريات وكيف لكلمة أن تنقل  سرد رواية، لنجد أنفسنا نستمع لذكرى معينة قبل عدة سنوات، ثم يعود ليقفز من جديد بتتابع متشابك لكثير من الأفكار والتخيلات. وسبب ذلك أن الفترة التي تعالجها الرواية في ذلك الفصل هي بدايات المراهقة بفوران الهرمونات والتخيلات التي تهاجم الفتى من كل حدب وصوب وتدفع عقله في دوامة سريعة. ونحن على الرغم من كوننا في المركز نراقب هذه الدوامة تدور من حولنا، إلا أننا نصاب بالإعياء نتيجة الصور المتلاحقة والمتداخلة في بعضها البعض.

 بعد قضاء هذه المدة يصبح السرد أكثر ثباتاً وقوة وتعقيداً في نهاية الرواية حيث قد نلاحظ أن تنقل فكر ستيفن من فكرة إلى أخرى يقل ويصبح  أكثر حذراً وأكثر منطقية ويركز على جانب واحد، ولذلك نجد ستيفن في النهاية يخوض نقاشات جادة وفلسفية عن الدين والعائلة والفن والسياسة.

إن شهرة هذه الرواية والمكانة التي ثبتها جويس لنفسه بهذا العمل ترجع إلى تمكنه شبه المطلق من أداته الجديدة هذه –تيار الوعي- فهو يقدم جميع خلجات وأفكار ورغبات البطل ديدلاس وفي نفس الوقت يقدم لنا عن طريق السرد من منظور الشخص الثالث وصفا حيًّا وموضوعيا للواقع.

ربما هذا هو سبب تسمية الرواية ب Portrait of the Artist as a Young Man فعلى الرغم من أن المترجم العربي الذي نقلها قد حولها إلى “صورة الفنان في شبابه” فكلمة صورة هي المناسبة في الترجمة بصورة عامة ولكن في لغتنا العربية كلمة “صورة” تفتقد أحد المعاني المهمة لكلمة Portrait وهي اللوحة. فنحن نعرف عن الصورة أنها تنقل الواقع كما هو بدقة وكلما زادت دقتها كانت أفضل، ولكن البوتري Portrait أو اللوحة نعم قد تكون نقلا واقعيا وموضوعيا أيضاً عند رسم صورة شخص أو منظر طبيعي، ولكن لا يمكن نسيان أنها الصورة التي يراها المصور في رأسه، فتخرج ومعها جزء من روحه. فهو لا ينقل الواقع الموضوعي كما هو، بل ينقله كما يراه وكما يحسه. فلوحة لمنظر طبيعي يرسمها شخص مكتئب تختلف عن صورة يرسمها شخص متفائل.

فهذه الرواية على الرغم من أنها رسم موضوعي لحياة ستيفن وتكونه لكي يصبح الفنان المتمرد المستقبلي فهي لا تخلو من إسقاطات  الكاتب نفسه –وهو ستيفن البالغ- على هذه الصور. هذه الإسقاطات ليست شخصية وفردية جداً لكي تخلق عالما منفصلا عن العالم الخارجي لا يمكن لأي أحد أن يرتبط به سوى كاتبه، بل هي إسقاطات تنقل لنا العالم الخارجي بواقعية كما هو عليه ولكنها تركز على مركزية ستيفن ديدلاس ككونه المصدر الرئيسي لهذه الانطباعات والذكريات، مضفية على الواقع لمسة أو لمحة جويسية.

تخبر هذه اللوحة أن هذا هو العالم الذي عشتم فيه كما هو من دون تغيير ولكن لا تنسوا أنني أنا هو الخالق والمؤلف لهذه القصة وهذه نظرتي أنا وهذا أسلوبي الخاص.

إن استخدام جويس لكلا هاتين الأداتين، تيار الوعي، والسرد من منظور الشخص الثالث مكنه من أن ينقل وبشكل دقيق عملية تكون الفرد اللامنتمي وعملية تمرده على المنظومات التي تحاول تقييده. فهي تنقل التعارض ما بين العالم الواقعي والفكر الفردي للشخص.

 فذات الفنان كما يصورها جويس تنشأ عن طريق التمرد والفردية والوقوف أمام السلطة، سواء أكانت الدولة، أو الكنيسة، أو العائلة. تيار الوعي ومنظور الشخص الثالث كما يستخدمه جويس لنقل الواقع الموضوعي والتداعيات الفكرية لهذا الواقع على عقل الفتى الشاب في نفس الوقت هو الأداة المناسبة لتسليط الضوء على الكيفية التي يخلق بها الفنان ذاته الخاصة في مواجهة القوى الاجتماعية المختلفة التي تحاول فرض ذاتها عليه.  فهو يقول في حوار مع صديقه:

إن الروح تولد (في) البداية  في مثل هذه اللحظات التي أخبرتك بها. إن مولدها بطيء وغامض، أكثر غموضاً من مولد الجسد. وحين تولد روح إنسان في هذا البلد فإنهم يلقون عليها الشباك ليمنعوها من التحليق. إنك تحدثني عن الوطنية واللغة والدين. إنني  سأحاول أن أفر من هذه الشباك.

 يصور لنا جويس عملية تكوين الفنان أو نشوء الفرد اللامنتمي، سواء أكانت هاتان الصفتان متلازمتان أو لا عن طريق التركيز على التناقض والتنافر ما بين الواقع المفروض على الفرد من قبل الأنظمة المختلفة وبين الروح التحررية لذلك الفرد. فالفرد لا يكون ذاته بذاته فقط، فهو لا يصبح فنانا فقط لأنه أراد أن يكون فنانا-على الرغم من أن هذا جزء مهم في الفنان وهو إرادته الخاصة وتوجهه نحو الفن-، فحتى هذه العوامل التي تحاول قمعه وقتل روحه مثل العائلة أو الدين أو الحكومة تسهم بشكل أو بآخر في تكوين روحه الفنية. إنها تمنحه القفص الذي عليه أن يتمرد عليه ويكسره لكي يحلق نحو الأعالي.

ويسلط جويس خلال الرواية مختلف الأنظمة التي تهيمن على روح ديدلاس الصغير والتي سيتحرر منها في النهاية من أجل خلق ذاته الخاصة.

 ففي البداية نلاحظ البيئة النظامية والسلطة العائلية في الرواية فنرى ديدلاس مختبئاً تحت الطاولة حيث تهدده كل من والدته ومربيته دانتي:

O, Stephen will apologize.

 Dante said: —O, if not, the eagles will come and pull out his eyes.

— Pull out his eyes,

 Apologize,

 Apologize,

 Pull out his eyes.

Apologize,

Pull out his eyes,

 Pull out his eyes,

 Apologize.

فعلى الرغم من الطبيعة الساخرة التي يضيفها جويس على هذا التهديد بتحويله إلى شيء أشبه بالأغنية أو أنشودة كنوع من التمرد أو رسالة عن عدم خوفه وسذاجة هذا التهديد. يمكن تصور هذا المشهد أشبه بأغنية مرعبة تطارد ستيفن طوال حياته وتترك هذه الكلمات وقعا مرعبا في قلبه.

فهذه إحدى طرق جويس الكثيرة والتي عن طريقها  يلقي عدة مشاهد أو أحداث يمكن تفسيرها بطرق مختلفة من قبل القارئ. فالقارئ عليه أيضاً أن يكسر سلطة الكاتب ويتمرد عليها بمعنى ما ويخلق معناه الخاص في بعض الأماكن، مثل كلمة smugging المذكورة أنفاً، والتي قد يرى قارئ آخر أنها تعني شيئا ما مختلفا تماماً عن المعنى الذي اقترحته. فنعم عزيزي القارئ هذه رواية جويس وهذه قصة حياته ولكنه لا يملك سلطة عليك مثلما لا يملك الواقع سلطة على جويس، لا يمكنك تغيير أحداث الرواية ولكن يمكنك أن تقرر الكيفية التي تقرر تفسيرها بها.

 بعد ذلك يدخل ستيفن المدرسة ونلاحظ من البداية العزلة التي يعيشها وسخرية الطلاب وتنمرهم عليه، ولكن رغم ذلك يحافظ ستيفن على نظام أخلاقي معين بينه وبين الطلاب إذ يرفض أن يشي بالطالب الذي دفعه في بركة الماء.

في هذه المدرسة الابتدائية الدينية المرموقة ينشأ أول صدع ما بين ديدلاس والكنيسة. ففي أحدى الأيام يأتي أحد المدرسين ويعاقبه بالضرب على الرغم من أن ديدلاس لم يقم بشيء خاطئ ورغم محاولته شرح هذا الشيء للأستاذ. فجويس يصور لنا ديدلاس منعزلاً منذ الصغر مشغولاً بأفكار عشوائية كعما يوجد خلف الكون وغيرها. وكذلك بعده عن زملائه ولكن ليس بمعنى خيانته لهم بل بمجرد تكوينه لذات منفصلة عنهم وغير مرتبطة بهم.

وفي الفترة التي تليها ينتقل ديدلاس إلى مدرسة جديدة حيث يصبح ممثل الصف والطالب المميز ويكوّن صداقات ولكنه يبقي على مسافة آمنة من الجميع مستغرقاً في تأملاته الخاصة، وكذلك تمثل هذه الفترة فترة المراهقة والفوران الجنسي لديدلاس وبداية المأزق المالي الذي يعانيه والده مما يدفعه للبحث عن ذاته وشخصيته لكي ينتهي به الأمر ملبياً طلبات جسده في أحضان بائعة هوى.

في هذه الفترة لا يبدأ ديدلاس بالتمرد، وإنما بالتفكير والوعي بالعوامل التي تشكل حياته. فهو يدرك العوامل التي تؤثر على حياته وترسم مسار حياته ويبدأ بمقاومة هذه الضغوط في سبيل تكوين شخصية الخاصة. ففي مشاجرة يخوضها مع عدد من الفتية حول من هو أفضل الشعراء يهاجمه الأولاد  ويستفزونه ولكنه يترفع عن الرد عليهم مفكراً:

ولم تغْرِ ستيفن روح الزمالة المشاغبة التي لاحظها مؤخراً في غريمه بالخروج على ما تعوده من الطاعة الهادئة. ولم يثق في هرج هذه الزمالة ومرجها وتشكك في إخلاصها، تلك الزمالة التي تبدت له إرهاصاً مؤسفاً لطور الرجولة. وكانت مسألة الكرامة التي أثيرت هنا- ككل المسائل  المشابهة- تافهة بالنسبة له. وبينما كان ذهنه يتابع خيالاته الخفية، ويتحول في تردد عن هذه المتابعة، سمع من حوله أصوات أبيه وأساتذته يحثونه على أن يكون جنتلماناً فوق كل شيء ويحثونه على أن يكون كاثوليكياً طيباً فوق كل شيء. وبدت هذه الأصوات جوفاء في أذنيه الآن. وحين افتتحت صالة الرياضة سمع صوتاً آخر يحثه أن يكون قوياً ورجلاً مكتمل الصحة، وحين بدأ الإحساس بحركة اليقظة القومية في المدرسة أمره صوت آخر أن يكون مخلصاً لبلده ويساعد على رفع راية لغتها وتقاليدها. وكما تنبأ هو، ففي مثل هذا العالم الدنيوي، يمكن أن يأمره صوت دنيوي أن يساهم بعمله على الارتفاع بحالة والده المنهارة؛ وفي نفس الوقت، يحثه صوت رفاق المدرسة أن يكون فتى دمثاً، يحمي الآخرين من  اللوم أو يتوسط من أجلهم، ويبذل جهده للحصول على إجازات للمدرسة. وقد أدى طنين كل هذه الأصوات الجوفاء به إلى أن يتوقف في تردد عن متابعة هذه النداءات. كان ينصت لها فترة، (لكنه) ما كان (سعيداً) إلا حين يكون قصياً عنها، بعيداً عن متناولها، وحيداً أو في صحبة رفاقه الوهميين.

 بعد ذلك يصبح الجنس مسألة روتينية لديدلاس المراهق ومكررة كثيراً. ثم يحضر طقسا دينيا اعتياديا يقام في الكثير من المدارس الدينية وهو مخصص لدفع الطلاب لأن يختلوا بنفسهم مع الرب لكي يفهموا رسالته الشخصية لهم ويحددوا حياتهم. وعند استماعه لهذه الخطبة  المليئة بتذكيرات بجهنم والمعاصي والشيطان والخطيئة والعقاب الإلهي وغيرها، يراود ديدلاس شعور قاهر بأن الخطبة بأكملها موجهة نحوه بسبب المعاصي التي قام بها ولاستمراره بالقيام بخطاياه وعدم رجعته للكنيسة، وهكذا تبدأ عملية التوبة والعودة نحو الكنيسة وتكفيره عن ذنبه.

تمثل هذه الفترة الإيمانية بداية تكوين ديدلاس لذاته فهو من يدفع ذاته نحو الغوص في الدين وبشكل متطرف إلى حد ما فنلاحظ العقوبات القاسية والمتطرفة التي يفرضها ديدلاس على ذاته تكفيراً عن ذنبه فهو يقوم بتطبيق كفارات على عينيه وأذنيه ويديه وأنفه ولسانه.

والكفارات هي نظام من العقوبات التي يفرضها المرء على ذاته بهدف التكفير عن ذنوبه والتقرب من الرب فمثلاً منع ديدلاس نفسه من الغناء والصفير وأجبرها على شم روائح مقززة وغيرها. ثم بعد ذلك يبدأ إيمان ستيفن بالتراجع إذ تتحول طقوسه الدينية من أفعال روحية بغرض التكفير إلى مجرد روتين يومي.

 نتيجة التقوى والإيمان الذين يبديهما ديدلاس يعرض عليه مدير المدرسة في نهاية العام أن يدخل المدرسة الكنسية لكي يصبح قساً. هنا يجد ديدلاس نفسه في مفترق طرق وهو تكريس نفسه للدين الذي لم يعد متعلقاً به بشكل قوي وبين دخول الجامعة وتكريس نفسه للفن.

يقرر ستيفن رفض العرض ودخول الجامعة وتكريس نفسه للفن، في نهاية هذا الفصل يسير ديدلاس على الشاطئ مفكراً في قراره ويرى امرأة واقفة في الماء، امرأة شديدة الجمال ولها قدمان شديدتا الرقة كما لو أنها أقدام طائر.

ينظر ديدلاس إلى جمالها الخلاب ويعتبرها إشارة لانتصار قراره الفني. فهو لم ينظر إليها نظرة دينية باعتبارها أداة جنسية لإغرائه للوقوع في المعصية ولم ينظر إلى هذا اللحم العاصي بشهوة، بل نظر إليها كونها شيئاً جميلاً بذاته كمثال للجمال غير المبالي بالجنس ولا يهدف إلى تسليع الجسد وتحريمه بل فقط لتقدير منظره الجميل. نظر إليها  كطائر محلق بعيداً مثل روحه الفنية الحرة التي تحلق نحو المجهول.

الفصل الأخير والذي يمثل الفنان اللامنتمي في بداية تكونه وتمرد ديدلاس على الكنيسة والعائلة والوطن وسعيه لمغادرة الوطن نحو أوربا ساعياً وراء فنه الخاص. وكذلك جعله الفن كبوصلته الأخلاقية التي يسيّر حياته عن طريقها. رافضاً النفاق الديني والسياسي الذي كان يسيطر على ايرلندا في تلك الفترة، ورافضاً محاولة عائلته تقييدَه وتحجيمه. في إحدى المقاطع يصف الراوي ستيفن قائلاً:

لقد خرجت روحه من قبر الطفولة، وهي تنضو أكفانها. أجل! أجل! أجل! سوف يخلق في فخر من حرية روحه وقوتها، مثلما فعل الصانع العظيم الذي يحمل اسمه، شيئاً حياً، جديداً، سامياً، جميلاً، لا يُحس، لا يفنى.

هكذا اعتبر ديدلاس وحتى جويس فيما بعد نفسه منفياً طواعية من أرضه. مشرداً في الأرض باحثاً عن حريته الذاتية. فهو عاجز عن العيش في بيئة تقمعه وتقوّمه باستمرار. رفضه لهذه القيم يدفعه في نهاية الرواية للدخول في جدالات مع أصدقائه حول الدين والحركات الثورية والعائلة.

في هذه الجدالات يبين رؤيته حول توقه للحرية المطلقة حتى لو كانت تعني عيشه وحيداً ومن دون أصدقاء أو نظام اجتماعي يدعمه، حراً لكي يقوم بأخطائه بذاته ويعيش دون قيد وتوجيه من الآخرين. أن يعيش حياة مكرسة للفن ومبنية على الفن متجاهلاً جميع القيم الأخرى التي تحاول فرض ذاتها عليه، هذا هو هدفه ومسعاه، متحملاً كافة المسؤوليات التي يلقيها عليه الوجود حيث يقول:

لقد جعلتني أعترف لك بمخاوفي. ولكني سأخبرك أيضاً عما لا أخافه. إني لا أخشى أن أصبح وحيداً أو أن أزدري أو أهجر ما يجب علي أن أهجره. كما لا أخشى أن أرتكب خطأ، ولو كان خطأ كبيراً، خطأ يدوم العمر كله، وربما كان دوامه دوام الأبدية أيضاً.

هذه هي صورة الفنان، هذه هي صورة اللامنتمي. إنه شخص كرَّس نفسه لتكسير القيود محلقاً بسذاجة وشجاعة نحو الشمس، متَّبعاً ضميره وأهواءه ونزعاته الأخلاقية. الفنان هو شخص يكرِّس ذاته لفنه، ولقضيته، لربما تكون قضيته قضية جمعية وتدفعه للارتباط بالآخرين. فقد يكون فنه دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا، ولكن رغم ذلك يظل الفنان يتبع حياته عن طريق تكسيره للقيود الموضوعة عليه وبناءه عالمه الخاص.

قال كرانلي: بقية ما قلته؟ أجل أذكره.  تكتشف نمطاً للحياة أو للفن تستطيع روحك بواسطته التعبير عن نفسها في حرية غير مقيدة.

إنني لن أخدم شيئاً لم اعد أؤمن به سواء كان ذلك منزلي، أو بلدي أو كنيستي. وسأحاول أن أعبر عن نفسي في الحياة أو في الفن  على أكثر الأشكال حرية وكمالا.

نحن نحتاج للمزيد من الفنانين، نحتاج للمزيد من اللامنتمين، لأشخاص لديهم من الشجاعة ما يكفي لكي يكسروا أكبر عدد ممكن من القيود. نحن نحتاج لبناء منظومات قيم بعيدة عن المنظومات القمعية الحالية. وهذا ما أدركه جويس وهرمان هسه ونيتشه وغيرهم الكثير ممن خلقوا منظومتهم الأخلاقية والقيمية الخاصة. قد يكون فكرهم غير مكتمل وغير صحيح بشكل عام ولكنه يبقى حراً. ولو كانت هناك فضيلة واحدة للإنسان لكانت أنه حر.

تدقيق لغوي: منال بوخزنة.

كاتب

الصورة الافتراضية
Sajjad Thaier
المقالات: 0

اترك ردّاً